الطفولة ليست دائمًا فترة سعيدة، خاصةً لأولئك الأطفال الذين يجدون أنفسهم مجبرين على العيش بعيدًا عن أحد والديهم أو كليهما. بعد تدهور العلاقة الأسرية، يكون الطلاق هو الحل الأخير الذي يضع حدًا لفترة طويلة من الخلافات بين الأبوين، مما يؤدي إلى تغير كبير في حياة الأبناء وترك أثر سلبي عميق في نفوسهم.
لكن معاناة أبناء المطلقين لا تقتصر على العيش مع أحد الوالدين فحسب؛ فهم أيضًا يواجهون نقصًا في الرعاية الاجتماعية والحماية القانونية. ففي اليمن، وعلى عكس العديد من دول العالم، لا توجد محكمة خاصة بشؤون الأسرة تتعامل مع قضايا هؤلاء الأطفال بشكل شامل، ما يعرضهم لخطر التشرد والاستغلال، أو يجعلهم أدوات يستخدمها أحد الأبوين للضغط على الآخر بطرق تضر بهم.
أداة انتقام
تسنيم، طفلة تحولت إلى وسيلة في صراع والديها. والدها منعها من الالتحاق بالمدرسة. "هذا هو العام الدراسي الثاني الذي تُحرم فيه تسنيم من التعليم. حاولت تسجيلها في المدرسة العام الماضي، لكن المديرة طلبت شهادة الميلاد. أبلغت والدها، لكنه اشترط أن أعود إليه مقابل السماح لها بالدراسة، ولا يزال متمسكًا بشرطه حتى الآن"، تقول والدتها.
هذه ليست المرة الوحيدة التي يستخدم فيها والد تسنيم ابنته للضغط على والدتها. بعد أن قطع نفقتها، اضطرت والدتها للبحث عن عمل: "وجدت وظيفة في محل لبيع الملابس النسائية بالقرب من منزلنا، وعندما علم والدها بذلك، جاء وأخذها لزيارة جدّيها. ثم اتصل بي وأخبرني أنه لن يعيدها إذا لم أترك العمل"، تقول.
يشرح أستاذ علم الاجتماع، عبد الكريم غانم، في حديثه لـ"يمن فيوتشر" الطرق التي تحوّل الطفل أداة للصراع، "غالبًا ما يلجأ أحد الأبوين إلى استغلال الأطفال للضغط على الطرف الآخر أو الانتقام منه. قد يشمل ذلك إهمال الأطفال، تقصير الرعاية، أو حتى تجويعهم. كما قد يتم استغلالهم من قبل الأسرة التي يعيشون معها للقيام بأعمال شاقة أو خطيرة، مما يؤدي إلى تركهم للدراسة."
يضيف غانم أن الطرف غير المحتضن للأطفال قد يتعمد التقصير في واجباته تجاههم، خاصة من ناحية الإنفاق. هذا يزيد من الأعباء على الأسرة التي يعيش فيها الأطفال، ما يحد من قدرتها على تلبية احتياجاتهم الأساسية مثل الغذاء والرعاية الصحية. بالتالي، تتدهور الصحة النفسية للطفل وتصبح قدرته على التكيف الاجتماعي ضعيفة.
إحصائيًا، لا تتوفر أرقام حديثة عن نسبة الطلاق في اليمن، لكن الحالات تتزايد بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية. وفقًا لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يعاني 82.7% من اليمنيين من فقر متعدد الأبعاد، مما يؤدي إلى تصاعد معدلات الفقر والانفصال الأسري.
التشتت والضياع
يُعد تشتت الأطفال من أخطر الآثار السلبية للطلاق، وتزداد المشكلة تعقيدًا عندما يبدأ كل من الأبوين حياة جديدة بعد الانفصال دون مراعاة لمصير الأطفال، الذين غالبًا ما يصبحون في حالة ضياع، كما في حالة الطفل وليد (اسم مستعار) الذي ظل يبحث عن مكان يستقر فيه بعد ارتباط والدته مجددًا، فانتقل للعيش مع والده. لكن زوجة أبيه رفضت وجوده، ما دفعه للانتقال بين منازل أقاربه. تقول عمته: "ذهب إلى منزل أخي الأكبر، قبل أن يقرر العيش في منزلي. كان يأتي متأخرًا إلى المدرسة ويعود في أوقات متأخرة. وعندما تحققت من المدرسة، أخبروني أنه لم يحضر منذ أكثر من شهر. وعندما واجهته، غادر المنزل ليعيش مع صديق له. بعد أسبوعين، أبلغني أنه ذاهب إلى الجبهة."
أيًا كانت الأسباب التي تدفع الأبوين إلى الطلاق، فإن الأطفال هم الأكثر تضررًا، إذ ترافق هذا القرار تبعات سلبية تؤثر على حياتهم بشكل عميق.
آية خالد، رئيسة منصة "إكسير" للطفولة، تقول إن "60% من الأطفال الذين يتلقون دعمًا نفسيًا من إكسير يعانون من مشاكل نفسية، معظمها ناتجة عن الخلافات الأسرية والانفصال بين الزوجين. أبرز ما يواجهه هؤلاء الأطفال هو التوتر الناتج عن الصراع المستمر بين الأبوين."
توضح آية، في حديثها لـ"يمن فيوتشر"، أن "البيئة غير المناسبة التي تسبب الخوف والتوتر للطفل تخلق لديه شعورًا بالحرمان وكرهًا للبيئة التي يعيش فيها. هذا ما يدفع الطفل إلى البحث عن ملاذ آخر، مثل منزل الجد، بحثًا عن الأمان والهدوء. وعندما يصل الطفل إلى هذه المرحلة، يكون قد دخل في أزمة عاطفية حادة."
تبعات نفسية خطيرة
تنعكس الخلافات الأسرية بشكل مباشر على نفسية الطفل، خاصة عندما يشهد المنزل مشادات كلامية وصراخًا. أدهم، البالغ من العمر ست سنوات، كان يعزل نفسه ويبكي في أحد أركان المنزل عند حدوث خلافات بين أبويه قبل طلاقهما. تروي والدته: "في إحدى المرات، أثناء نزاعنا على حضانة الأطفال، حضر والد أدهم محاولًا أخذهم بالقوة، مما أدى إلى شجار عنيف بينه وبين أخي. خلال هذه الفوضى، كان أدهم يصرخ بشكل هستيري، ثم فقد القدرة على النطق. أخذته إلى المستشفى، لكن الفحوصات كانت سليمة، فوجهني الطبيب لعرضه على أخصائي نفسي."
خضع أدهم للعلاج النفسي والجلسات، واستعاد قدرته على الكلام، ولكن والدته تلاحظ أنه لا يزال يخشى الأصوات العالية، بما في ذلك صوت التلفاز.
تقول الدكتورة فاطمة عدلان، عضو الجمعية اليمنية للطب النفسي: "هناك طلاق صحي وطلاق غير صحي مدمر، يؤثر على نفسية الطفل وعلاقاته الاجتماعية. الطلاق غير الصحي قد يؤدي إلى التبول اللا إرادي، اضطرابات النوم، التأتأة، اضطرابات في اللغة، وقد يتطور الأمر إلى اضطراب الاكتئاب أو القلق واضطرابات أخرى في الشخصية، عادة ما تكون ناتجة عن الصراع الأسري."
تقول الدكتورة فاطمة عدلان: "حرمان الطفل من البيئة الأسرية المتكاملة التي يعيش فيها أقرانه قد يسبب له مشاعر غيرة وعقدًا نفسية تمتد على المدى البعيد. يصبح الطفل عنيدًا وعصبيًا، غير قادر على التعبير عن مشاعره السلبية، مما يؤدي إلى نوبات غضب غير مبررة، وميول متزايدة نحو السلوك العدواني أو حتى السلوك الإدماني. في الحالات القصوى، قد يصل الأمر إلى محاولة الانتحار."
ضعف الرعاية القانونية
في اليمن، الطلاق غالبًا ما يتحول إلى صراع معقد، وفقًا للمحامية شيماء القرشي، "لا توجد لدينا محاكم خاصة بالأسرة، وتُدار قضايا الطلاق في محاكم الأحوال الشخصية، وهي جزء من المحاكم الابتدائية. هذه المحاكم مثقلة بالقضايا التي تشمل كل ما يتعلق بالعلاقات الأسرية والزوجية، من الطلاق إلى النفقة والرضاعة. القضاة ينظرون في 25 إلى 35 قضية يوميًا، مما يفوق قدرتهم على التعامل مع كل حالة بشكل ملائم."
تضيف القرشي لـ"يمن فيوتشر" أن هذا الضغط القضائي يعيق النظر في قضايا الأطفال من الجوانب النفسية والاجتماعية، حيث يتم الفصل بين الزوجين دون أي توعية أو حماية للأطفال من آثار الطلاق. "ينبغي أن تتوفر محاكم متخصصة في شؤون الأسرة، بفروع في كل المحافظات، لتتيح فرصة الصلح بين الأزواج قبل اتخاذ قرار الطلاق، في محاولة للحفاظ على استقرار الأسرة"، تقول.
صراع اليوم، كابوس الغد
تشير الدكتورة فاطمة عدلان إلى أن آثار التفكك الأسري لا تقتصر على الحاضر، بل تمتد لتؤثر على مستقبل الطفل، "عندما يكبر الطفل، قد يعيد إنتاج ما شهده من صراع بين والديه في علاقاته الشخصية، ويعتمد الأساليب الخاطئة نفسها في التعامل مع شريك حياته."
تضيف، "قد يتسبب الطلاق أيضًا في خلق عقدة من الزواج لدى الأبناء، أو يدفعهم إلى الانخراط في سلوكيات خطيرة مثل الإدمان"، مشيرة إلى أن "الفتيات اللواتي نشأن في بيئة أسرية مضطربة، فقد يبحثن عن رجل بديل ليملأ الفراغ العاطفي الذي خلفه غياب الأب."