يستعرض هذا التقرير معاناة ثلاث صحفيات من غزة، بسبب انقطاع الاتصالات والإنترنت خلال الحرب، وتأثير ذلك في عملهن وتواصلهن مع ذويهن، خاصة مع استمرار شدة القصف.
"لا إنترنت ولا لابتوب (جهاز الحاسوب المحمول)" هذا ما ذكرته الصحفية -الناجية من الحرب كما تصف نفسها- دعاء فايز، التي تعمل في مجال الصحافة منذ سبع سنوات، محررة ومنتجة قصص فيديو؛ فهي خسرت عملها مراسلة صحفية لعدة مواقع منذ بداية الحرب.
تروي دعاء معاناتها في الحصول على الإنترنت، بعدما قطع الجيش الإسرائيلي خطوط الاتصالات منذ بداية الحرب على قطاع غزة، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بالإضافة إلى فقدانها للابتوبها الخاص بسبب القصف.
كانت دعاء تعيش حينها في مخيم جباليا، قبل النزوح مع عائلتها إلى المنطقة الوسطى؛ فهناك لم يكن لديها أيّ إمكانيات للعمل؛ لأن عملها محررة يعتمد على الإنترنت، وانقطاعه سبّب لها معضلة كبيرة، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة بسبب الحصار والحرب. كما أنها مصدر الدخل الرئيسي لعائلتها، بعدما فقد أشقاؤها عملهم في شركات خاصة بمدينة غزة.
بالتزامن مع المعارك العسكرية على قطاع غزة، غالباً ما تنهمك الصحفيات في العمل إلى جانب زملائهن الصحفيين على مدار الساعة؛ لنقل الأخبار وإنتاج التقارير السياسية والقصص الإنسانية. لكن في حرب غزة الأخيرة، توقف العمل، وباتت جملة "فش نت" الأشهر على لسان العاملين في مجال الصحافة والإعلام.
فمنذ بدء الحرب على غزة، قصف الجيش الإسرائيلي أعمدة الإنترنت وشركات الاتصالات، فعزل سكان غزة عن العالم، وبقيت أعداد قليلة من الصحفيين تبُث الأخبار عبر شرائح "السلكوم" الإسرائيلية، المتصلة بالإنترنت، أو عن طريق "الشرائح الإلكترونية" التي تسمح بالاتصال من دون الحاجة إلى استخدام شريحة اتصال (سيم) تقليدية.
وبحسب ميثاق حقوق الإنسان، يُحظر قطع الاتصال بين الناس، والإنترنت يدخل -بطبيعة الحال- ضمن أهم وسائل الاتصال، وأيّ مساس بهذا الحق يُعدّ انتهاكاً لحقوق الإنسان.
وفي هذا الشأن، أصدر مجلس حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة، قراراً عام 2016، يدين فيه التدابير الرامية إلى المنع المتعمد أو عرقلة نشر المعلومات والوصول إليها على شبكات الإنترنت.
كانت دعاء فايز تبذل جهداً كبيراً، من أجل القيام بعملها الصحفي؛ فكانت تخرج من بيتها وقت القصف إلى أقرب نقطة اتصال، وتشتري بطاقة "نت شارع" بشيكل، ثم تجلس على الرصيف تنتظر بريداً إلكترونياً، أو ترسل مادة صحفية، أو تستعد لإجراء مقابلة؛ ما كان يُعرّض حياتها للخطر بشكل مستمر.
تذكر دعاء أنها كانت -في بعض الأحيان- تضطر إلى الصعود ليلاً أعلى سطح المنزل، لالتقاط شبكة الإنترنت، لمواصلة عملها في تغطية أخبار الحرب؛ رغم المخاطر المترتبة على ذلك؛ فالطائرات الإسرائيلية لا تتوقف عن التحليق في سماء غزة.
تحكي دعاء عن أصعب المواقف التي مرت بها، حين تعرقلت قدمها بحبل إحدى خيام الصحفيين، المجاورة للمستشفى الكويتي بمدينة رفح، أثناء محاولتها الخروج مسرعة لالتقاط شبكة الإنترنت، كي ترسل خبراً عاجلاً؛فتعرضت على إثرها لإصابة.
كما أن قطع خطوط الاتصال والإنترنت أثرا في حياتها الشخصية، خاصة بعدما اضطر أشقاؤها إلى النزوح لمكان آخر، فكانت تسمع أصوات القصف بالقرب منهم، لكنّها لم تستطع التواصل معهم، ما زاد من القلق والضغط النفسي الواقع عليها.
لكنّ أصعب موقف مرت به دعاء، كان وفاة والدها في مدينة أريحا، منتصف نيسان/إبريل 2024؛ حيث اضطر إلى الذهاب لعمله رغم مرضه قبل الحرب. لم تعلم دعاء ولا أسرتها بوفاته إلا وقت جنازته، بسبب انقطاع الاتصالات والإنترنت.
وذكرت أنه بسبب الحرب وقطع الاتصالات، لم يستطع الاطمئنان عليهم، ولم تستطع العائلة التواصل معه. وبعد ساعات من وفاته، تمكن صديق والدها من الاتصال بهم لضعف شبكات الاتصال؛ وأخبرهم أن الأصدقاء سيقومون بتشييعه، ولم تتمكن دعاء ولا أسرتها من إلقاء نظرة الوداع على أبيها.
لم تنتهِ مأساة دعاء عند هذا الحد، حيث تعرضت المنطقة التي نزحت إليها لقصف عنيف؛ كادت أن تفقد حياتها، لكن فرق الإنقاذ تمكنت من انتشالها مصابة من تحت الأنقاض.
•الإنترنت متاح لدقيقتين!
"حصتي من الإنترنت أسبوعياً كانت دقيقتين لا أكثر"، تقول معدة التقرير مها شهوان. كنتُ من خلالهما أرسل رسالة لعمي بكندا، أَطمئن من خلاله على أهلي في شمال القطاع، بسبب نزوحي إلى وسط غزة. كنت أكتب له عبر الواتساب: "كيف الأهل، فيرد بخير". كان يعرف الأخبار عن طريق ابن خالي المقيم في فرنسا، حيث كان يتصل الأخير اتصالاً دولياً على والده، الذي يسكن بجانب عائلتي.
يتعجب كثيرون حين يسمعون أن اتصالي بالإنترنت لم يكن سوى دقيقتين أسبوعياً. لكنّ الحرب علمتني الكثير، ليس فقط في إدارة الوقت، لكن في إدارة كل شؤون الحياة المُهدَّدة في كل لحظة. خلال الدقيقتين، كنت أحدّث الواتساب فقط؛ لأنه التطبيق الوحيد الذي تصل من خلاله الرسائل بشكل أسرع، بخلاف الفيسبوك. وبعد تحديث الرسائل وانقطاع الإنترنت، أقرأ ما وصلني وأرد على بعضها، ويصل الرد حين أتصل بالإنترنت مرة أخرى.
أذكر في إحدى المرات، كنت محظوظة حين قرر نازح معي -وهو صاحب هاتف الأيفون، ويمتلك شريحة "الإيسم الإلكترونية"- منحي خمس دقائق، وليته لم يمنحني تلك الدقائق؛ فقد علمت باستشهاد ابن عمتي عن طريق الفيسبوك. كانت تمضي أسابيع طويلة لا أعرف فيها شيئاً عن عائلتي، لدرجة أنني تأهبت لسماع أيّ خبر سيء عنهم.
أما عن عملي، فقد عانيت كثيراً بسبب انقطاع الإنترنت والتيار الكهربائي أيضاً. كانت طريقتي في العمل محسوبة؛ أستغل الدقائق القليلة المتاح فيها الإنترنت، فأبحث عن المعلومات المتعلقة بالموضوع المكلفة بكتابته، ثم أحفظ بعض المعلومات "من خلال النسخ واللصق"، وأرسلها عبر الواتساب لرقمي الشخصي. بعدها أكتب وأحرر التقرير على ورقة، ثم أشحن جهاز اللابتوب على الطاقة الشمسية، وأعيد كتابة المادة على اللابتوب ثم أنقلها -عبر وصلة- إلى جهاز الموبايل، وأشبك الإنترنت لأقل من دقيقة وأرسل المادة بشكلها النهائي.
•تحديات الاتصال والتواصل متشابهة
في شمال قطاع غزة، تعيش الصحفية لميس الهمص برفقة عائلتها –زوجها وأولادها الأربعة- رافضة النزوح إلى الجنوب؛ فبقيت محاصرة كحال غالبية سكان المناطق الشمالية، ومنقطعة عن العالم الخارجي لأسابيع طويلة، لانقطاع شبكات الإتصال والإنترنت.
تعمل الهمص في المجال الصحفي منذ 16 عاماً، وتقول إن انقطاع الإنترنت "شلّ حياتهم"؛ فهو أساس الحياة للتواصل ومعرفة الأخبار والاطمئنان على الأسرة في أي مجتمع، لكن في الحرب لم أستطع التواصل مع عائلتي التي نزحت إلى المنطقة الوسطى، أو حتى معرفة مكان القصف القريب منا.
وتضيف الهمص قائلة: "بداية الحرب كان الإنترنت مفصولاً عن مناطق معينة وموجوداً في أماكن أخرى، كنا نضطر إلى المشي مسافات طويلة للاتصال بالإنترنت وإرسال المواد الصحفية".
وتشير لميس الهمص إلى العزلة التامة التي عاناها سكان شمال القطاع، بعد أسابيع قليلة من الحرب؛ بسبب الانقطاع الكامل في خطوط الاتصالات والإنترنت، حتى إن معرفة الأخبار في محيطها القريب باتت مستحيلة.
وتذكر أنها وزوجها الصحفي محمد أبو قمر، بقيا لمدة شهر كامل من دون إنترنت أو اتصالات، لافتة إلى أن وسيلة الأخبار الوحيدة كانت حين يغامر زوجها ويخرج من البيت، ويلتقي النازحين ويسألهم: "من وين جايين، وإيش صار معكم"، حتى يعرفوا أين وصلت الدبابات الإسرائيلية.
وتأكيداً على ما ذكرته الهمص، ذكر المرصد الأورومتوسطي أن الاستهداف الإسرائيلي المتكرر للمدنيين، خلال محاولتهم التقاط إشارة الاتصالات والإنترنت، يتركز على المناطق المحاصرة، التي يرتكب فيها الجيش الإسرائيلي شتى الجرائم المخالفة للقانون الدولي، الأمر الذي يعرقل التغطية الصحفية لهذه الجرائم ونقلها إلى العالم.
وأضاف المرصد أن هذا الاستهداف يتمّ في وقت يعاني فيه سكان قطاع غزة انقطاعاً مستمراً وشبه كامل للاتصالات؛ ما يؤدي إلى تفاقم معاناتهم تزامناً مع تعرّضهم للقصف الجوي والمدفعي الكثيف على مدار الساعة، وحتى تاريخ نشر هذا التقرير.
أُنجز هذا التقرير بدعم من أريج