لم تعتقد سارة فؤاد (25 عاماً) وهو اسم مستعار لفتاة يمنية من صنعاء، أن ذهابها إلى مصففة الشعر للحصول على قَصّة "البوية" - أي قص الشعر إلى ما فوق الأذنين- التي شاهدت صوراً لها عبر تطبيق انستغرام، سيدفع والدها إلى معاقبتها بحلاقة شعر رأسها بأكمله.
حدث هذا في اليوم الأخير من شهر رمضان المنقضي، وأرادت أن تظهر بشكل جديد في عيد الفطر. تروي لرصيف22: "عندما قصصت شعري، تملكني إحساس بفرح عظيم، وشعرت بارتياح لا يمكن وصفه"، مبرزةً أنه انتابها ذلك الشعور على الرغم من أن مصففة الشعر حذرتها من "المجازفة التي تقدم عليها" لأنه معروف عن الأسر في صنعاء عدم سماحها لبناتها بقَصّشعرهن إلا بعد الزواج.
والدة سارة كانت أول من انتبه إلى قَصّة شعرها الجديدة بعد أن أزالت سارة الحجاب عن رأسها وراحت تدور بفرح أمامها، إلا أن ملامح الأم توقفت مذهولة والتزمت الصمت. "هذه هي عادتها عندما تغضب وأنا لم أجادلها في شيء، لأنني كنت قد خضت التجربة بالفعل والنتيجة أمامها"، تتابع سارة.
غير أن والدها الذي لم يميّزها بادئ الأمر، عبّر عن غضبه بنحو أشد قسوة. تقول سارة بصوت خافت: "شقيقي أخبره لحظتها وهو يشير إلي كأنني مجرمة: 'انظر إلى بنتك!'. وكان ذلك كافياً ليتحول أبي إلى شعلة نار. عندها فقط أدركت أنني ارتكبت 'خطأً' فادحاً".
أسرع الأب الغاضب إلى الحمام وعاد ومعه ماكينة حلاقة وأزال شعر رأس سارة كله أمام أنظار باقي أفراد العائلة من دون أن يبدي أي منهم اعتراضاً بمن فيهم والدتها التي اكتفت بالمراقبة، فاستسلمت سارة لواقع الأمر وتحوّل ذعرها إلى رضوخ، وبمرور الأيام إلى مقتٍ للعادات والتقاليد وأحياناً لأسرتها، تفكر لحظات قبل أن تضيف: "وبالتحديد لوالدي".
•قانون أسري
العرف الاجتماعي في صنعاء، وكذلك في باقي أنحاء اليمن ولا سيّما المناطق الريفية، يفرض على اللواتي يعشن في كنف أسرهن الامتناع عن وضع المكياج أو ما يُسميه "التبرّج" وقَصّ شعرهن من بين قيود عديدة، ويرفع عنهن هذا الحظر الصارم بمجرد زواجهن. لذلك، ووفقاً لمتخصصين اجتماعيين، فإن الكثير من الفتيات هناك، يقبلن بالزواج في سن مبكرة، هرباً من تلك القيود المفروضة عليهن.
"العادات والتقاليد أقوى من القانون في اليمن، بل لا يوجد في البلاد قانون يحمي الفتاة من أسرتها"، هذا ما تقوله شهد غانم (21 عاماً) وهي طالبة في كلية الزراعة بجامعة صنعاء، وكانت لديها هي الأخرى تجربة مطلع عام 2023، تصفها لرصيف22، بـ"المريرة" في ما يتعلق بقَصّ الشعر.
وتتابع: "قصصت شعري، ولم تكن قَصّة جريئة، بل مجرد قَصّة البوز التي تصل إلى حدود الرقبة والأذنين ثم تمنيت لو أنني لم أقم بذلك أو حتى فكرت فيه بسبب ما تعرضت له". جد شهد لأبيها شتمها وانهال عليها ضرباً. "كان أقرب الناس إليّ ولم أتخيل أنه في يوم سيقدم على ضربني بسبب شعري!"، تضيف بحزن.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد لأن والدة شهد فرضت عليها ارتداء الحجاب عند الخروج من غرفتها لمقابلة أفراد أسرتها الآخرين أو صديقاتها ومُنعت الفتاة اليمنية من حضور الأعراس والمناسبات الأخرى التي تُدعى إليها الأسرة. تشرح شهد: "تم عزلي، وحُدد مساري من البيت إلى الجامعة والعكس". واستمر عزلها وعلاقتها المتوترة بعائلتها حتى طال شعرها مجدداً، فاستعادت علاقتها بمحيطها تدريجياً. "لكنني حُرمت من التصرف بشعري كما أشاء لحين زواجي، ولا أعرف كيف سيكون الوضع عندها أيضاً، فما أعرفه هو أن عاداتنا وتقاليدنا لا ترحم الفتاة مطلقاً"، تختم شهد.
توصّلت دراسة أجرتها منظمة مواطنة عن العنف الأسري في اليمن، ونُشرت نتائجها في آب/ أغسطس 2022، إلى عدم وجود قانون في اليمن يضمن على نحو خاص حماية المرأة من العنف الأسري، لافتةً إلى أنه يتم التعامل مع هذا العنف القائم على النوع الاجتماعي على أنه "شأن أسري" يحدث داخل حدود المنزل ولا يجوز أن يتدخل الآخرون فيه لأن العنف "يمارسه أفراد الأسرة الذين يملكون السلطة من قبل المجتمع الذكوري الذي تحكمه العادات والتقاليد الذكورية".
•نبذ وتنمر
الاختصاصية الاجتماعية هند فيصل، من صنعاء، تقول لرصيف22 إن العنف الأسري الذي يستهدف الفتيات "يُعد عنفاً ضد النوع الاجتماعي، ومهما كان شكل هذا العنف فهو بالنهاية يترك آثاراً نفسية واجتماعية".
وتبيّن: "قد تتخذ الفتاة بسبب ذلك قرارات متسرعة، وقد تقبل بفكرة الزواج للهروب من قوانين البيت الذي تسكنه، وهي لا تدري أن ذلك قد لا يكون الحل، إذ أن هناك أيضاً نساء متزوجات ممنوعات من قَصّ شعرهن، بذريعة أن الزوج يحب الشعر الطويل، وإذا خالفت المرأة تلك الرغبة تتعرض للتعنيف من قبل زوجها".
وتعتقد المختصة الاجتماعية أن مرد العادات والتقاليد التي تحد من حرية الفتيات في مختلف شؤونهن الكبيرة منها أو حتى الصغيرة مثل قَصّة الشعر هي "القبليّة قبل كل شيء، فالكثير من العائلات متمسكة بالأعراف القبليّة وترى أنه من المعيب أن تقَصّ الفتاة شعرها. أما دينياً، فهنالك رجال الدين يقولون بتحريم قَصّ الفتاة لشعرها، إذ يعدونه تشبهاً بالرجال".
تستدرك هند: "لكن هذا ليس شائعاً على نحو مطلق، فهنالك عائلات في صنعاء وعلى قِلّتها تتسامح في ذلك نوعاً ما، وينتشر هذا المنع بالنسبة لباقي العائلات في المدينة فضلاً عن المناطق الريفية والجبلية".
عُلا خالد، وهو اسم مستعار لفتاة في عامها الثامن عشر، حاصلة على شهادة الثانوية العامة وتسكن في صنعاء، تقول لرصيف22 إن أسرتها خاصمتها عندما قصّت شعرها في تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وتحكي: "أبي قال لي ما دمتِ تقصين شعرك وحدك دون أخذ رأيي، اذهبي إلى المحكمة وتزوجي دون إذني… غضب مني كثيراً، لكن بعد أسبوعين عادت علاقتنا. لكنها الآن عادية وليست وطيدة كالسابق".
تضيف عُلا: "واجهت النبذ والتنمر في عائلتي. أختي المتزوجة كانت تنعتني بالأخ… جاء الأخ، ذهب الأخ، من الأخ؟ وهكذا. أما خالي، فعندما رآني، شبّهني على الفور بالكافرات، وقال: 'لا أريد رؤيتك. ما هذا؟ صلاتك وصيامك غير جائزين، وهذا تشبّه بالرجال'. حتى عندما كنت أذهب للمناسبات كانت عيون الناس تلاحقني كأنني ارتكبت جريمة وأمهات صديقاتي منعن بناتهن من مجالستي".
أثّر كل ذلك على عُلا، فامتنعت عن الخروج وعزلت نفسها بنفسها عن "الأعين التي كانت تلاحقني في المنزل وعند زيارة الأقرباء لنا، حتى الأطفال بمجرد رؤيتهم لشكلي يسخرون مني ويشيرون إليّ وهم يقولون انظروا إلى الرجل، وينادونني: يا ولد، ويسألون: ماذا يفعل بيننا هذا...".
محمد قاسم (49 عاماً) من منطقة الحيمة بصنعاء، والد لأربع بنات، يحرص على منعهن من وضع مساحيق التجميل وقَصّ الشعر، ويعد ما يقوم به "عادات متوارثة تربينا عليها، كما تربينا على الشريعة الإسلامية التي تمنع بناتنا من التشبه بالأجنبيات".
يقول محمد لرصيف22 إنه يفضل رؤية بناته وشعرهن طويل، متسائلاً: "ماذا سيقول الناس إذا قصت إحداهن شعرها؟ أكيد سيقولون انظروا إلى بنت محمد قاسم الذي لا يستطيع التحكم في بناته أو ضبطهن، وهذا كلام كبير في حقنا وله تأثيره عليّ".
ويضيف: "لم تجرؤ أمهاتنا ولا أخواتنا أو أي امرأة من الأسرة على قَصّ شعرها قبل زواجها، فلماذا نخالف العادة؟ أنا كأب أُعتبر مسؤولاً عن تصرفات بناتي حتى يحين موعد زفافهن وبعدها للزوج الأحقية في التصرف مع زوجته، هكذا أكون 'أديت الأمانة' وأكتفي بأن أكون ناصحاً لهن بعد تزويجهن".
•تداعيات
بدورها، تقول المتخصصة بعلم النفس، إيمان البريهي، لرصيف22: "قَصّ الشعر يمكن أن تكون له تأثيرات عميقة على نفسية الفتاة وتختلف هذه التأثيرات من واحدة لأخرى، فمثلاً قد تشعر المرأة بتجديد وثقة أكبر في نفسها بعد قَصّ شعرها خاصةً إذا كان التغير جذرياً، فهذا يمنحها شعوراً بالتحرر والانطلاق. كما تؤثر آراء الآخرين على مشاعر الفتاة بعد قَصّ شعرها. فردود الفعل الإيجابية أو السلبية من الأصدقاء والعائلة يمكن أن تهز ثقتها في نفسها".
وتشير إيمان إلى أن الفتاة التي تقصّ الكثير من شعرها بحيث يقصر، تتعرض لمختلف أنواع النقد والتنمر والاتهام باتخاذها مظهراً يُعتقد أنه أقرب إلى الذكور، "وذلك بسبب عدم توافق مظهرها مع المعايير التقليدية المعمول بها في المجتمع فتكون عرضة للسخرية أو العنف والعزلة الاجتماعية".
وترى أن ذلك يؤثر سلباً على صحة الفتاة النفسية ويعرضها للقلق والاكتئاب وعدم الاتزان وتفضيل العزلة بل "قد تفقد ثقتها بمحيطها، خصوصاً إذا تم التعامل معها بعنف".
وتصف المختصة بعلم الاجتماع، نادية المتوكل، العنف الأسري بـ"المعضلة الكبيرة في مختلف المجتمعات"، مضيفةً لرصيف22 أن "التنمر الذي تتعرض له البنت من قبل أفراد أسرتها يجعلها تشعر بأنها شخص غير مرغوب فيه تماماً، وهذا يؤثر على مستواها الدراسي وعلاقاتها بالآخرين".
وتلفت نادية إلى أن المشكلة تتفاقم عندما يتسع نطاق التنمر هذا من المحيط الأسري إلى الخارجي كالمدرسة، "فتبدأ في الشعور بأنها أصبحت مجرد شخص لا فائدة منه يأكل ويشرب وينام فقط، وقد تدور في ذهنها فكرة الانتحار، خصوصاً إذا كان التعامل قاسياً وعنيفاً من الأهل، وعلى أقل تقدير قد تفكر في الهرب عبر الزواج وهذا ما يحدث كثيراً في اليمن".
ووفقاً لاطلاعها على حالات عديدة لفتيات تم تعنيفهن بسبب قَصّ الشعر أو التزين بمساحيق التجميل، تقول نادية: "هؤلاء الفتيات يكن مشتتات التفكير ووحيدات ومعزولات ويلجأن للنوم للفرار من واقعهن".
تجدر الإشارة إلى أن تقييد الحرية في ما يخص تسريحة الشعر وقصّته لا تقتصران على الفتيات العازبات وحدهن في اليمن، وصنعاء تحديداً إذ تروي سميرة محمد (34 عاماً) كيف أنها أرادت مفاجأة زوجها في ذكرى زواجهما الذي يصادف الخامس من أيار/ مايو من كل عام، بمظهر جديد أساسه قَصّة شعر تصفها بالجريئة، أي شعر قصير.
تقول لرصيف22: "المفاجأة لم تكن مفرحة بالنسبة لزوجي، بل صادمة، فلم يتقبل التغيير الطارئ علي، وغضب كثيراً من تصرفي وقال انظري لعمرك ماذا سيقول أولادك عنكِ، هل جننتِ؟".
توترت العلاقة لأكثر من شهر بين الزوجين اللذين يعملان مدرسين، كانا يذهبان للعمل ويعودان من دون أن يتبادلا الحديث، وإذا كانت هناك حاجة للتواصل بينهما كانا يتبادلان رسائل موجزة عبر الهاتف، قبل أن يعود الصفاء إلى علاقتهما شيئاً فشيئاً، وفق سميرة التي تقول عن تجربتها تلك: "المجتمع لا يتقبل التغيير، ويتعامل معه على أنه خروج على الدين والعادات، والمرأة مذنبة بنظره وإن لم تقترف خطأً".