تحليل: اعتبارا من 7 أكتوبر.. هل هناك أي فرص لنجاح دولة فلسطين؟
يمن فيوتشر - Modern Diplomacy- ترجمة ناهد عبدالعليم: الثلاثاء, 05 مارس, 2024 - 12:20 صباحاً
تحليل: اعتبارا من 7 أكتوبر.. هل هناك أي فرص لنجاح دولة فلسطين؟

 

العمل الإرهابي الذي نفذته حركة حماس في 7 أكتوبر 2023، وكان غير مسبوق في حجمه، والرد الإسرائيلي الذي كان مماثلاً في حجمه أيضاً وأدى إلى مقتل آلاف الفلسطينيين وتسبب بكارثةٍ إنسانية كبرى، صدم المجتمع الدولي. ومع ذلك، تختلف تفسيرات هذا الانفجار الجديد للعنف في الشرق الأوسط، وكذلك الصراعات الأخرى في عالمٍ متقسم. وتشدد إسرائيل والغرب على أفعال الجانب الفلسطيني، التي تسببت في رد فعلٍ تجاوز بكثير الأعمال الإنتقامية الإسرائيلية في السنوات السابقة، ولكن في رأيهم، فإن ذلك مفهوم بشكل عام. والآن، الهدف هو القضاء على التواجد العسكري والسياسي لحركة حماس في قطاع غزة، كونها تمثل تهديدا مباشرا لأمن ووجود إسرائيل.

ويرى الفلسطينيون والدول العربية والأغلبية في الجنوب العالمي، بغض النظر عن التباينات في نهجهم، أن السبب الجذري يكمن في تلاشي الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية، وفي السياسات الفاشلة التي تتبعها الولايات المتحدة في دورها كوسيط نزيه، وفي الاحتلال الإسرائيلي و"الفصل العنصري" ضد السكان الفلسطينيين.

 وتبقى الفجوة في السرد واسعةً للغاية، مما يعقد البحث عن حل، بما في ذلك من منظور نفسي وإنساني.

والحرب في غزة لم تنتهِ بعد، ومهما بلغت اتفاقات وقف إطلاق النار أو الهدنة وكيفما كانت، فإن السؤال الذي يبقى هو: ماذا بعد؟ هل من الممكن تنفيذ حل الدولتين النهائي في مصلحة الإسرائيليين والفلسطينيين في ظل تولد نظامٍ عالمي جديد في ظروفٍ مواجهة عسكرية استراتيجية حادة؟ و هل تساهم الحالة في المنطقة، التي شهدت تغيرات دراماتيكية، في هذا الحل؟ وما هو تأثير كل هذا على الحركة الفلسطينية، التي تنقسم بسبب الصراعات الداخلية، خاصة بين حماس في قطاع غزة وفتح في الضفة الغربية؟

 توجد الكثير من الأسئلة، وهذه بعضها فقط.

على أي حال، من الواضح أن القضية الفلسطينية، التي كانت في الأصل في قلب الصراع العربي الإسرائيلي بأكمله، قد عادت إلى مركز الاهتمام الدولي، في حين تم تأجيل مزيدٍ من تطبيع علاقات السعودية مع إسرائيل حتى إشعارٍ آخر.

 

• من الحروب العربية الإسرائيلية إلى التسوية الفلسطينية الإسرائيلية:

إذا قُمنا بمراجعة ديناميات الصراع في الشرق الأوسط، أطول صراع في عصرنا، يمكن أن نلاحظ أنه تحول تدريجياً ولكن بثبات، وذلك عند اعتماد قرار الأمم المتحدة بشأن تقسيم فلسطين في عام 1947، من مواجهة بين الدول تمر بثلاث حروب (1947 و1967 و1973) إلى مشكلة العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية. وكانت هذه العلاقة حتى السبعينيات والثمانينيات مميزة بمحاولاتِ الفلسطينيين، بدعم من جزء من العالم العربي، لحل مشكلة الاحتلال الإسرائيلي بطرق كثيرة، وغالباً ما تشمل هجماتٍ إرهابية. وكانت الحروب الأهلية اللبنانية أيضا نتيجة للمشكلة الفلسطينية المعلقة. ثم، بصعوبة كبيرة وبفضل النفوذ السياسي لياسر عرفات، اعترفت "منظمة التحرير الفلسطينية" بحق إسرائيل في الوجود، وبدأت مفاوضاتٍ دولية متوسطة على مدى سنواتٍ في أوائل التسعينيات، والتي استمرت لفترةٍ طويلة مع انقطاعات وتصاعد للعنف المسلح.

في الوقت نفسه، تغيرت الحالة الإقليمية على مدى الخمسة عقود الماضية. ويمكن تحديد عدة مراحل رئيسية في تحول الصراع العربي الإسرائيلي إلى مرحلة جديدة ذات جودة مختلفة، مرحلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وتبادلت طلقات الأمل مع طلقات اليأس والشك في النجاح، وبشكل متزايد زادت هذه الطبقات من التأثير المحبط ليس فقط في العالم العربي، ولكن أيضا في العالم الإسلامي بأكمله. وكان هناك تراكم أساسي للإرهاق من المشكلة الفلسطينية التي لم يتم حلها بشكل دائم.

وقد كانت نقطة البداية في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. وهذا كان أول اختراق لـ"الجبهة العربية للصمود". والاختراق الثاني كان في الأردن. ثم، بعد ما يقارب ربع قرن، جاءت اتفاقات إبراهام مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان.

وفي حين اتخذت الدول العربية موقفاً موحداً إلى جانب مصر وسوريا حتى حظر النفط في عام 1973، انخفضت درجة هذا التوحيد، رغم أنه لم يكن ظاهراً بشكل واضح، وبعد ذلك تم استقبال توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في عام 1979 بحذرٍ من قِبل العرب في الخليج، ولم يكن إلا بناءً على ضغوط من "الجبهة المقاومة" (سوريا والجزائر وليبيا والعراق ومنظمة التحرير الفلسطينية) و"الشارع العربي"، واضطروا إلى الاتفاق على تجميد عضوية مصر في جامعة الدول العربية وقطع العلاقات الدبلوماسية مع هذه الدولة. وأيضاً، لعبت العواقب المريرة للحرب الأهلية اللبنانية على مر السنين دورا لصالح الفلسطينيين. وكانت النزاعات والاشتباكات المسلحة المتعددة داخل الحركة الفلسطينية، حيث كانت الحركة الإسلامية حماس تحقق تقدماً، يُنظر إليها بشكل مختلف إلى حد ما في العالم العربي. وبدأ التركيز ينحرف من إدانةٍ قاطعة لـ"العدو الصهيوني" إلى أسئلة مثل "ما الذي يحدث مع الفلسطينيين أنفسهم"؟!!

مؤتمر مدريد عام 1991، وعملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية التالية (أوسلو 1 وأوسلو 2)، وتشكيل السلطة الفلسطينية جاءت كبصيص أمل في سلسلة العنف اللا متناهي على الجانبين. واكتسبت السلطة الفلسطينية صفات الدولة وتم التعرف عليها من قِبل إسرائيل كشريك في المفاوضات النهائية. وتم تحطيم آمال التوصل إلى "تسوية تاريخية" بحلول عام 2000، وذلك عندما فشلت المحادثات التي تولتها الولايات المتحدة بين إيهود باراك وياسر عرفات في معسكر ديڤيد. كما جاءت التفاعلات بشكل نتيجة لـ"انتفاضة فلسطينية ثانية" (2000-2005)، والتي لم تُثر التضامن بين الدول العربية آنذاك، كما كانت في العصر الرومانسي للقومية العربية. وتساءل الكثيرون، بحذر، في الجمهور العربي عما إذا كان يمكن لعرفات أن يُظهر مرونة أكبر في وقت كان فيه إيهود باراك يقدم تنازلات. ويتذكر الذين عملوا في الشرق الأوسط بشكل جيد النكتة الشائعة، التي تحمل بعض الفكاهة المشؤومة: "الفلسطينيون لا يفوتون فرصة لإضاعة الفرصة". وبشكل يدل على ذلك، كان في ذروة الانتفاضة الثانية عندما قدم الملك عبد الله من السعودية صيغة "الأراضي مقابل السلام"، والتي تمت الموافقة عليها في قمة عربية في بيروت. وكانت هذه إشارة إلى استعداد العرب للبحث عن حلول وسط لمشكلة الفلسطينيين.

ويجب أن نُلاحظ أن نتائج انتخابات عام 2006 للمجلس التشريعي الفلسطيني، التي وافق عليها زعيم منظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس، على أمل منح السلطة الفلسطينية هالة ديمقراطية، كان لها تأثير سلبي على عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية وتصوّرها في العالم العربي. ولكن حركة حماس، التي فازت في الانتخابات، استولت على السلطة في قطاع غزة بالقوة لتشكيل حكومة منفردة. وأصبحت غزة، من جهة، والضفة الغربية التي بقيت تحت سيطرة حركة فتح، من جهة أخرى، منفصلتين ليس فقط جغرافياً ولكن أيضاً سياسياً، مما لعب في صالح الجناح اليميني المتطرف للسياسة الإسرائيلية. وبعد ذلك، استؤنفت مفاوضات خريطة الطريق للتسوية بعد فترة، لكنها لم تحقق أي تقدمٍ كبير.

وتُمثل الاضطرابات النظامية في المنطقة بعد عام 2011 أيضا التربة التي غذت الكسر الثالث لـ"الجبهة العربية" في مقاطعة إسرائيل. كما تُعزز مواقع إيران على طول "الهلال الشيعي" (طهران - بغداد - دمشق - بيروت)، والاتفاق النووي لعام 2015، والحروب في سوريا واليمن، حيث دفع جميعها إلى البحث عن حلول بديلة، مثل الاختيار الصعب لصالح التطبيع مع إسرائيل. و"اتفاقات إبراهام" مع أربع دول عربية في عام 2020 لم تكن نتيجة فقط للضغوط الأمريكية القوية. بل لعبت العوامل مثل دمجهم في الاقتصاد العالمي والنظام المالي، والميل المستمر نحو الصراع في المنطقة بعد عام 2011، والآمال في الفرصة للتأثير على إسرائيل من خلال سياسات المصالحة أيضا دورها، وخلال الجائحة المستمرة وتصاعد التوترات في العالم، تلاشت القضية الفلسطينية في الظلال، مما قُدم أيضا مبررا أخلاقيا لهذا القرار الصعب. وكان ذلك صحيحا بشكل خاص بالنسبة لدول الخليج العربية، فبعضها كان يتمتع بعلاقاتٍ غير رسمية مع إسرائيل، بما في ذلك في المجال الاقتصادي، قبل إقامة العلاقات الدبلوماسية.

والمفاوضات بشأنِ تطبيع العلاقات السعودية-الإسرائيلية، قبل تعليقها بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، تقدمت بشكلٍ كبير وسارت على ثلاثةِ مسارات: بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بين السعودية وإسرائيل، وبين الولايات المتحدة والسعودية. وتم التفاوض على إطارٍ شامل يتضمن شروطا سياسية واقتصادية مهمة للسعوديين، مثل ضمانات الأمن والتعاون الاستراتيجي، بما في ذلك توريد الأسلحة الحديثة، وبناء مفاعل نووي، ومساعدة في التكنولوجيا الحديثة، والتزام من إسرائيل باحترام حقوق الشعب الفلسطيني. وبالتأكيد، لم يتم اتخاذ القرار الأساسي بالقيام بمثل هذا التحول في السياسة السعودية في ليلة وضحاها، فقد سبقه تراكم التعب من الصراع في اليمن، والإصلاحات المستمرة التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد، وخطط التحديث الطموحة، والعدائية المستمرة تجاه إيران، رغم التحسن في العلاقات الثنائية مؤخراً.

 

• تبني إسرائيل موقف أكثر صرامة:

بحلول وقت فشلت فيه "عملية السلام" وتم قطع الاتصالات الفلسطينية-الإسرائيلية، حتى بين الخدمات الأمنية، نشأت حالة جمود. وتطورت مواقف المفاوضات لكل طرف -إسرائيل والسلطة الفلسطينية- في اتجاهات متضادة. ووصل الفلسطينيون إلى الحد الأقصى لتنازلاتهم، ولم يعودوا يعتمدون على نجاح الضغوط الدولية، بينما انحرف الطيف السياسي الإسرائيلي - على مدى العقدين الماضيين- بشكل متزايد نحو ضم تدريجي للضفة الغربية ورفض المشكلة الفلسطينية ذاتها. وقد شبّه محمود عباس نفسه ذات مرة، في لحظة من اليأس، برجل صعد شجرة واكتشف فجأة أن سُلّمه قد تمت إزالته.

و على موجة من التعصب اليهودي، تمكّن نتنياهو من الحفاظ على منصب رئيس الوزراء لفترة أطول من أي سياسي إسرائيلي آخر (15 عاما مع فترة إضافية قصيرة)، حيث وضع نفسه كالزعيم الوحيد القادر على مقاومة "الضغط" الأمريكي. ولذلك حصل على لقب سيد الأمن، رغم عدم وجود ضغوط جادة على إسرائيل بشأن القضية الفلسطينية. وكما يتذكر السفير الأمريكي السابق في إسرائيل، دان كورتزر، اكتسب نتنياهو سمعة سيئة كزعيم إسرائيلي "يقوم بإلقاء الموعظة والتوبيخ" للرؤساء الأمريكيين. وتحت قيادة نتنياهو زاد وبشكلٍ كبير عدد المستوطنات في الضفة الغربية، التي تستخدم تمويلا من الأموال العامة، بالإضافة إلى الحراسة الشبه عسكرية. ورغم أنه نفسه كان يدعم علنا مفهوم وجود دولة فلسطينية حتى 7 أكتوبر/ تشرين الأول، إلا أن النشاط الاستيطاني عمل على تقطيع هذه المساحة الإقليمية إلى قطع صغيرة، مما يضعف الأساس نفسه لعملية السلام. ومن خلال دخوله في تحالف مع المتشددين الأرثوذكس القوميين من أجل البقاء في السلطة وسط اتهامات فساد تفرق بها المجتمع الإسرائيلي، وضع نتنياهو، كما يعتقد معظم السياسيين، بما في ذلك في الغرب، مصالحه السياسية الشخصية فوق مصالح الدولة وفقد حريته في التصرف.

وواحد من أدلة هذه الديناميكية هو "الحرب الصامتة" ضد السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية، مصحوبة بدعوات محرضة من المتطرفين اليمينيين. ففي السابع من أكتوبر، تم إطلاق حملة قمع جماعي، تتمثل بالهجمات الليلية في المدن الكبرى، وسلسلة من عمليات القتل والاعتقالات والطرد القسري. ورغم ذلك، تم دعم المتطرفين الإسرائيليين على المنطقة من قِبل الجيش. ووفقا للأمم المتحدة، قُتل 238 فلسطينيا بين السابع من أكتوبر/ تشرين الأول و29 نوڤمبر/ تشرين الثاني فقط. وكما ذكرت "الجزيرة"، تم تقدير عدد المعتقلين بحوالى 3365 شخصا. وجنبا إلى جنب مع هذه الحملة القمعية، بدأ الاضطهاد السياسي وتقييد الحقوق المدنية للفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، بمن فيهم أعضاء الكنيست.

وقد تساوت سياسة العقاب الجماعي للفلسطينيين في قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، والنظام المفروض من قِبل إسرائيل في الضفة الغربية، في نظر معظم الشخصيات السياسية والعامة في العالم مع نظامِ الفصل العنصري. وظهرت هذه التعريفة في حوار علوم السياسة منذ سنواتٍ عديدة، ولكن الآن تم تحفيز إجراء قانوني دولي بسبب ذلك. كما قدمت جمهورية جنوب أفريقيا (RSA) دعوى قضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، حيث تتهم جنوب أفريقيا إسرائيل بالقمع المنهجي للشعب الفلسطيني ونظام الفصل العنصري منذ عام 1947. وفي 25 يناير/ كانون الثاني 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة في لاهاي حُكما يدعو إسرائيل لوقف الأعمال "التي تندرج تحت اتفاقية الإبادة الجماعية" وأعلنت تدابير احترازية لحماية السكان الفلسطينيين.

 

• العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية- الفلسطينية:

تقريبا جميع الرؤساء الأمريكيين أولوا بعض الاهتمام لمشكلة الفلسطينيين في سياساتهم تجاه الشرق الأوسط، مدعين محوريتها في عملية السلام. وكان الرؤساء كارتر وكلينتون وأوباما نشطين بشكلٍ خاص. وفي الوقت نفسه، أظهر ربع القرن الأخير أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون وسيطا موضوعيا قادرا على إجبار إسرائيل على التوصل إلى تسوية تُمكّن من إقامة دولة فلسطينية كاملة الحقوق مع ضمانات أمنية لإسرائيل. ففي السنة الأولى لولاية أوباما، حاولت الدبلوماسية الأمريكية إعادة تشغيل المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. ومع ذلك، تم اضطرار إدارة الولايات المتحدة للتراجع بسرعة أمام موقف صعب اتخذته إسرائيل، والتي رفضت تلبية حتى مطلب فلسطيني بسيط مثل وقف بناء المستوطنات.

وخلال هذه الفترة الماضية بأكملها لم تتمكن الولايات المتحدة أبدا من التخلص من تناقضين غير متوافقين، هما التزامها بعلاقات التحالف مع إسرائيل استنادا إلى القيم المشتركة وإدراك أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المستمر يضر بمصالحها في العالم الإسلامي. وكان تحكم الولايات المتحدة في عملية السلام، في رأي روسيا، أحد الأسباب التي أدت إلى الأحداث المروعة في قطاع غزة وتصاعد التوترات الجديدة في قلب الشرق الأوسط. وبعد فشل وساطة كلينتون في عامي 2000-2001 وخلال جولات المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التالية تحت رئاسة بوش الابن وأوباما، كان تركيز الولايات المتحدة ليس على حل مشكلة الفلسطينيين وإنما على كسر الحصار العربي لإسرائيل.

ترامب، الذي اتسمت سياسته بالعشوائية والتكيف المرتجل والإرادة الشخصية، استغل فقط الوضع في المنطقة الذي كان مواتياً لإسرائيل لـ"كتابة التاريخ" بـ"صفقة القرن الحادي والعشرين"، والتي بدت ترسخ واقعا جديدا. ولأول مرة، أقرت واشنطن بشكلٍ أساسي احتلال الأراضي الفلسطينية من خلال الاعتراف بالمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس كعاصمةٍ رسمية لدولة إسرائيل. وبذلك، تخلت الولايات المتحدة تماما عن صيغة "دولتين لشعبين"، التي ترسخت في جهود المجتمع الدولي في التسوية الفلسطينية الإسرائيلية وفقا لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ومثل مسألة المستوطنات اليهودية، يُعد وضع القدس عموما أمراً مقضياً بالنسبة للولايات المتحدة، حيث تم اتخاذ قرار الرئيس بناءً على قانون سفارة القدس الذي أقرّه الكونغرس عام 1995 (القانون 104)، والذي لم يكن لدى جميع سلف ترامب الجرأة الكافية لفرضه.

وسياسة الرئيس بايدن تجاه الشرق الأوسط، رغم الكلمات العامة حول إعادة النظر أو "ضبط المسار"، لم تشهد أي تغييراتٍ كبيرة، وفيما يتعلق بأجندة الفلسطينيين، فقد استمرت بشكل مستمر في نهج سلف بايدن.

وتم توجيه الجهد الرئيسي نحو المملكة العربية السعودية، نظرا لتدهور العلاقات الأمريكية السعودية بشكلٍ ملحوظ تحت الإدارة الجديدة. وكان جدول رحلة الرئيس الأمريكي في الشرق الأوسط في يوليو/ تموز 2022 من تل أبيب إلى جدة، حيث التقى الرئيس الأمريكي بقادة عرب في تنسيق مجلس التعاون الخليجي +3 (مع إضافة مصر والعراق والأردن). وأظهر جدول الرحلة بوضوح الدول ونطاق القضايا التي تعتزم إدارته التركيز عليها، و تقدمت المملكة العربية السعودية وإسرائيل أولاً.

وتلقت القيادة السعودية تأكيداتٍ بأن هذه المنطقة ستظل ضمن أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، بالتزامن مع المصالح العسكرية والاستراتيجية والاقتصادية الخاصة لواشنطن في الخليج الفارسي والمحيط الهندي. وتشمل هذه المصالح الأمن الإقليمي في تفسير الولايات المتحدة، وتعزيز التطبيع بين العرب وإسرائيل، وعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي الإيراني، وإرسال إشاراتٍ تحذيرية لإيران، وفهم جديد لطبيعة العلاقات الحليفة، وحل النزاعات مع التركيز على اليمن. وبهذا النهج، تم نقل الاتصالات الفلسطينية الإسرائيلية إلى المستوى الثانوي. وافتحت خطط الإصلاح الواسعة في إطار رؤية محمد بن سلمان (2030)، وعقود الأسلحة الكبرى ومشاريع الاستثمار المُربحة فرصا جديدة للتعاون مع الولايات المتحدة، مما زاد من اهتمام السعودية بالتطبيع مع إسرائيل.

وزيارة بايدن إلى السلطة الفلسطينية كانت أقرب من زيارة سياحية، باستثناء بعض التصريحات المستعجلة في دعم قضية دولة فلسطين، ودعواتٍ للحوار مع الفلسطينيين، ووعودٍ بالمنح الإنسانية. وكانت هذه لفتات رمزية بحتة، وأكثر تحية لتصريحات حملته الانتخابية. ونص إعلان نقل بث تل أبيب لعام 2022 لم يترك أي شك بأن الولايات المتحدة ستواصل التزامها المبدئي بأمن إسرائيل وهيمنتها العسكرية باعتبارها "أولوية استراتيجية حيوية للأمن القومي للولايات المتحدة". وفي هذا الصدد، تم الإعلان عن تدابير تعاون إضافية في مجال الدفاع الجوي وتكنولوجيا الليزر. وكانت نقطة أخرى مهمة في الإعلان هي الرسالة التي وجهتها الولايات المتحدة لشركائها في المنطقة بأنها "لن تسمح أبدًا لإيران بامتلاك أسلحة نووية" وستعمل معهم لمواجهة "عدوان إيران وأنشطتها المستقرضة". وأعربت الولايات المتحدة وإسرائيل عن تقديرهما العالي لاتفاقيات إبراهام كمُكملٍ قوي لاتفاقيات السلام الإسرائيلية مع مصر والأردن، وكـ"نقطة البداية لبناء نظام أمن إقليمي جديد".

 

• تسوية السلام: تفاصيل اللحظة:

حتى الآن، ركزت الدبلوماسية المتعددة الأطراف في الشرق الأوسط على التوصل إلى اتفاقٍ على شروط وقفِ إطلاق النار مع إطلاق سراح الرهائن والسجناء الفلسطينيين وتوفير المساعدات الإنسانية للسكان المدنيين. وفي الوقت نفسه، هناك مناقشة لسيناريوهات حُكم هذا الحصن الفلسطيني بعد حماس. وتنفي إسرائيل والولايات المتحدة قطعا أنه يمكن أن يكون هناك أي عودة إلى الحالة القائمة، لكن السؤال ما زال قائما: إذا لم تكُن حماس، فمن سيكون؟ إن هذه قضية مثيرة للجدل للغاية وبالتالي تثير مناقشات مشتعلة، بما في ذلك في الحكومة العسكرية المؤقتة في إسرائيل. و تحاول الولايات المتحدة، التي دعمت إسرائيل بلا قيد أو شرط منذ بداية الصراع، بشدة مساعدة حليفتها في الخروج من هذا الوضع الصعب، في حين تواجه بشكل متزايد صعوباتها الخاصة أيضا.

وتتجه تصورات المجتمع الدولي حول الكارثة المدنية في غزة نحو إدراك أن هذا الانفجار من العنف كان ممكنًا فقط بسبب عدم التعامل مع القضية الأساسية للاحتلال الإسرائيلي وانتهاك الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني لفترة طويلة. حيث تضررت الثقة في الوساطة الأمريكية بشكل جدي، رغم أن الدول العربية المشاركة في مفاوضات غزة (قطر ومصر والمملكة العربية السعودية والأردن) تلتقي بانتظام مع ممثلين أمريكيين يتنقلون إلى المنطقة. ولا يمكن للعالم العربي أن يكتفي بالبياناتِ الرسمية التي تعترف بحق الفلسطينيين في إقامة دولة، كما أعاد الرئيس الأمريكي ذكره فجأة بعد 7 أكتوبر. وبدلاً من ذلك، يسعى إلى التزامات ملموسة.

يُثار حاليا جدل واسع في المجتمع الأكاديمي الدولي حول مدى احتمالية ومناسبة "حل الدولتين" للمشكلة الفلسطينية. والرأي السائد هو أن المجموعة التي تتضمن وقف إطلاق النار وتحديد مستقبل غزة لا ينبغي أن تحجب السبب الجذري للصراع، وهو الاحتلال الإسرائيلي. وكيفية توحيد هاتين الجزئيتين من نفس اللغز بحيث يتعذر على الولايات المتحدة التلاعب بالمفاهيم واستبدالها، يُعد بحد ذاته لُغزاً رئيسيا. وفي أكثر تجسيد مركزي، تم التعبير عن هذا النهج في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2023 في خطابٍ أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من قبل وزير الخارجية الأردني السابق، مروان المعشر، فضلاً عن عدد من مقالاته.

والجوهر هو أن اللحظة قد حانت عندما يجب أن يتم اتخاذ دروس الماضي على محمل الجد. وإنهاء الحرب في غزة تُعد أولوية غير مشروطة، ولكن السياسة المبنية فقط على ذلك ستؤدي بالضرورة إلى كوارث جديدة. ولا يمكن حل المشكلة الفلسطينية باستخدام النماذج والسيناريوهات القديمة التي ثبت عدم واقعيتها. وما حدث في غزة كان نتيجة للغياب الكامل لـ"آفاق سياسية" للفلسطينيين. ولم تكن جهود السلام السابقة ذات هدف واضح، لذلك كانت العملية لا نهاية لها، ودون أي توقعات للنهاية، في حين أن إسرائيل ستبني المزيد والمزيد من المستوطنات، مما يقوض أساسات عملية التسوية السلمية. وسيجعل فقدان الوقت الأمور أسوأ، بما في ذلك بالنسبة لإسرائيل نفسها.

ورغم أن هذه الرؤية أصبحت منتشرة على نطاق واسع، خاصة في العالم العربي، إلا أن تحقيق حقوق الفلسطينيين في "السياسة الواقعية" مشكوك فيه. وتعتبر العقبات الرئيسية على هذا الطريق متعددة الأوجه.

العقبة الأولى هي رفض إسرائيل الحازم في غياب أدواتٍ للضغط على قيادتها، بغض النظر عن التعديلات التي قد تحدث لهذه الأخيرة. حيث يعتقد نتنياهو أن دولة فلسطينية ستشكل "تهديدا وجوديا" لإسرائيل ويفضل الاحتفاظ بـ"السيطرة الأمنية الكاملة على الأراضي الغربية لنهر الأردن". أما خصومه السياسيون، فرغم عدم تشددهم بنفس القدر، إلا أنهم لا يؤيدون إقامة دولة فلسطينية أيضا.

العقبة الثانية هي عجز وعدم استعداد إدارة بايدن لتغيير أي شيء في سياستها بشأن القضية الفلسطينية، خاصة عشية الانتخابات الرئاسية. ويمكن أن يكون الأمر فقط عن بعض الخطوات التكتيكية لـ"اللعب" في ميدان الفلسطينيين، مهدئة الشركاء بين الدول العربية وإظهار النشاط الدبلوماسي للناخبين الأمريكيين.

العقبة الثالثة هي دخول إسرائيل والسلطة الفلسطينية إلى مسار الانتقال السياسي، حيث سيؤدي انتهاء الحرب في غزة إلى تسريع هذه العملية، ولكن، بطريقة أو بأخرى، لا يزال السؤال مشوبا بعدم اليقين بشأن من سيكون الشركاء في المفاوضات على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني

وتراجعت نسبة تأييد نتنياهو، وأصبح بقاؤه السياسي يتوقف بشكلٍ متزايد على الأحزاب القومية المتطرفة، والتي تهدد بالانسحاب من التحالف في حال تحقيق وقف إطلاق النار في غزة قبل تحقيق الأهداف المعلنة. وهذا يعني، رغم اللاوعي، مدى استمرار الخصومات - كلما طالت، وكان ذلك أفضل بالنسبة له. كما أن هناك سابقة معروفة مع رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة غولدا مائير، التي أقيلت من منصبها بناءً على قرار صدر عن لجنة تحقيق تشكلت بعد حرب عام 1973

أما بالنسبة للسلطة الفلسطينية، التي تخضع لسيطرة حركة فتح، فقد تطورت أزمة الشرعية هناك بعد انتهاء فترة رئاسة محمود عباس. وكان من المقرر أن تجرى الانتخابات الرئاسية الفلسطينية التالية في العام 2014، ولكنها لم تُعقد منذ ذلك الحين بسبب الخلافات مع حماس والجهاد الإسلامي، وعدم اليقين بشأن إمكانية التصويت، وضمانه لسكان القدس الشرقية. والإجراءات الدستورية المتعلقة باختيار رئيس لا تزال غير مؤكدة. وفي ظل هذه الظروف، فإن الفصائل السياسية المنافسة إما لا ترغب في الانتخابات أو يمكن أن توافق عليها وفقا لشروطها الخاصة. وفي الوقت نفسه، زاد دعم حماس ثلاث مرات منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وفقا لاستطلاعات الرأي التي أجراها مركز البحوث الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، وأكثر من 60% من الفلسطينيين يؤيدون تغييرات في قيادة السلطة الفلسطينية ومواصلة النضال المسلح. وفي الوقت نفسه، فإن حماس، التي لا تعترف بحق إسرائيل في الوجود وتعتبر إرهابية في الغرب، ليس لها موقف قانوني معترف به دوليا. ومن جهتها، لا تنوي القيادة الفلسطينية في الضفة الغربية تحمل مسؤولية قطاع غزة، خشية أن ينظر إليها على أنها "عودة على مؤخرات البنادق الإسرائيلية".

والعقبة الرابعة، وفقا لبعض الخبراء العرب والغربيين، هي عدم وجود دعم كافٍ لقضية الشعب الفلسطيني بين الدول العربية الرائدة، التي تتضامن مع الفلسطينيين ولكنها تتحفظ في سلوكها، مفضلة عدم توتر العلاقات مع الولايات المتحدة.

وفي البيان الختامي، أدان قادة جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، الذين اجتمعوا بمبادرة من السعودية في مؤتمر في جدة (نوڤمبر/ تشرين الثاني 2023)، إسرائيل بشدة، متهمين إياها بارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة والضفة الغربية. وأُكد من جديد أن الشرط المسبق للسلام مع إسرائيل ولتصحيح العلاقات هو وقف احتلالها لجميع الأراضي الفلسطينية والعربية والحاجة العاجلة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. ولم يتم دعم مقترحات الجزائر وسوريا وإيران وعدد من الدول الأخرى المشاركة في القمة العربية الإسلامية لاتخاذ إجراءات صارمة ضد إسرائيل تصل حتى المقاطعة ودعم النضال المسلح من قبل دول الخليج العربية. ونتيجة لذلك، تم الاتفاق على الحل الذي اقترحته السعودية بإنشاء "مجموعة عمل من سبعة أشخاص" ستقوم بزيارة عواصم خمس دول رائدة في العالم لمناقشة فرص التعاون الدولي في إنهاء الحرب في غزة وحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.

ومن ذي الأهمية الخاصة في سياق الدبلوماسية الشرق الأوسطية موقف المملكة العربية السعودية، التي لديها فرصة مع دول الخليج الأخرى للضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل، حيث يتميز القادة السعوديون، في إطار اتصالاتهم المكثفة مع الممثلين الأمريكيين، بعدم إزالة قضية التطبيع مع إسرائيل من جدول الأعمال، ولكنهم يطرحون عددا من الشروط التي تتوافق مع مطالب الوحدة العربية: "أوقفوا الحرب أولاً، وقدموا المساعدات الإنسانية، والتزموا بتسوية عادلة وإقامة دولة فلسطينية". ولا يوضح السعوديون ما يجب أن تكون التزامات إسرائيل، مما يترك مجالا للمفاوضات البناءة.

وروسيا، التي طالما أصرت على حل الدولتين في نزاع العرب وإسرائيل، ترحب بالمشاركة النشطة للدول العربية في حلٍ شامل لمشكلة الفلسطينيين، مع مراعاة الأزمة في غزة. وفي اجتماع مع وزراء خارجية مجموعة الدول العربية الإسلامية في موسكو، صرح سيرغي لاڤروڤ أن رباعية الوسطاء في الشرق الأوسط لم تفِ بوظائفها لأن "الشركاء الغربيين كانوا متحفظين" تجاه إدراج ممثلي العالم العربي في هذا التنسيق.

 


التعليقات