تسعى جماعة الحوثي في اليمن الى إطباق سيطرتها على المجتمع، وتستهدف بشدة النساء اللاتي يعانين من التهميش والعنف وتقييد الحريّة بأساليب متعددة، يوظفها الحوثيون لا فقط لتقييد حريّة النساء، بل لمحاولة منعهنّ من الوجود في الفضاء العام، وتحويله إلى مساحة عدوانيّة، لا أمان لهنّ فيها ولا حماية، سواء عبر العبارات التحريضيّة على الجدران، أو عبر الجوامع أثناء الخطب، أو “الزينبيات” اللاتي يطاردن النسوة في الشوارع.
يتبع الحوثيون تقنيات عدة لتعميق سيطرتهم/ قمعهم، إذ أصدرت الجماعة قراراً شفهياً عام 2019 يحظر على النساء السفر من دون موافقة خطية من ولي الأمر ووزارة الداخلية، ثم فرضت قيوداً جديدة تمنع سفر النساء من دون “مُحرم”، سواء كان السفر عبر مطار صنعاء أو بين المدن اليمنية.
كذلك، أصدرت بعض القبائل في صنعاء في أيلول/ سبتمبر 2021، وثيقة عرفية استهدفت بنودها النساء وحرياتهن الخاصة، من بينها منع سفرهن من دون محرم، وعدم السماح للفتيات بالعمل في المنظمات الإنسانيّة، لأن تلك المنظمات، حسبما جاء في الوثيقة، “تقوم بابتزازهنّ جنسياً”.
الصيغة الشفهيّة والعرفيّة محاولة من الحوثيين لنفي التهمة عن أنفسهم في حال تعرضوا للمساءلة أمام المجتمع الدوليّ، إذ حذرت سعاد (اسم مستعار)، ناشطة نسوية تقيم في صنعاء، من أن “القرارات الشفهية التي يصدرها الحوثيون خطيرة لا يجب السكوت عنها، لأنه يمكنهم التنصّل منها في حال حدث رد فعل غاضب، بحجة أنها لم تصدر عنهم وغير إلزامية، على رغم أنهم يجبرون الناس على الالتزام بها”.
•“الزينبيات”: شرطة نساء ضد النساء
تقرير وزارة حقوق الإنسان والشؤون القانونية في الحكومة المعترف بها دولياً لعام 2023، يصف قرارات الحوثي بـ”العنف القائم على النوع الاجتماعي”، ويشير إلى جهاز “الزينبيات” الذي أنشأه الحوثيون عام 2014، والمكون من نساء يطاردن النسوة في المدرسة والجامعة وحتى الحدائق والمقاهي والطرقات العامة، وأوكلت إليه تنفيذ مهمة أمنية في شركات النقل، لتقييد حرية النساء وملاحقتهن ومنعهن من السفر؛ هذا الجهاز سري وغير قانونيّ، وتفيد تقارير بأنه يتكوّن من 500 امرأة.
وفي تقرير صادر عن الشبكة اليمنية للحقوق والحريات عام 2022، وثّقت 1,444 واقعة انتهاك ارتكبته “الزينبيات”، تنوعت بين مداهمات وتفتيش واختطاف، ووصلت في بعض الأحيان حد القتل والتعذيب داخل السجون.
•تطبيق تعاليم “الهوية الإيمانيّة” بالقوّة
كشف تقرير الوزارة أيضاً، عن تعرض النساء المسافرات من دون محرم في النقاط الأمنية التابعة للحوثيين، للتحرش والابتزاز والتوقيف والتحقيق معهن لساعات طويلة، إضافة إلى وصفهن بــ”بالعاهرات” ومصادرة جوازات سفرهن وعدم السماح لهن بالمغادرة، إلا بعد كتابة تعهّد بعدم السفر مرة أخرى من دون محرم.
•شهادة فاطمة (اسم مستعار) مهندسة مدنية يعمل زوجها خارج اليمن
يأتي العنف السابق في ظل منهج “الهوية الإيمانيّة” الذي يروّج له الحوثيون، والذي تُشنّ عبره “حرب” على المنظمات الإنسانيّة بوصفها “تقود حرباً ناعمة هدفها هدم قيم المجتمع وأخلاقها، وتستخدم النساء لتحقيق ذلك”.
الكاتبة والباحثة في مركز صنعاء للدراسات ميساء شجاع الدين توضح:”الحوثيون ليسوا فقط جماعة تسعى الى السلطة، بل نظام شمولي يسعى إلى فرض قيم ومفاهيم على المجتمع، هم جماعة تريد إعادة صياغة المجتمع بشكل يماثلها”.
ترى شجاع الدين أن علاقة الحوثيين مع المرأة تتعلق بطابعهم الأيديولوجي كجماعة دينية متشددة، فـ “تحرك المرأة يثير قلقهم، إضافة إلى تعمّد تضييق مساحة العمل المدني والإغاثي. لكن، على الرغم من كل الهجوم الذي تعرضت له المنظمات لكنها تظل مساحات عمل مدني تزعج الحوثيين”.
•المنظمات تنصاع للحوثيين
أثّرت قرارات الحوثيين على معيشة الناس في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، إذ فقدت نساء كثيرات وظائفهن، وهدد استهداف المنظمات والعاملين فيها حصول الأسر على المساعدات والرعاية الصحية التي تقدمها هذه المنظمات، كما خسرت نساء أخريات فرص الحصول على التعليم والتدريب والتأهيل داخل اليمن وخارجه.
حذّرت الأمم المتحدة على موقعها في آذار/ مارس 2023، من أن الأوضاع في اليمن تشهد مزيداً من التدهور وتضييق القيود على النساء واستمرار التمييز ضدهن في ظل “نظام المحارم”، فهناك” حوالى 12.6 مليون امرأة بحاجة إلى خدمات منقذة للحياة في الصحة الإنجابية والحماية، منهن 7.1مليون بحاجة إلى وصول عاجل للخدمات. نظام المحرم حدّ من قدرة النساء العاملات في المجال الإنساني على تقديم الدعم والمساعدات الضرورية”.
ندّدت سهام (اسم وهمي) بما وصفته تواطؤ المنظمات التي تعمل فيها النساء، فبدلاً من قيامها بدعم النساء والضغط على الحوثيين، طالبت موظفاتها بتنفيذ قراراتهم! وأردفت: “شركات النقل والمنظمات يمكنها فرض شروطها على الحوثيين بتخفيف القيود المفروضة على النساء، بخاصة أنها تدفع لهم إتاوات بمبالغ مالية طائلة، فالمال يلعب دوراً كبيراً لدى الحوثيين”.
أبدت شجاع الدين أيضاً أسفها لأن “بعض المنظمات، وبدلاً من الضغط على الحوثي ودعم هؤلاء الفتيات على اعتبار ذلك من القيم الحقوقية التي تعمل بها، استبدلتهن بشباب بكل بساطة”.
•“نظام المحارم” على الحواجز
أشار تقرير وزارة الشؤون القانونية وحقوق الإنسان، إلى التكلفة الباهظة لاستخراج وثيقة “موافقة على السفر”، إذ تتكفل المرأة بسفر المحارم من محافظات بعيدة، الأمر الذي يشكل عبئاً مالياً ثقيلاً على النساء. تقول سارة (اسم وهمي): “خسرت فرصة تأهيل كنت بحاجة إليها، وكانت ستفتح لي أبواباً كثيرة، أنا الآن في صنعاء لا أفعل شيئاً، حياتي متوقفة و لا أعرف كيف سيكون مستقبلي”.
تشير شهادات الى أن القرار لم يستهدف الشابات فقط، بل وحتى كبيرات السن. يقول أمجد (إسم مستعار) الذي يقيم في عدن: “عام 2019، طلبتُ من صديق لي، لديه حافلة صغيرة، إيصال أمي إلى عدن بغرض السفر إلى مكة لتأدية العمرة، لكن في نقطة (يسلح) أوقف الحوثيون الحافلة، لم تكن أمي بمفردها، كان هناك مسافرون آخرون، بينهم إمرأة ذاهبة إلى عدن بمفردها لزيارة والدتها المريضة. لكن الحوثيين أجبروا صديقي على العودة إلى صنعاء بجميع الركاب، ما اضطرني للسفر إلى صنعاء برفقة أمي”.
أفاد تقرير الخارجية الأميركية لعام 2022، بأن معلومات وردتها من صنعاء عن نساء رفضت وكالات تأجير السيارات تأجيرهن سيارات من دون محرم. وجاء في التقرير أنه “في آب/ أغسطس، أصدرت هيئة تنظيم النقل البري التابعة للحوثيين توجيهاً شفهياً ينص على أنه لا يُسمح للنساء بالسفر من دون مرافقة محرم داخل المحافظات التي يسيطرون عليها ، أو إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، أو خارج البلاد”.
•شهادة رحمة (اسم مستعار)، موظفة في إحدى المنظمات الدولية في تعز
تشير شهادات أخرى الى أن عدداً من النساء والفتيات اضطررن للانتقال إلى محافظات تخضع لسيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، خصوصاً العاملات في المنظمات، وذلك لتفادي العبور في المناطق الخاضعة للحوثيين. تقول موظفة في إحدى المنظمات الدولية :”كنت أعمل بمنظمة في صنعاء، ويتطلب عملي مني التنقل المستمر بين المدن. لكن في الفترة الأخيرة، فرض الحوثيون المحرم، وفي إحدى المرات كان لدي عمل بمدينة صعدة، لم يسمحوا لي بالسفر إلا بمحرم، تساءلت: من أين آتي لهم بمحرم؟ وما سأصرفه على المحرم سيأخذ نصف راتبي، وأنا لدي التزامات كثيرة!”. وتضيف أنها تقدمت لوظيفة في تعز، وحرصت على ألا تقدم على أي وظيفة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، مهما كانت قيمة الراتب.
•“تجارة” تصاريح المرور
وفقاً لشهادات عدد من الضحايا من النساء، فإن الحوثيين يبيعون تصاريح السفر بمبالغ باهظة، وكلّما كان المبلغ أكبر كان الحصول على التصريح أسرع. تؤكد سهام أن هناك سماسرة في وزارة الداخلية يبيعون تصاريح السفر، وتضيف:”قال لي أشخاص في شركات النقل: لا تقلقي سنعطيك رقماً لأحد موظفي الوزارة عندما تريدين السفر، تدفعين له مبلغاً من المال وسيستخرج لك التصريح من دون أن يسألك عن شيء”.
تتابع سهام قائلةً: “التصاريح أحد مصادر دخلهم، وجدت الكثير من النساء يحاولن استخراج التصريح، بعضهن فقيرات مضطرات للسفر إما لزيارة أقاربهن أو لاستلام معاشاتهن بسبب فارق سعر التحويل، وفرض المحرم زاد من الأعباء المادية”.
تتحوّل التجارة إلى ابتزاز على نقاط التفتيش، إذ يبتزّ الجنود العائلات حتى من لديها محرم بهدف الحصول على الأموال، إذ يفصلون المحرم عن عائلته ويأخذونه بعيداً، ليتم التحقيق معه بأسئلة ذات طابع شخصي، ومن ثم يتوجهون بالأسئلة ذاتها الى العائلة لمطابقة الإجابات والتأكد أنه فعلاً قريب لهن، وإذا لم تتطابق الإجابات يتم إعادتهم إلى صنعاء.
•تحريض وعنف ديني وتواطؤ مجتمعي
قرار الحوثي بمنع السفر إلا بمحرم، أثار سخط النساء والمنظمات. لكن قيادات الجماعة وأنصارها دافعوا عنه، حتى أن بعضاً من غير مؤيدي الجماعة دافعوا عنه كونه “يحافظ على المرأة”. لكن اللافت (والمؤسف)، أن الخطاب المتشدد ذاته منتشر في مدينة تعز، التي تقع تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً.
يشن بعض رجال الدين حملة ضد النساء في تعز، خصوصاً الناشطات والعاملات في المنظمات. يتزعم هذه الحملات، عبر منابر المساجد وحسابه الشخصي على “فيسبوك”، عضو مجلس النواب عن (الإصلاح) الشيخ عبد الله العديني، والذي لا تخلو خطبه من تحريض على النساء، مُوجهاً لهن وللمنظمات تهماً بـ”تنفيذ مخططات إسرائيلية أميركية لتدمير قيم المجتمع وتأييد (مجتمع الميم) ونشر الرذيلة”.
قبل فترة، تعرضت ناشطات طالبن بحق الحصول على جواز السفر من دون وصاية، للهجوم من العديني والنائب في البرلمان أيضاً عن (الإصلاح) محمد الحزمي، ذي المواقف المعادية لحقوق النساء، وهو واحد من الذين واجهوا بشراسة، قبل ثورة شباط/ فبراير، محاولة سن قانون يجرم زواج الصغيرات. وقاد العديني والحزمي ومعهما عدد من شيوخ الدين ومن شباب متطرف، حملة تحريض ضد النساء والمنظمات بدعوى “محاربة الانحلال”.
حذرت المحامية سماح سبيع، من أن الصمت تجاه ما تتعرض له النساء كلفته باهظة، والقبول بهذا الوضع سيصبح واقعاً، وستخسر النساء مكتسباتهن وسيعدن الى النضال من نقطة الصفر. ودعت إلى حراك مجتمعي مدني من الجميع، رجالاً ونساء، للحفاظ على مكتسبات النساء، موضحة “أن الأمر لا يمس إمرأة واحدة بل يمس حقوق كل النساء”.
أشارت سبيع أيضاً، الى أنه لم يوجد إطلاقاً في تاريخ اليمن وفي الدستور والقوانين اليمنية وحتى القرارات التي كانت تصدر من الجهات المعنية، شيء اسمه “محرم”، وأضافت:”كان الأمر يتعلق بالأسر أو الفتيات، وبشكل عفوي، وكان يُسمى مرافقاً وليس محرماً، فكرة المحرم أتت مع سيطرة الحوثي”.