على الرغم من أن توقيت البذر كان قد بدأ وفق التقويم الزراعي للبلاد في قريته بني شيبة، الواقعة في ريف محافظة تعز اليمنية، وقف عبد الحكيم حينها حائراً: أيبدأ بحرث أرضه ورمي بذوره فيها أم يتريث حتى نزول المطر الذي تأخر بشكل ملحوظ؟
المطر الذي يعده الفلاحون إيذاناً ببدء الموسم الزراعي والذي غالباً ما يتزامن هطوله مع حلول موعد البذر في التقويم المتبع في البلاد منذ مئات السنين، وهي المرحلة الأولى من مراحل الموسم الذي يبدأ في منتصف أيار/ مايو وينتهي في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام في البلدة.
وإن كان من سببٍ هناك لحيرة عبد الحكيم تلك، فقد كان ذلك لخوفه من فشل موسمه الزراعي هذا العام، كما حدث معه ومع كثير من الأهالي في الآونة الأخيرة.
يقول عبد الحكيم، وهو فلاح خمسيني يعده الأهالي مرجعاً في أمور الفلاحة في المنطقة، لرصيف22: "كغيري من الفلاحين في البلدة، أعمل على زراعة الذرة الرفيعة والدخن سنوياً في الموسم. لقد توارثنا ذلك كابراً عن كابرٍ (أي أباً عن جد)، وقد أكسبنا الآباء والأجداد وسنوات العمل الطويلة، معرفة وخبرةً في أمور الزراعة ومواقيتها. نعتمد على هذه الخبرة في التعرف على مواعيد الحرث والبذر والحصاد، وتحديد بداية الموسم الزراعي ونهايته وفصوله، بمساعدة أحوال الطقس والظواهر الجوية التي غالباً ما كانت تتسق والتقويم السنوي".
لكن في السنوات الأخيرة، أخذت أحوال الطقس تتقلب على غير ما عهده مزارعو اليمن كما يشرح عبد الحكيم، ويضيف: "بدأنا نلحظ تغيراً في مواعيد هطول الأمطار، وتذبذباً في كميات المياه المتساقطة، وارتفاعاً في درجة الحرارة، واستمرار الرياح الشديدة لفترات طويلة أثناء الموسم".
ونتيجة أحوال الطقس المتقلبة هذه، لم تعد الخبرة التي يمتلكها الفلاح المخضرم كافية للحصول على موسم زراعي ناجح، فقد فشل موسمه ثلاث مرات في السنوات الخمس الأخيرة.
•آثار بليغة
عبد الحكيم واحد من آلاف الفلاحين والمزارعين اليمنيين الذين يعانون من عدم استقرار الموسم الزراعي وفشله مرات كثيرة مؤخراً.
ويعزو استشاري البيئة والتغير المناخي أنور عبد العزيز أسباب ذلك إلى التأثيرات المرتبطة بظاهرة التغير المناخي. ويقول لرصيف22: "التأثيرات المرتبطة بظاهرة التغير المناخي التي يشهدها الموسم الزراعي في اليمن تأتي على هيئة عدم انتظام في هطول الأمطار، وتغير مواقيت الهطول، إضافة إلى تذبذب كميات المياه المتساقطة، كما يشهد الموسم الزراعي أيضاً تغيراً في مستويات درجة الحرارة، وتبدلات في فترات الرياح الموسمية وشدتها خلال الموسم".
ويضيف بأن هذه التأثيرات تؤدي إلى ضعف قدرة الفلاحين والمزارعين على تحديد مواعيد الحرث والبذر والحصاد، نظراً لتغير مواقيت هطول الأمطار التي تتقدم حيناً وتتأخر حيناً آخر، كما تتسبب الأمطار الغزيرة والسيول في انجراف التربة وخسارة المزارعين لأراضيهم الزراعية.
وغير بعيد عن ذلك، فإن تغير مستويات الأمطار وفترات هطولها يساهم غالباً في فشل الموسم الزراعي، لأن معظم المحاصيل الموسمية تحتاج إلى كميات محددة من مياه الأمطار في فترات معينة من الموسم. ويؤدي تذبذب مستويات درجة الحرارة وانخفاضها في المراحل الأخيرة من الموسم إلى عدم اكتمال نضوج المحاصيل وخصوصاً الحبوب. وتعمل الرياح الشديدة التي تستمر لفترات طويلة في الموسم على جفاف المزروعات.
وإجمالاً، يمكن القول وفق حديث عبد العزيز بأن التأثيرات المرتبطة بظاهرة التغير المناخي تقلل من نسبة نجاح الموسم الزراعي في اليمن، وينتج عن ذلك تراجع في المساحة المزروعة، وانخفاض في الإنتاجية، وفقدان الكثير من الفلاحين والمزارعين لمصادر قوتهم.
وتشير الإحصائيات الصادرة عن وزارة الزراعة والري في صنعاء إلى أن المساحة المحصولية في البلاد تراجعت من 1,579,855 هكتاراً عام 2010 إلى 1,154,762 هكتاراً عام 2020، أي بنسبة 27%. ويُقصد بالمساحة المحصولية مجموع المساحة التي زُرعت فيها المحاصيل خلال العام الزراعي. وهذه المساحة، مع تناقصها، تبقى أقل بكثير من كامل المساحة التي يمكن استغلالها في أنحاء البلاد لزراعة مختلف أنواع المحاصيل، وهو أمر لا يحدث نتيجة عوامل عدة منها التقلبات المناخية.
كما تظهر البيانات ذاتها تراجع إجمالي إنتاج المحاصيل المزروعة بنسبة 15%، من 5,759,897 طن في عام 2010، إلى 4,863,081 طن عام 2020.
وتفيد بيانات الوزارة عام 2014 بأن العاملين في قطاع الزراعة يشكلون 54% من إجمالي نسبة العاملين في البلاد بالكامل، وتُظهر التقديرات النموذجية لمنظمة العمل الدولية بأن نسبة العاملين في قطاع الزراعة في اليمن عام 2021 تبلغ 28%من إجمالي العاملين في البلاد، وهو ما يدل على تراجع كبير في نسبة من يشتغلون ضمن هذا القطاع الحيوي والأساسي.
•حلول ولكن!
تُحتم الكلفة الباهظة التي يدفعها الموسم الزراعي في اليمن جراء تأثره بظاهرة التغير المناخي إيجاد حلول عاجلة للتخفيف من حدة الأضرار التي يتعرض لها إزاء ذلك.
ويقول الباحث في مجال الأراضي والمياه بمحطة أبحاث المرتفعات الجنوبية في اليمن محمد سيف غالب لرصيف22: "يُمكن التخفيف من حدة هذه الأضرار عبر تفعيل دور الإرشاد الزراعي، وتوعية المزارعين بمواعيد حرث وبذر وحصاد المحاصيل بما يتوافق والظروف المناخية الحالية، إضافة إلى زراعة وتطوير أصناف من المحاصيل تتلاءم وحالة المناخ المتقلبة، بحيث تكون هذه المحاصيل أكثر احتمالاً لموجات الجفاف، وأقل تأثراً بعدم انتظام أو تأخر هطول الأمطار".
ويزيد: "يمكن التخفيف من حدة الأضرار التي يتعرض لها الموسم الزراعي أيضاً عبر إنشاء السدود لحجز المياه والاستفادة منها في ري المحاصيل أثناء فترات الجفاف، وكذلك بناء جدران وحواجز لإبطاء سرعة جريان السيول، من أجل تجنب انجرافات التربة وتضرر الأراضي الزراعية عند هطول الأمطار الغزيرة، إضافة إلى رفع كفاءة الأراضي الزراعية في الاستفادة من مياه الأمطار، وتعزيز قدرة المحاصيل على البقاء من خلال حرث التربة بطريقة متعامدة، واستخدام المخصبات الزراعية العضوية باستمرار".
وبالرغم من توفر هذه الحلول، فإن تبنيها يحتاج إلى جهود مشتركة بين المزارعين والجهات الرسمية المختصة وهو أمر لا يمكننا رؤيته في الوقت الحالي.
•ضعف الدور الرسمي والدولي
تتطلب الأضرار التي تُحدثها ظاهرة التغير المناخي في الموسم الزراعي في اليمن جهداً حثيثاً من الجهات الحكومية والمنظمات المعنية لمواجهتها، ويُمكن لهذه الجهات أن تحدث فرقاً في هذا الجانب عبر تفعيل دور الإرشاد الزراعي، والتواصل مع الهيئات الدولية المعنية بمواجهة آثار ظاهرة التغير المناخي من أجل تبني أنشطة التكيف، للمساهمة في استقرار الموسم الزراعي في البلاد.
لكن، يعزو وكيل الهيئة العامة لحماية البيئة في الحكومة المعترف بها دولياً المهندس عبد السلام الجعبي ضعف الدور الحكومي في مواجهة الآثار المترتبة عن ظاهرة التغير المناخي على الزراعة إلى محدودية التمويل الحكومي وغياب التمويل الدولي.
ويقول الجعبي لرصيف22: "تعكف الهيئة العامة لحماية البيئة في الوقت الحالي على صياغة مقترحات مشاريع لجهات التمويل الدولية المعنية بالتغير المناخي من أجل تمويل أنشطة التكيف في البلاد، لتقليل كلفة الأضرار التي يتكبدها الموسم الزراعي نتيجة ظاهرة التغير المناخي".
كما يغيب الدور الدولي المطلوب لدعم اليمن في مواجهة تبعات التغير المناخي وآثاره السلبية على مختلف القطاعات، وهو ما أشار إليه تقرير صادر عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر قبل أشهر حمل عنوان "إنجاح التكيف"، إذ أوضح بأن "العمل المناخي في اليمن لا يزال محدوداً، والتمويل يستبعد المناطق الأكثر هشاشة وعدم استقرار".
وحتى ذلك الوقت يظل الموسم الزراعي في اليمن رهينة لتقلبات الطقس المفاجئة والظروف الجوية المتطرفة وغير المألوفة.