تحليل: فهم سياسة السعودية الخارجية المعاد ضبطها
يمن فيوتشر - مجموعة الأزمات الدولية- ترجمة ناهد عبدالعليم: الإثنين, 18 سبتمبر, 2023 - 12:15 صباحاً
تحليل: فهم سياسة السعودية الخارجية المعاد ضبطها

تحاول المملكة العربية السعودية - بنجاح متفاوت- إعادة تشكيل نفسها على الساحة الدولية.
 كما تريد المملكة -التي وصل ناتجها المحلي الإجمالي إلى تريليون دولار في عام 2022 للمرة الأولى- اقتصاداً يمكنه مواكبة تحول الطاقة العالمي وسياسة خارجية أقل اعتماداً على الولايات المتحدة.  لذا تتشكل السياسات السعودية وفقاً لطموحات زعيمها الفعلي -ولي العهد الأمير محمد بن سلمان (المعروف باسم MBS)- لتعزيز قبضته على السلطة، وجعل البلاد أقل اعتماداً على صادرات النفط والغاز وتحويل المملكة إلى قوة متوسطة مهمة.  و جعلها دولة تسعى إلى تحقيق مصالحها من خلال زيادة نفوذها الإقليمي والعالمي وتوسيع علاقاتها الخارجية.
  وبينما تعمل الرياض على تحقيق هذه الأهداف، فإنها تضع نفسها بشكلٍ مُتزايد في مركز جهود الدبلوماسية والوساطة عالية المخاطر.  ومع ذلك فمن المُرجح أن تصل جهودها الواضحة للتحول الذاتي إلى سقف لا يرقى إلى مستوى آمالها ما لم تقم الرياض بمزيد من التغييرات.


•الرؤية السعودية للعام 2030
تعد الرؤية السعودية للعام 2030 إحدى الطرق لفهم العديد من الابتكارات السياسية الأخيرة في المملكة العربية السعودية وهي مُبادرة التنمية الرائدة التي أطلقها ولي العهد في عام 2016. حيث أعلن (محمد بن سلمان) عن استراتيجيته الجديدة بعد فترةٍ وجيزة من وصول والده إلى السلطة في عام 2015 وعينه ولياً لولي العهد و رئيس مجلس التنمية والشؤون الاقتصادية المنشأ حديثاً ووزير الدفاع. 
 و اليوم، محمد بن سلمان ولي العهد ورئيس الوزراء، و نجاحه كقائد - على الأقل خلال الفترة الحالية - يتم الحكم عليه إلى حد كبير من خلال قدرته على تعريف "الرؤية السعودية 2030" بأنها تؤتي ثمارها.
كما أن الهدف الرئيسي "لرؤية السعودية 2030" هو تحسين وضع المملكة العربية السعودية لمواجهة التحول العالمي إلى الطاقة الواضحة من خلال التنويع الاقتصادي. ويُعد اليقين بأن البلاد يجب أن تقلل من اعتمادها على مبيعات المواد الهيدروكربونية ليس بالأمر الجديد -فالنفط يشكل 74% من جميع الصادرات- ولكن الحاجة المُلحة أصبحت حادة بعد التداعيات الاقتصادية العالمية الناجمة عن جائحة كوفيد-19، عندما انخفضت أسعار النفط إلى مستوى قياسي من أدنى مستوياتها.  وقد استمرت عقلية التنويع حتى بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، مما دفع أسعار الطاقة العالمية إلى مستوياتٍ قياسية جديدة، مما أدى إلى تحقيق أرباح قياسية في عام 2022 لشركة أرامكو السعودية، شركة النفط الحكومية.  وجادل المسؤولون السعوديون (مجموعة الأزمات) بأنهم رغم أنهم يعتبرون ارتفاع الأسعار فرصة أخيرة لجني الفوائد من الثروة الهيدروكربونية في البلاد، إلا أن الجهود الرامية إلى تحويل الاقتصاد مستمرة.
ولذلك تعمل الرياض على توسيع نشاطها الاقتصادي غير النفطي بشكل كبير. لذا تُخطط للقيام بذلك -على سبيل المثال- من خلال تعزيز السياحة الدينية وغير الدينية.  وتأمل في جذب المقيمين الأجانب ورؤساء الأموال من خلال مشاريع ضخمة مثل نيوم لاين -وهي مدينة خطية لا يزيد عرضها عن 200 متر وتمتد لمسافة 170 كيلومتراً على طول ساحل البحر الأحمر- وتعمل بالطاقة المتجددة وتسع تسعة ملايين شخص.
 كما ستعتمد "رؤية 2030" أيضاً على صندوق الثروة السيادية السعودي و الذي تبلغ قيمته 700 مليار دولار للقيام باستثمارات غير مسبوقة في تطوير القطاعات غير النفطية، مثل الطاقة المتجددة والرياضة والترفيه والذكاء الاصطناعي.  وفي هذا السياق، تعتزم المملكة العربية السعودية تطوير دوري كرة قدم احترافي خاص بها من خلال الاستحواذ على نجوم بارزين مثل كريستيانو رونالدو وكريم بنزيمة ونيمار، بالإضافة إلى الاستثمار في ألعاب القوى التنافسية في الخارج، بما في ذلك المليارات المخصصة لكرة القدم والجولف والفنون القتالية المختلطة ومختلف الرياضات. 
ولدعم خططه من أجل التنويع الاقتصادي، بدأ ولي العهد في انفتاح المجتمع السعودي المحافظ، ولكن في بعض النواحي فقط.  وكما لاحظ مراقبون، فإن تركيز الإصلاحات متمحور بشدة على المجال الاجتماعي والثقافي.  وفي هذا المجال، يعرض (محمد بن سلمان) نسخة أكثر تسامحاً من الإسلام السني لتحل محل الالتزام الصارم بتنوعه الوهابي، المتجذّر في التفسيرات الحرفية لأقدس نصوص الإسلام، كما أنه يقود الإصلاحات الدينية والعُمالية التي تهدف إلى منح المزيد من الحقوق للمرأة على وجه الخصوص.  ويشمل هذا إزالة الشرطة الدينية سيئة السمعة التي كانت تراقب الالتزام الصارم بالعقيدة الدينية، و السماح للمرأة بقيادة السيارة، وإسقاط شرط حصول المرأة على موافقة ولي الأمر للعمل أو السفر.
لكن عندما يتعلق الأمر بالحقوق السياسية، يظل الوضع قاتماً.  فقد حافظ (محمد بن سلمان) على نظامٍ ملكي مطلق، ويحكم بقبضة من حديد ولا يترك مساحة لأي آراء سياسية معارضة.  
و يواجه المواطنون السعوديون الاعتقال بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تنتقد سياسات الحكومة. 
 في إحدى القضايا البارزة الأخيرة، حكمت السلطات السعودية بالإعدام على مدرس متقاعد -وشقيق معارض يعيش في المنفى في المملكة المتحدة (محمد الغامدي) لأنه كشف الفساد بين أتباعه الذين يبلغ عددهم نحو عشرة.  وهذه العقوبة التي يصدرونها تعد الأشد وذلك بسبب نشاطهم على وسائل التواصل الاجتماعي.  وقد تلقى مواطنون آخرون أحكاماً بالسجن لفترات طويلة، تتراوح بين عشرين و45 عاماً، كونهم استخدموا مثل هذه المنصات للتعبير عن عدم موافقتهم على سياسات الحكومة.
وبينما أطلق (محمد بن سلمان) سراح بعض الناشطات البارزات اللاتي سُجنن بتهمة الترويج لحق المرأة في قيادة السيارة، تم احتجاز أخريات منذ ذلك الحين، مع بقاء العشرات منهن رهن الإقامة الجبرية وأصبحن غير قادرات على مغادرة البلاد. فهو لم يستهدف المجتمع المدني والمواطنين العاديين الذين يجرؤون على التحدث بصوت عالٍ فحسب، بل استهدف أيضاً أفراد النخبة السياسية والاقتصادية السعودية القوية، بما في ذلك أفراد العائلة المالكة.  
في عام 2017، أطلق ما يسمى بحملة مكافحة الفساد، وحسبما ورد فقد اعتقل مئات الأمراء وكبار رجال الأعمال وغيرهم من الشخصيات البارزة، وأجبرهم على تسليم ثرواتهم في محاولة واضحة للقضاء على المعارضين المحتملين لحكمه.


•تركيز جديد في الخارج
ولتكملة إصلاحاته الداخلية غير المتكافئة، بدأ (محمد بن سلمان) في اتباع سياسة خارجية تركز بشكل جديد على المبادرات الدبلوماسية، سواء لتسهيل العلاقات مع جيران المملكة العربية السعودية أو لحل الصراعات الطويلة الأمد داخل الشرق الأوسط وخارجه.
و تجد أن المملكة العربية السعودية تهدف لسبب واحد وهو توسيع علاقاتها الخارجية بطرق يمكن أن تجلب المزيد من الاستثمار الأجنبي. و تشمل الأمثلة من العام الماضي استضافة الرياض لعدد مذهل من مؤتمرات القمة الكبرى مع مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى الولايات المتحدة والصين ودول آسيا الوسطى. و من بين زعماء العالم الذين زاروا المؤتمر الرئيس الأمريكي (جو بايدن) والرئيس الصيني (شي جين بينغ) ورئيس الوزراء الياباني (فوميو كيشيدا).  وكجزء من مجلس التعاون الخليجي شاركت المملكة العربية السعودية أيضاً في الاجتماع الوزاري السادس المشترك بين روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي للحوار الاستراتيجي في موسكو.
لكن المناورات الجيواستراتيجية للمملكة تذهب إلى أبعد من ذلك، فقد بذلت جهداً كبيراً في حل النزاعات مع جيرانها وترسيخ مكانتها كقوة دبلوماسية ذات ثقل إقليمي وعالمي. و أنهى السعوديون حصاراً دام قُرابة أربع سنوات على قطر في يناير/كانون الثاني 2021، واستأنفت العلاقات الدبلوماسية مع إيران في مارس/آذار بعد أكثر من سبع سنوات من قطع العلاقات، وتشارك الآن في محادثات مع الحوثيين في محاولة لإنهاء التدخل العسكري للمملكة في اليمن.  وأسسوا أيضاً مجلس البحر الأحمر في عام 2020، وفي عام 2023، أصبحوا شركاء في الحوار مع منظمة شنغهاي للتعاون، وهي منظمة أمنية إقليمية أوراسية تضم الصين وروسيا والهند. كما تجري المملكة العربية السعودية أيضاً محادثات لتصبح عضواً في مجموعة البريكس - مجموعة الاقتصادات الناشئة التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا - بحلول يناير 2024. ولعل الأمر الذي رفع  سقف طموحاتها هو أنها قامت على مدى الأشهر القليلة الماضية بتسهيل المفاوضات بهدف إنهاء الحروب الوحشية والمستعصية في السودان وأوكرانيا، واستضافة محادثات في الفترة من مايو/آيار إلى يوليو/ تموز، والثانية في أغسطس/آب.
وتقول الرياض إن الدافع وراء ذلك هو الرغبة في خلق جو أعمال إقليمي أفضل، حيث قال مسؤول سعودي (لمجموعة الأزمات) : إن "الرؤية السعودية 2030 لن تنجح من دون الاستقرار والأمن الإقليميين".  ولكن هناك ما هو أكثر مما هو عليه الآن، الامر الذي جعل النهج الجديد يستفيد أيضاً من التصورات السعودية بأن الولايات المتحدة أصبحت غير موثوقة في دورها الفعلي منذ فترة طويلة كضامن لأمن الخليج، مما يضع المزيد من الضغط على فن الحكم السعودي لخلق مناخ جيوسياسي يفضي إلى أهدافها ومصالحها.
و كانت المخاوف السعودية بشأن موثوقية الولايات المتحدة تتراكم لسنوات، بدءاً بغزو الرئيس (جورج دبليو بوش) للعراق في عام 2003، والذي حاول السعوديون آنذاك ثني الولايات المتحدة عن شنه. كما أثار تعامل الرئيس (باراك أوباما) البارد مع شركاء الولايات المتحدة منذ فترة طويلة -مثل حسني مبارك في مصر وسط الانتفاضات العربية عام 2011- غضب الطبقة الحاكمة السعودية.  وشعر السعوديون بالفزع أكثر من الاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما مع إيران عام 2015، والذي قالوا إنه سيوفر لطهران الأموال اللازمة لتمويل استعراض قوتها الإقليمية.
و من إحدى الأحداث التي وجدها السعوديون مزعجة بشكل خاص كانت عندما فشلت الولايات المتحدة في الرد بشكل مناسب -من وجهة نظرهم- على هجوم كبير على منشآت أرامكو في عام 2019، والذي أدى بشكلٍ مؤقت إلى توقف حوالي نصف إنتاج النفط في البلاد. و قامت إدارة الرئيس (دونالد ترامب) في البداية بالرد -بخطابً مُتشدد- على الهجوم، الذي نسبته إلى إيران، قائلة : "أن الولايات المتحدة كانت جاهزة ومستعدة".  لكنها أشارت بعد ذلك إلى أن الولايات المتحدة لا تريد الحرب مع إيران ورفضت التدخل عسكرياً، و كان السعوديون قلقين بشكل خاص من تنحي الولايات المتحدة في عهد رئيس اعتبروه صديقاً وحليفاً، حيث بذلوا جهوداً كبيرة لكسب ودهم، و ذلك من خلال دعم حملة "الضغط الأقصى" التي تشنها إدارته ضد إيران. و سلطت الأحداث الضوء على مدى ميل السياسة الأمريكية إلى الخضوع للمصالح والضغوط السياسية بشكل مستقل عن من يجلس في البيت الأبيض.
ولم يؤدِ انتخاب الرئيس بايدن اللاحق إلا إلى زيادة الشعور في الرياض بأنها بحاجة إلى نهج مختلف جذرياً وأقل اعتماداً على الدعم الأمريكي، حتى لو كان ذلك يعني التقارب مع الجيران الذين كانت علاقاتها معهم متوترة وبشكلٍ تقليدي. و من خلال الحملة الرئاسية، هاجم بايدن السعودية بسبب سجلها في مجال حقوق الإنسان وسلوكها في اليمن، كما قام بتحذير المملكة من أنها "ستدفع ثمن" مقتل الصحفي السعودي (جمال خاشقجي) -المقيم في الولايات المتحدة)- عام 2018.  وبعد فوزه في الانتخابات، أصدر بايدن تقريراً للمخابرات الأمريكية جاء فيه أن ولي العهد وافق على عملية "القبض على أو قتل خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول".  كما أنهى الدعم الأمريكي ”العمليات الهجومية” السعودية في اليمن.
ومنذ ذلك الحين تراجعت إدارة بايدن بشدة حيث زار الرئيس المملكة لحضور مؤتمرات قمة ثنائية ومتعددة الأطراف، ومهّد الطريق لاشتباك بايدن و محمد بن سلمان.  وفي الآونة الأخيرة بدأت تُغزل صفقة من شأنها تمديد الضمانات الأمنية الأمريكية ودعم برنامج الطاقة النووية المدنية مقابل صفقة تطبيع سعودية إسرائيلية غير متوقعة.  ومع ذلك، ليس هناك ما يشير إلى أن الرياض تنوي الانحراف عن استراتيجية التحفظ التي تبنتها فيما يتعلق بالولايات المتحدة.
و يُعد جُزءاً كبيراً من جهود المملكة العربية السعودية للابتعاد عن اعتمادها التقليدي على الولايات المتحدة هو تعميق العلاقات السياسية والاقتصادية مع القوى المنافسة مثل الصين وروسيا، فضلاً عن وضع نفسها كزعيم رئيسي لما يسمى بالجنوب العالمي.  و قام خبراء خليجيون بوصف هذه المناورات بأنها تخدم هدف الرياض المتمثل في تشجيع "حركة عدم الانحياز الجديدة"، والتي تتولى فيها دوراً قيادياً.  و يقول المسؤولون والخبراء السعوديون إنهم ببساطة يظهرون قومية "السعوديين أولاً" التي أصبحت تمثل روح السياسة الخارجية للمملكة.
و تحركت المملكة في هذا المسار الجديد بقوة، حيث رفضت اتباع المساعي الأمريكية والأوروبية لعزل روسيا في أعقاب الغزو الأوكراني وتواصل العمل مع روسيا بشأن السياسة النفطية في تحالف أوبك +، كما عمقت علاقاتها مع الصين.  وبعد استضافة الرئيس الصيني (شي) في أول قمة صينية عربية على الإطلاق في ديسمبر 2022، قامت بتعزيز العلاقات الاقتصادية مع أكبر شريك تجاري لها -من بين أمور أخرى- وتوقيع العشرات من مذكرات التفاهم لتعزيز التعاون الاقتصادي النفطي وغير النفطي.  كما قامت الرياض وبكين بتوسيع علاقتهما إلى المجال السياسي، كما رأينا في الاتفاق السعودي الإيراني الذي توسطت فيه الصين في مارس/آذار لاستئناف العلاقات. و قامت أيضاً بتوسيع شبكة تحالفاتها وشراكاتها.  وبالإضافة إلى الالتزامات المشار إليها أعلاه تجاه منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة البريكس، فقد وقعت على اتفاقيات اقتصادية وحوارات استراتيجية مع كل من القوى الإقليمية والاقتصادات الناشئة في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا.


•تحول محمد بن سلمان
كما أن هناك طريقة أخرى لفهم بعض عناصر السياسة الخارجية الجديدة للمملكة العربية السعودية على الأقل، والتي تعتبر جزء من جهد (محمد بن سلمان) لإعادة تشكيل صورته الدولية.  وقد شُوهت هذه الصورة بشدة من خلال سلسلة من التحركات التي تم الاستهزاء بها على نطاق واسع باعتبارها قسرية و وحشية، بينما هي في الواقع لم تفعل سوى القليل لتحقيق الأهداف السعودية.  وشملت هذه التحركات تدخلات المملكة في اليمن المجاورة بدءاً من عام 2015، وفرضها الحصار الجوي والبري والبحري المشار على قطر من عام 2017 إلى أوائل عام 2021، واختطاف رئيس وزراء لبنان (سعد الحريري) والتنكيل به في عام 2017، ومقتل خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018.
وتعتبر الرغبة في إبعاد المملكة عن هذه الأفعال أمر مفهوم بالنظر إلى مدى سوء استقبالها ومدى سوء نجاحها.  حيث أدى التدخل في اليمن إلى تعزيز الدعم الإيراني للمتمردين الحوثيين، وأدى أيضاً إلى هجمات (منسوبة إلى إيران) على أراضي المملكة العربية السعودية وعلى الشحن الدولي الذي يعتبر حاسماً لرفاهها الاقتصادي؛  وتسببت في مزيد من الضرر بسمعتها بالنظر إلى العدد الكبير من الضحايا المدنيين الناجم عن الهجمات السعودية.  حيث أدى فشل حصار قطر في الحصول على دعم أوسع نطاقًا خارج الدول المشاركة الأخرى - الإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر - وانتهى في النهاية دون تلبية الدوحة لأي من مطالب الرياض الثلاثة عشر. و  أثار احتجاز الحريري واستقالته القسرية المؤقتة في المملكة العربية السعودية غضب زعماء العالم وعمق مخاوفهم بشأن حكم محمد بن سلمان ومزاجه.  و أدى كذلك مقتل خاشقجي البشع إلى نفور العديد من المؤيدين التقليديين للمملكة في الكونغرس الأمريكي.
وبشكلٍ تراكمي جعلت هذه التحركات (محمد بن سلمان) لا يحظى بشعبية كبيرة بين العديد من القادة الغربيين، وهو الأمر الذي لم يخدم مصالحهم، حتى في عالم بدأ فيه السعوديون العمل بنشاط للتحوط من اعتمادهم على واشنطن.  وبالتالي، ليس من الغريب أن يكون للسياسة الخارجية الجديدة للمملكة ــ مع تركيزها على العلاقات الطيبة في الجوار فضلاً عن حل الصراعات العالمية ــ بُعد تأهيلي لولي العهد من بين أهدافها الأخرى.


•أربعة عوامل محددة
ومهما كانت الفوائد التي قد تجنيها المملكة العربية السعودية من سياستها الخارجية المعادة ضبط معاييرها (وسوف يكون هناك بعض الفوائد بلا شك)، فإنها ستواجه أيضاً حواجز على الطريق ما دامت التحديات الأساسية الرئيسية باقية دون معالجة.
أولاً: لم تفعل المملكة سوى أقل القليل لحل الخلافات الأساسية مع جيرانها، وخاصة إيران.  حيث أعادت الدولتان فتح سفارتيهما، وعينتا سفراء، وتبادلتا وفود كبار المسؤولين.  ومع ذلك، فإنهم لم يعالجوا بشكل هادف مصادر الاحتكاكات القديمة، بما في ذلك علاقات إيران مع الميليشيات في جميع أنحاء المنطقة، وتدخل كل جانب في الشؤون الداخلية للآخر، والنزاعات الحدودية البحرية وغيرها.  ومن المرجح أن تكون معالجة هذه القضايا في محادثات ثنائية وإقليمية جادة شرطاً أساسياً لنزع فتيل التوترات بشكل دائم بين هذه القوى الإقليمية ذات الثقل السياسي.
ثانياً : من شبه المؤكد أن المملكة العربية السعودية تفتقر إلى القُدرة على اتخاذ مجموعةٍ واسعة من المُبادرات الدبلوماسية. فهي تواجه بالفعل تحديات في العديد من ملفات الصراع، بما في ذلك في اليمن والسودان. كما إن جهود هذه الوساطة ، مثل النزاعات التي تحاول حلها، معقدة للغاية.  ففي اليمن يوجد هُناك تعقيد آخر يتمثل في وضع المملكة العربية السعودية كطرف في الصراع.  ومن المرجح أن تتطلب قدرة الرياض على التعامل مع العديد من عمليات الوساطة الرئيسية في وقت واحد، طاقماً أكبر من الخبراء الذين يتمتعون بمعرفة عميقة بالملفات ذات الصلة.  وسوف يستغرق الأمر بعض الوقت للتطور، وهناك خطر من أن المملكة ستتحمل أكثر مما تستطيع هضمه والتعامل معه في هذه الأثناء.  ومع ذلك و في الوقت الحالي لا تظهر المملكة أي اهتمام بتقليص طموحها. حيث أعرب المسؤولون السعوديون عن رغبتهم في لعب دور أكبر في التوسط في حرب أوكرانيا بعد الاجتماع الناجح المفاجئ في جدة في أغسطس/آب، والذي ضم الصين، حتى أنهم اقترحوا على مجموعة الأزمات أنهم يستكشفون طرقاً لإعادة إحياء عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية النائمة.  كما يواصلون الدعوة إلى مبادرة السلام العربية لعام 2002.
ثالثاً:  تواجه المملكة العربية السعودية منافسة من دولة الإمارات العربية المتحدة، الجارة التي لا ترغب برؤية الرياض تبرز كقوة دبلوماسية واقتصادية في المنطقة. و تعتبر دولة الإمارات العربية المتحدة -وهي عضو في مجلس التعاون الخليجي، والتي اتبعت منذ فترة طويلة سياساتها الاقتصادية والخارجية الطموحة- قوة إقليمية ثقيلة في حد ذاتها.  و تجد أبو ظبي نفسها في خلاف متزايد مع الرياض حول القضايا السياسية والاقتصادية، بما في ذلك الجهود المبذولة لحل حرب اليمن، وسياسات إنتاج النفط المتباينة، والنفوذ الجيوستراتيجي في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وطرق التعامل مع ملفات الوساطة الرئيسية مثل السودان.  وقد ذكرت صحيفة (وول ستريت جورنال) في يوليو/تموز أن محمد بن سلمان أخبر مجموعة من الصحفيين المحليين خلال مؤتمر صحفي غير رسمي في ديسمبر/كانون الأول أن الإمارات العربية المتحدة "طعنتنا في الظهر".  ولم يكن واضحاً ما الذي كان محمد بن سلمان يشير إليه، ولكن من المحتمل أنه كان يتحدث عن واحد أو أكثر من الاختلافات السياسية المذكورة أعلاه.  وفي نفس الإحاطة، قال محمد بن سلمان إنه قدم إلى الإمارات قائمة مطالب، مهدداً بذلك اتخاذ إجراءات عقابية إذا لم تمتثل أبو ظبي لها، وقال للصحفيين: “سيكون الأمر أسوأ مما فعلته مع قطر”.  سواء كان هذا التصريح جدياً أو تبجحاً أدائياً، فإن التوترات بين الرياض وأبو ظبي حقيقية، وكيفية تعامل محمد بن سلمان معها ستكون علامة مهمة على ما إذا كان السعوديون مستعدون حقاً لطي صفحة السياسات الإقليمية القسرية التي أوقعتهم في المشاكل في الماضي.
رابعاً: حتى لو لم يمنع بعض الغضب بشأن مقتل خاشقجي والحرب في اليمن واشنطن من الضغط من أجل علاقات أكثر ثقة، فإن سجل الرياض في مجال حقوق الإنسان سيظل مهماً في العلاقات الأمريكية السعودية.  حيث ان لدى العديد من السياسيين الأمريكيين والجهات الفاعلة في المجتمع المدني وجهات نظر سلبية للغاية تجاه محمد بن سلمان والتي يمكن في بعض الظروف أن تخلق تكاليف سياسية لأي إدارة تقترب منه أكثر من اللازم.  وتزداد هذه التكاليف عندما تظهر أخبار مثل تقرير (هيومن رايتس ووتش) الأخير عن قيام حرس الحدود السعوديين بقتل مئات المهاجرين الإثيوبيين على الحدود السعودية اليمنية، أو الحكم بالإعدام على (الغامدي) الناقد عبر وسائل التواصل الاجتماعي.  وفي الوقت الحالي يبدو أن إدارة بايدن مستعدة لاستيعاب هذه التكاليف.  ولكن كما أظهرت قضية خاشقجي، فإن المزاج السياسي الأمريكي تجاه المملكة يمكن أن يتغير بسرعة، في حين أن استراتيجية التحوط التي تتبعها الرياض تعني أنه سيكون لديها أصدقاء أقوياء و بغض النظر عن الطريقة التي تهب بها الرياح في واشنطن، فإن المملكة التي تريد أقصى قدر من المرونة للتمحور بين معسكرات القوى الكبرى ستحتاج إلى تحسين عملها فيما يتعلق بحقوق الإنسان.

 

الخاتمة
تتطلع المملكة العربية السعودية وولي عهدها الذي شُوهِت سمعته ولكن لا يزال طموحاً، إلى عالم متغير و بمكانة أكثر بروزا.  حيث إنهم يريدون أن تتمتع المملكة باقتصاد متنوع، وأن تكون قائدة إقليمية تعيش في سلام مع جيرانها، وأن يُنظر إليها في جميع أنحاء العالم على أنها صاحبة ثقل دبلوماسي.  وهذه الأهداف في حد ذاتها لا يمكن الاعتراض عليها، ولكن لا يزال أمامنا طريق طويل لنقطعه إذا أردنا تحقيقها. و في حال تمكنت المملكة من التعامل مع التحديات الأساسية الرئيسية - التعامل مع القضايا الأساسية التي تثير التوترات مع طهران، وتطوير قدرتها الدبلوماسية، ووقف دوامة المنافسة مع الإمارات العربية المتحدة، والتعامل بجدية أكبر مع الحاجة إلى حماية حقوق الإنسان - فستكون هذه الفجوة  بين تطلعات الرياض والواقع يمكن أن يبدأ في التضييق.  وحتى ذلك الحين، ربما تظل قادرة على إحراز تقدم على جبهات معينة، ولكن من المرجح أن يظل التحول الشامل بعيد المنال، وسيكون النجاح النهائي لرؤية 2030 في خطر.


التعليقات