على مدى سنوات للحرب في اليمن، تصدرت أخبار انتهاكات حقوق الإنسان والوقائع التي ترقى إلى جرائم حرب عناوين الكثير من وسائل الإعلام، لكن في ظل الهدنة الهشة، يطل السؤال الكبير المرتبط بآلاف إلى عشرات الآلاف من الضحايا وملايين المتضررين، عن مصير العدالة أو في حدها الأدنى إجراءات المساءلة بحق مرتكبي تلك الجرائم، أم أن التحديات والتعقيدات تواصل تعميق الهوة بين الضحايا وبين العدالة.
هذا السؤال المحوري الذي تتجاوز عناصره اليمن إلى الإقليم والمجتمع الدولي الفاعل، يتناوله التقرير الأحدث الصادر عن كلٍ من منظمة مواطنة لحقوق الإنسان ومركز سيزفاير للحقوق المدنية على امتداد 88 صفحة، مدعمة بالخلفيات وعرض الوقائع والأبعاد السياسية والقانونية، حيث يفحص "التقرير العديد من السبل لملاحقة المساءلة الجنائية عن الجرائم الدولية المرتكبة في اليمن منذ سبتمبر/ أيلول 2014".
التقرير الذي جاء تحت عنوان "الكفاح من أجل العدالة"، يقيّم الجدوى والآثار المحتملة لمتابعة كل من سبل المساءلة "أخذا في الاعتبار الحقائق الراهنة للحرب الدائرة"، لا سيما النظام القضايا المحلية لأطراف النزاع، والمحكمة الجنائية الدولية، والمحاكم المحلية الأجنبية في الدول الأخرى. ويستكشف "إمكانية إرساء آليات مساءلة دولية جديدة، ألا وهي آلية تحقيق دولية مستقلة ذات تركيز جنائي، آلية تحقيق وتقرير مستقلة من المجتمع المدني، ومحكمة جنائية دولية خاصة".
•ما من أيادي نظيفة
ويسلط التقرير الضوء على استمرار الانتهاكات، بعد أكثر من ثماني سنوات من النزاع المسلح، إذ "لا يزال السكان المدنيون في اليمن يتعرضون لانتهاكات وتجاوزات جسيمة للقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان في مناخ يسوده الإفلات من العقاب"، في حين قد ترقى فيه "العديد من هذه الانتهاكات إلى جرائم بموجب القانون الدولي مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية". ويؤكد على أن جميع أطراف النزاع ومن يدعمهم يتحملون المسؤولية حيث "ما من أيادي نظيفة في هذه الحرب المدمرة"، ولا يمكن لأحد أن "يدعي أنه يجهل الفظائع التي ارتكبت ولا تزال تُرتكب ضد المدنيين في اليمن".
وتشمل المساءلة الجنائية التي يركز حولها التقرير الإجراءات القانونية الرامية إلى اثبات المسؤولية الجنائية الفردية للجناة عن تورطهم في جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، أو الإبادة الجماعية، أو غيرها من الجرائم الخطيرة، مثل التعذيب والاختفاء القسري. ويضيف قد "يشمل الجناة المحتملون المسؤولين السياسيين والعسكريين في الدول، وقادة وأعضاء الجماعات المسلحة من غير الدول أو القوات المدعومة أو المجنَّدة من الدولة، وكذلك مسؤولي الدول، والمديرين التنفيذيين للشركات، وفي بعض الولايات القضائية، الشركات كأشخاص اعتباريين مشاركين في نقل الأسلحة إلى الأطراف المتحاربة".
•تحديات وواقع المساءلة
ويستعرض التقرير، جملة من القضايا والتحولات المرتبطة بملف المساءلة، وعلى رأسها فريق الخبراء الذي تشكل بقرار من مجلس حقوق الإنسان للتحقيق في الجرائم المرتبكة في اليمن، وما خلصت إليه التقارير الدولية من حقائق فظيعة بشأن الانتهاكات، مروراً بالانتكاسة التي تعرض هذا الملف في العام 2021، بحل الفريق، كما يشخص الآليات المحلية والدولية ذات الصلة، مثل فريق "تقييم الحوادث" التابع للتحالف بقيادة السعودية، و"اللجنة الوطنية للتحقيق بانتهاكات حقوق الإنسان" التي تتبع الحكومة المعترف بها دولياً، وكذلك "لجنة الإنصاف وهيئة رفع المظالم"، الذي شكله أنصار الله (الحوثيين).
إلى جانب ذلك، يناقش تقرير "الكفاح من أجل العدالة"، كافة الجوانب المتصلة بواقع وتحديات المساءلة الجنائية، على مستوى القانون اليمني والمحاكم اليمنية، والقضاء في الدول ذات الصلة، وهي المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وجمهورية إيران الإسلامية، وذلك في سبيل بلوغ السُبل الممكنة للمساءلة عن الجرائم المرتكبة في اليمن وفقاً للقانون الجنائي الدولي.
ويشدد التقرير على أهمية "إعطاء الأولوية بشكل عاجل للسعي لتحقيق العدالة في الجرائم الدولية وغيرها من انتهاكات القانون الدولي المرتكبة في اليمن."، إذ "لم تكن التدابير المحدودة المتخذة حتى الآن كافية على الإطلاق لسد الفجوة الواسعة قي المساءلة وضمان حق الضحايا في الوصول إلى العدالة". ويوضح أن "العمل الدولي عاجل وضروري. فنظم المحاكم المحلية للأطراف المتحاربة لا تشكل السبل المتاحة لمتابعة المساءلة. ويتحمل المجتمع الدولي مسؤولية هامة لضمان العدالة فيما يتعلق بالجرائم الفظيعة التي ارتكبت ولا تزال تُرتكب ضد المدنيين في اليمن".
•العدالة أساس للسلام
وإذا كان "السلام"، على رأس العناوين المرتبطة بالحرب وما يتصل به من جهود دولية تقودها الأمم المتحدة، والذي يُثار معه السؤال عن طبيعة التأثير التي يمكن أن تتركها المساءلة الجنائية عن الجرائم المرتكبة في اليمن، يوضح التقرير أن "المستوى الهائل من حالة الإفلات من العقاب"، كان "من بين العوامل الرئيسية التي ساهمت في الفظائع التي ارتكبتها جميع الأطراف المتحاربة في جميع أنحاء البلاد".
بالإضافة إلى ذلك، فإن تحميل المسؤولين عن الجرائم الدولية في اليمن المسؤولية الجنائية يخدم أغراضًا مهمة، بنظر التقرير، الذي يقول إنه "يمكن للمساءلة الجنائية أن تحدث فرقًا حقيقيًا على الأرض من خلال تعزيز حماية السكان والأفراد المدنيين والأعيان المدنية وتلعب هذه الجهود دورًا حاسمًا في كسر دائرة العنف والإفلات من العقاب، لردع الفظائع ضد المدنيين والمساهمة في عدم تكرارها".
ويخلص التقرير إلى أن تحقيق سلام دائم في اليمن يتطلب "العمل على تحقيق المساءلة الجنائية الشاملة. وينطوي ذلك على مخاطبة الجناة من مختلف أطراف النزاع ومن يدعمهم، وكافة الجرائم والانتهاكات الدولية ذات الصلة بالحرب في اليمن. المساءلة الشاملة تستبعد أي شكل من أشكال العدالة الأحادية الجانب أو الجزئية وتعترف بعدم جواز العفو بموجب القانون الدولي. كما تتطلب العدالة لشعب اليمن تعويضات لملايين الضحايا المدنيين الذين عانوا من أضرار ودمار لا يمكن تصوره على أيدي الأطراف المتحاربة".
•خارطة طريق لتحقيق العدالة
بصورة عامة، يمثل التقرير بما احتواه من أدلة وشواهد وبراهين لم تغفل بعض التجارب الدولية، مثل إجراءات التحقيق المرتبطة بالجرائم في سوريا وماينمار، بمثابة خارطة طريق، تعمل على تفكيك التحديات وتوضيح السبل الممكنة، إذ يؤكد كيف أنه بالإمكان "عمل الكثير للسعي فورا لتحقيق العدالة"، وينوه إلى أنه ما لم يتحرك المجتمع الدولي لـ"سد فجوة الإفلات من العقاب"، فإن "منظمات المجتمع المدني ستُشجّع على النظر في تضافر جهودها في آلية أو منير مستقل لضمان تحول مطالب المساءلة والعدالة إلى إجراءات عملية ملموسة".
ومن أهم ما يخلص إليه التقرير، التشديد على أن "الخطوة الأولى الأساسية لأي إجراءات مساءلة في المستقبل"، تتمثل في جمع وحفظ الأدلة في الوقت المناسب على الجرائم الدولية التي ارتكبتها مختلف الأطراف المتحاربة في اليمن"، وعلى أنه "يجب أن يتم إنشاء آلية دولية مستقلة ذات تركيز جنائي لليمن من قبل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة و/ أو الجمعية العامة للأمم المتحدة دون تأخير".
ويضيف أنه "يمكن لهذه الآلية المفوضة من الأمم المتحدة أن تبدأ في إرساء الأساس للعدالة الجنائية بحيث يمكن الاستفادة من سبل المساءلة الحالية وربما الجديدة، مثل المحكمة الدولية (المدولنة)، بشكل فعال في المستقبل". وقد "تسهم هذه الآلية أيضًا اسهاما هاما في توسيع نطاق العدالة الانتقالية، من خلال تدابير كالتعويضات أو البحث عن الحقيقة". كما أن "من شأن وجود آلية دولية مستقلة حقًا التغلب على إخفاقات هيئات التحقيق التابعة للأطراف المتحاربة في ضمان المساءلة، مع الحيلولة أيضا دون منح العفو الفعلي لمجرمي الحرب بحكم الأمر الواقع لعدم كفاية الأدلة".