اعتاد العالم منذ بضعة عقود على وتيرة غير مسبوقة من حيث تسارع الأحداث السياسية والتطورات الاجتماعية والقفزات العلمية الهائلة، التي بدأت تؤسس لعصر جديد تختلف معالمه وقواعده بشكل جذري عن العصر الذي امتدّ من نهايات الثورة الصناعية الأولى حتى أواخر القرن الماضي.
ومع بلوغ هذه الوتيرة ذروتها في مطالع هذا القرن، وخضوع السياسة شبه التام، على الأقلّ في البلدان الصناعية، للحسابات الاقتصادية وما تستنبطه الوسائل التكنولوجية الحديثة من قدرات على التأثير وتوجيه الرأي العام، بات من الواضح أن مراكز السلطة الحقيقية باتت خارج مواقعها التقليدية، ولم تعد حصراً على الحكومات والقيادات السياسية التي تديرها. لكن على الرغم من ذلك، فإن مصائر الدول الكبرى ما زالت مرهونة بقرارات زعمائها، وأفكارهم، وطموحاتهم، وأحياناً بمزاجهم، وأيضاً بمستويات شعبيتهم التي أصبحت أحد المحفزات الرئيسية للخطوات التي يقدمون عليها. وإذ يستعدّ العالم لفتح صفحة سنة جديدة، اختارت «الشرق الأوسط» أربعة من «كبار» زعماء العالم لتستعرض ما كانت حصيلة هذا العام بالنسبة لمسيرة كل منهم السياسية.
لأول مرة منذ عشر سنوات لم يعقد الرئيس الروسي مؤتمره الصحافي المعهود في نهاية العام، حيث كان يستفيض في استعراض أوضاع بلاده والعالم، ويوزّع التأكيدات بأنه يحكم سيطرته الكاملة على مقدرات الدولة وأجهزتها، والتطمينات بأن روسيا على الصراط الصحيح لاستعادة المجد الغابر وإعادة بناء الإمبراطورية. لكن بعد اجتياح أوكرانيا، وما نجم عنه من خسائر غير مسبوقة وهزائم عسكرية متلاحقة، اعتكر مزاج القيصر وانقطعت شهيته على الولائم الصحفية، حتى أمام جمهور مطواع كالذي درج على حضور مؤتمره السنوي.
الزعيم الروسي الأقوى منذ ستالين، والذي كانت الكاميرات تلاحقه في الداخل والخارج، صار يتهرّب من الأضواء بعد أن صار «منبوذاً» في معظم البلدان التي كانت تتنافس لاستقباله وتكيل له المدائح، بينما تقرر عشرات وسائل الإعلام الدولية اختيار عدوّه اللدود، فولوديمير زيلينسكي، شخصية العام وأكثر الزعماء السياسيين تأثيراً في العالم.
فادحاً كان خطأ بوتين في حساباته العسكرية، وفادحة كانت تداعيات هذا الخطأ على سمعة روسيا باعتبارها قوة حربية عظمى. خسر معركة كييف، ومعركة خاركيف، ومعركة خيرسون.
دمّره الأوكرانيون واستولوا على آلاف الدبابات الروسية، وزاد عدد الخسائر في صفوف الجيش الروسي على مائة ألف بين قتيل وجريح؛ ما دفع بالقيصر إلى إصدار أوامره بأول تعبئة عسكرية في روسيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
شعر بوتين بعزلة لم يعرف مثلها منذ أن كان يدير عمليات المخابرات السوفياتية في ألمانيا الشرقية، بينما وجدت روسيا نفسها محاصرة سياسياً واقتصادياً مثلما كانت عليه عقب قيام الثورة البولشفية.
هدد القيصر بالنووي بينما كان الناطق باسمه ديمتري بسكوف يصرّح: «لا أحد يحبنا، ولا يريد أحد أن يحبنا».
كان الرئيس الروسي يردد أن تفكيك الاتحاد السوفياتي هو أفدح خطأ جيوسياسي في القرن العشرين. واليوم أصبح قراره غزو أوكرانيا أكبر خطأ جيوستراتيجي في العصر الحديث. لا شك في أن بوتين هو الخاسر الأكبر بين زعماء العالم هذا العام.
في الشائع من القول إنه خير للمرء أن يكون محظوظاً من أن يكون لامعاً، والرئيس الأميركي يملك وافراً من الحظ في السياسة. أمضى جو بايدن الأشهر التسعة الأولى من هذا العام في أسفل درجات شعبيته، التي عادت إلى الارتفاع بعد نتائج الانتخابات النصفية، ليس لأن الديمقراطيين فازوا فيها، بل لأن الجمهوريين لم يحصدوا الفوز الكاسح الذي كانت تتوقعه الاستطلاعات كلها، بينما خسر الحزب الديمقراطي الأغلبية في مجلس النواب، واحتفظ بأكثرية هزيلة في مجلس الشيوخ.
ما زال بايدن لم يحسم أمره بعد بشأن قرار الترشح لولاية ثانية، بينما يقول المقرّبون منه إن قراره محسوم منذ فترة بالترشح، ويعلّق المحللون بأن تريثّه في إعلان القرار ليس بسبب رغبته في استمزاج أسرته بشأنه، بل للتأكد من عدم ظهور مرشح ديمقراطي آخر ينافسه في الانتخابات الأولية.
ويعترف مستشارو الرئيس الأميركي بأن ما تمكّن الديمقراطيون من تحقيقه خلال هذه السنة، الثانية من ولاية الرئيس، كان معظمه بفضل خصومهم الجمهوريين، فضلاً عن أن معظم القوانين التي أقرّها الكونغرس، مثل قانون البنى التحتية، وقانون الاستثمار في الصناعات التكنولوجية المتطورة، وقانون تنظيم بيع الأسلحة الفردية وهو الأول من نوعه منذ ثلاثين عاماً، كانت بتأييد مشترك بين الحزبين، الديمقراطي والجمهوري.
يقول المحللون الأميركيون إن قلّة من الرؤساء الأميركيين كانت السنة الثانية من ولاياتهم الأولى أفضل من هذه السنة بالنسبة لبايدن، وذلك رغم معدلات التضخم القياسية، وتداعيات الجائحة والحرب في أوكرانيا التي كانت كلها تنذر بهزيمة نكراء في الانتخابات النصفية، وتراجع كبير في شعبيته.
ولعلّ الإنجاز السياسي الأهمّ بالنسبة لبايدن هذه السنة، كان نجاحه في تأمين دعم الحزب الديمقراطي له. فقد جرت العادة أن الرؤساء الذين يتمتعون بدعم قوي داخل حزبهم، ولا يواجهون منافسة في الانتخابات الأولية، يفوزون بولاية ثانية (دونالد ترمب شذّ عن هذه القاعدة عام 2020).
ولا شك في أن قرار المحكمة العليا الأميركية إسقاط الحماية الدستورية للحق في الإجهاض بعد خمسين عاماً على تكريسها، أعطى الحزب الديمقراطي، وبايدن، ذخيرة سياسية وافرة، وزاد حظوظهم الانتخابية في عديد من الولايات الأساسية، ومن المؤكد أن هذا الموضوع سيكون محورياً في حملة الانتخابات الرئاسية المقبلة، التي ينتظر أن يعلن بايدن قراره بخوضها بعد عودته من العطلة التي يمضيها مع عائلته في «الجزر العذراء»، بينما يحصد الإعصار الثلجي عشرات القتلى ويخلّف أضراراً مادية هائلة في عدد من الولايات الأميركية.
2022 هي السنة التي تربّع فيها شي جينبينغ على عرش جمهورية الصين الشعبية، بلا منازع، وبسلطات مطلقة لم يعرفها زعيم صيني آخر منذ ماو تسي تونغ، بعد أن نصبّه الحزب الشيوعي في مؤتمره الأخير أميناً عاماً لولاية ثالثة على رأس نخبة حاكمة جديدة تدين له بالولاء التام وتتبنّى كليّاً رؤيته لتسخير ما يلزم من إمكانات لتعزيز الأمن القومي وتحويل الصين إلى القوة التكنولوجية العظمى الأولى في العالم.
وُلد جينبينغ في بكين، لكنه أمضى معظم سنين صباه وشبابه منفياً في الأرياف النائية عن العاصمة مع أسرته بعد حملة التطهير الواسعة التي طالت والده خلال الثورة الثقافية. وبعد تخرجه في كلية الهندسة الكيميائية، فشل ثلاث مرات في محاولته الانتساب إلى الحزب الشيوعي، لكنه أفلح في المرة الرابعة ليتدرّج بسرعة في مناصب قيادية قبل أن يصبح أميناً عاماً للحزب في شنغهاي ثم عضواً في اللجنة الوطنية الدائمة، إلى أن اختاره جينتاو «خلفاً» له ليصبح بعد ذلك أول أمين عام للحزب الشيوعي الصيني مولود بعد قيام جمهورية الصين الشعبية.
في الخطاب الذي اختتم به أعمال المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي قال جينبينغ إن المؤتمر «تكلل بالنجاح الكامل»، وهو كان يعني ضمناً أنه تمكّن شخصياً من تحقيق كل أهدافه: حزب واحد، عقيدة واحدة ورجل واحد يسود بسلطة مطلقة بعد أن أبعد كل الخصوم والمنافسين عن مراكز القرار.
لكن إذا كانت هذه السنة هي سنة تكريس زعامة جينبينغ على الصين التي لم تكن يوماً بمثل هذه القوة، فإنها قد تكون أيضاً سنة انتكاسته الجدّية الأولى، وبداية غير منتظرة للتشكيك في «رؤيته» وظهور أصوات تطالب بالمحاسبة وتحديد المسؤوليات. والسبب هو الموجة الوبائية التي تعصف بالصين منذ أسابيع، وتحصد الضحايا بأعداد قررت الحكومة عدم الإفصاح عنها بشكل دوري، كما جرت العادة منذ ظهور الجائحة.
جينبينغ هو الذي كان وراء سياسة «تصفير كوفيد» التي أعلن شخصياً أنه واضعها والمسؤول عنها، والتي كان يفاخر بها في كل المناسبات غامزاً من قناة الدول التي تتعامل مع الفيروس باستخفاف وتقلل من خطورته، ومتباهياً بما حققه النموذج الصيني من إنجازات على صعيد العدد القليل من الإصابات والوفيات. لكن الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها غالبية المدن الصينية الكبرى الشهر الماضي ضد تدابير العزل والقيود الصارمة التي يخضع لها المواطنون منذ أكثر من عامين، والاضطرار لاستدعاء الجيش من أجل السيطرة على المواجهات العنيفة، دفعت الحكومة إلى التراجع فجأة عن السياسة التي كانت قد اعتمدتها لمكافحة الوباء، والتي كانت منظمة الصحة العالمية قد نبّهت مراراً إلى أنها غير قابلة للاستخدام. وقد أدّى هذا الإلغاء المفاجئ للقيود إلى عاصفة فيروسية هوجاء أوقعت إصابات بالملايين ودفعت دولاً عدة، مثل الولايات المتحدة وإيطاليا، إلى فرض قيود على دخول الصينيين اعتباراً من الأسبوع المقبل.
حتى الآن لم يصدر أي تصريح على لسان الزعيم الصيني بشأن هذا الموضوع، الذي لم يغب عن أي من خطاباته في الفترة الأخيرة. ولم ترشح أي انتقادات لمسؤولين بشأن قرار التخلي المفاجئ عن تدابير المكافحة، أو بشأن مبدأ «تصفير الإصابات» الذي قامت عليه خطة الحكومة لمواجهة الوباء. لكن نهاية هذه السنة لم تكن قطعاً هي المتوقعة في حسابات جينبينغ.
في أبريل (نيسان) الماضي أصبح إيمانويل ماكرون أول رئيس للجمهورية الفرنسية يعاد انتخابه لولاية ثانية منذ عشرين عاماً، والأول منذ 57 عاماً الذي يجدد ولايته وهو يتمتع بالأغلبية في الجمعية الوطنية. لكن فوزه في الانتخابات الرئاسية بنسبة عالية قاربت 59 في المائة من الأصوات مقابل منافسته المرشحة اليمينية المتطرفة مارين لوبان، لم يكن نتيجة شعبيته المرتفعة بين الفرنسيين، بل بفضل الأصوات التي «أقرضه» إياها اليسار، مكرهاً، في الجولة الثانية لقطع الطريق أمام لوبان ومنعها من الوصول إلى سدة الرئاسة.
ولا شك في أن اليسار الذي يختزن كرهاً عميقاً لماكرون؛ بسبب سياساته وخططه الاجتماعية والعمالية، لن يدّخر جهداً لعرقلة جهوده خلال الولاية الثانية، خصوصاً بعد أن خسر الأغلبية البرلمانية في الانتخابات العامة التي أُجريت مطالع الصيف الماضي، والتي حقق فيها اليمين المتطرف أيضاً فوزاً تاريخياً بحصوله على 89 مقعداً في الجمعية الوطنية.
وكان ماكرون قد وصل إلى الانتخابات الرئاسية في أدنى مستويات شعبيته، مكرّساً جلّ جهده للملفات الخارجية بعد عامين من الجائحة، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والفتور المتزايد في العلاقات بين واشنطن وباريس، وفي ذروة الحرب الدائرة في أوكرانيا. لكن الأزمات التي واجهته خلال ولايته الأولى، وأدّت إلى تراجع شعبيته، قد تكون دون التي تنتظره منذ منتصف هذا العام مع بداية ولايته الثانية، مجرّداً من الأغلبية البرلمانية في مواجهة معارضة شديدة، مصممة على إفشال برنامجه السياسي، كما يستدلّ من موجة الإضرابات المتلاحقة التي تعصف بفرنسا منذ أسابيع.
وما يزيد من الصعوبات التي تنتظر الرئيس الفرنسي أن المقترحات التي تضمنها برنامجه الانتخابي جميعها مرهون تنفيذها بموافقة البرلمان الذي فقد سيطرته عليه. من السياسة المناخية الجديدة التي كان قد جعل منها عنوان ولايته الثانية، إلى الإصلاحات الطموحة التي طرحها على الصعيد الأوروبي، مروراً بتعديل النظام التقاعدي الفرنسي الذي يواجه معارضة شرسة من اليسار تنذر بموسم جديد من الاحتجاجات الشعبية والتمرد على غرار حركة «السترات الصفر» التي أنهكته في الولاية الأولى.
إلى ذلك يضاف أن ماكرون لم يفلح حتى الآن في اكتساب «زعامة» الاتحاد الأوروبي، التي تراوده منذ انكفاء المستشارة الألمانية أنغيلا ميركيل، وليس في الأفق ما يشير إلى أنه سيتمكن من اكتسابها في القريب المنظور.