يكشف هذا التحقيق عن مأساة يمنيين ضحايا المهربين وشبكات الإتجار بالبشر، ورحلة العذاب من اليمن نحو أوروبا، إما عبر بيلاروسيا أو عبر شمال أفريقيا لعبور البحر الأبيض المتوسط. الشهادات في التحقيق تكشف أيضاً شبكات منظمة واستغلال أوروبي لقضية اللاجئين، وضحايا ما زال مصيرهم مجهولاً إلى الآن.
حاولت أسرة سمير (اسم مستعار) إجباره على الانضمام إلى صفوف الحوثيين على جبهات القتال، لكن سمير الرافض حمل السلاح، لم يجد سبيلاً سوى الهرب نحو أوروبا، حاله كحال الخمسة آلاف طالب لجوء من اليمن المسجلين في أوروبا عام 2022.
سمير واحد من يمنيين كثر يفرّون من بلادهم نحو أوروبا هرباً من الحرب والفقر، والتضييق الذي تمارسه جماعات مسلحة، خصوصاً قوات الحوثيّ، ليجدوا أنفسهم ضحيّة الُمهربيّن والسياسات الأوروبيّة، إذ اتهم الاتحاد الأوروبي بيلاروسيا بتشجيع المهاجرين على عبور أراضيها إلى أوروبا بعد فرض عقوبات عليها. وفي تشرين الأوّل/ أكتوبر 2021، صوت البرلمان البولندي على قانون يعطي الحق لحرس الحدود بإعادة المهاجرين، ورفض طلبات لجوئهم من دون دراستها أو حتى النظر إليها.
وجد سمير في صنعاء وكالة سفريات (تقدم خدمات علاجية وطلابية في الخارج) تستخرج تأشيرات دخول إلى بيلاروسيا بالتنسيق مع مكتب في مينسك. تبين لاحقاً له أن الوكالة وهمية والأشخاص الذين سهلوا له السفر كانوا يتلاعبون به، والعقود كانت مزورة.
وصل سمير أواخر 2020 إلى القاهرة لتكون بداية معاناته الحقيقية.
اللافت أن سمير ليس وحده من وقع ضحيّة الاحتيال في السفر إلى بيلاروسيا ثم أوروبا، إذ كان كثر من المهاجرين السوريين ضحية خديعة مشابهة، وتُركوا على الحدود البيلاروسيّة لمواجهة مصيرهم بعد منعهم من دخول الأراضي البيلا وسيّة ، في حين تم ترحيل من وصل منهم عبر الطائرة إلى سوريا كون تأشيرات دخولهم مزوّرة.
•شبكة دوليّة و”إتجار بالبشر”
تكشف الحوادث المشابهة أننا أمام شبكة دوليّة، تتخفى وراء مسميات عدة، منها مطاعم أو مكاتب خدمات سفر، في صنعاء والقاهرة والخليج وبيلاروسيا وتركيا وإيران، وبعضهم يعمل من دبي والرياض وأوروبا لاستدراج الشباب عبر مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي. إذ تؤكد ميرفت مجلي، سفيرة اليمن في وارسو، أن “غالبية محاولات الدخول إلى الحدود البولندية بطريقة غير شرعية تتم عبر عصابات تهريب منظمة لديها مكاتب في كل دول العالم، حيث ينتهي المطاف بالضحايا في الغابات”.
وفقاً لشهادات عدد من الضحايا من المهاجرين التي حصل عليها “درج”، تتكرر رسائل صوتية تلقاها عدد من الباحثين عن الهرب الى أوروبا من شخص يقول إنه يتعاون مع المخابرات البيلاروسية، ويهدد كل من لا يدفع له بتلك العلاقة، وهذا ما أظهرته التسجيلات الصوتية التي اطلعنا عليها من الضحايا.
في أحد التسجيلات، نسمع هذا الشخص يُهدد شباباً كانوا في طريقهم الى الحدود شتموه بعد نصبه عليهم آلاف الدولارات، في حال لم يعتذروا له: “قسما بالله ورب العرش إذا لم يرسلوا بالتسجيل (اعتذاراً) أبلغ عنهم ليعودوا بنفس التاكسي الذي هم فيه الآن”.
الشخص نفسه في تسجيلات أخرى يتحدث عن المهاجرين وكأنهم مجرد سلعة ومصدر إثراء.
يرى سفير اليمن في المغرب، عزالدين الأصبحي، أن المهاجرين ضحايا حملات تضليل منظمة ومدروسة يروج لها وينفذها تجار الهجرة غير الشرعية، وبعض المهاجرين السابقين، مؤكداً أن الكثيرين ينتهي بهم الأمر ضحايا في أيدي عصابات الإتجار بالبشر، ويحذر قائلاً: “هذه الحملات تجد لها رواجاً في الفضاء الإلكتروني، وأول شيء يفعله المسؤولون عن التهريب هو نصح الضحايا بعدم التواصل مع الجهات الرسمية لدولتهم، بخاصة السفارات، ويخدعونهم بأن أي تواصل مع السفارة يُسقط حجة أنهم يتعرضون للاضطهاد، الأمر الذي سيخلّ بملفهم الخاص باللجوء”.
•في مواجهة الفخ
اكتشف سمير حقيقة “الفخ” حين وصل إلى القاهرة، إذ اتصل به منسق الرحلة ليسأله عن المبلغ الذي بحوزته، وحين أخبره سمير بأنه لا يمتلك الكثير، أغلق المنسق الهاتف بوجهه ثم اتصل به بعد دقائق شخص آخر من اليمن وأمره بجملة واحدة: “إذا لم يكن لديك 3000 دولار، عد إلى اليمن”، أدرك سمير أنه “وقع في فخ”، لكنه اجتهد ليحصل على المال ويسافر إلى بيلاروسيا.
في بيلاروسيا، استقبل (م.ش) سمير، وأوصله إلى السكن الجامعي وطلب منه دفع 4 آلاف دولار، سأله سمير “مقابل ماذا ؟”، فكان رد (م.ش) :”أنا أدخلتك بتأشيرة طالب، وعليك دفع قسط الجامعة والتأمين الصحي والسكن”، أجاب سمير بأنه لم يأت إلى بيلاروسيا بهدف الدراسة، فالاتفاق كان وما زال دخول أوروبا.
رد (م.ش) بعنجهية: “لا يا روح أمك ما فيش أوروبا، مشكلتك حلها مع المكتب في صنعاء، نحن اتفاقنا معهم تجي دراسة”. أدرك سمير حينها أنه وقع ضحية عصابة مافيا لا ترحم. أخذ منه (م.ش) 3650 دولاراً، ولم يترك له سوى 50 دولاراً، وأمهله أسبوعاً حتى يؤمن له بقية المبلغ (350 دولاراً).
اتصل سمير بالمسؤول عن المكتب في صنعاء، واتهمه بأنه خدعه، مطالباً إياه بالالتزام بالاتفاق، وإخراجه من بيلاروسيا. يقول سمير: “شتمني حين طالبته بالالتزام بالاتفاق، وهدد بسجن عائلتي ثم قام بحظر رقمي”.
•فضيحة وابتزاز
اتضح لاحقاً أن الشخص الذي ادّعى أنه مدير وكالة السفر في صنعاء، لم يعد يعمل في الوكالة منذ عام 2019. واتهمت وكالة السفر (أ.م.ع) باستخدام اسمها لحسابه الخاص، وحذرت: “نحن غير مسؤولين عن تصرفاته ولا نتحمل أي تبعات قانونية، وقد قمنا بالإبلاغ عنه وهو هارب منذ أربع سنوات”.
التسجيلات الصوتية التي حصلنا عليها وعقد الاتفاق، يكشفان أن سمير فعلاً وقع ضحية عصابة “إتجار بالمهاجرين”، تحت غطاء تقديم خدمات سفر؛ العقد بنصوصه “الغريبة” بين الوكالة ممثلة بـ(م.م.ع) وسمير، نص على أن الأخير سيدخل إلى هولندا بموجب دعوة، وأن فترة إقامته في بيلاروسيا لن تتجاوز الأربعة أشهر تبدأ من تاريخ بدء المعاملة بداية 2021. ومن بنود العقد، أنه في حال ألغى سمير المعاملة عليه دفع مبلغ 600 دولار غرامة، إضافة إلى الـ1190 دولاراً التي كان قد دفعها في صنعاء!.
تعرض سمير العالق في مدينة برست للابتزاز طوال 10 أشهر، مستغلّاً (م.ش) جهله بقوانين بيلاروسيا واللغة، ومهدداً إياه حين رفض دفع النقود، إذ قال له: “ستدفع أو سأبلغ عنك أنك أتيت بهدف دخول أوروبا، ستسجن سبعة أشهر وسيتم ترحيلك إلى اليمن”.
طلب (م.ش) من سمير ألف دولار، وأمهله شهراً لتوفيرها، وبعدما دفع له بعد ثلاثة أسابيع، طلب مجدداً 1500 دولار! يقول سمير:”رفضت، فسحبني بقوة من كتفي وقال لي: “ستمشي كما أريد أنا أو سيتم ترحيلك، عليك أن تتصرف وتوفره بأسرع وقت. خضعت مكرهاً لابتزازه ودفعت له المال، لأنه في تلك الأيام كان قد قدم بلاغاً كيدياً بأربعة يمنيين مدعياً أنهم يريدون دخول أوروبا، وتم فصلهم من الجامعة، انقبض قلبي حينها وشعرت وكأنه يرينا قدرته على فعل ما يشاء بنا من دون أن يحاسبه أحد”.
•اقتصاد الابتزاز
كان أسامة وليث وشفيق ويوسف طلاباً في الجامعة في برست، وقاموا برحلة قرب الحدود البولندية، حسب صديق لهم، فادعى (م.ش) أنهم يخططون للهرب إلى أوروبا، ففُصلوا من الجامعة على رغم أن (م.ش) هو من أوهمهم بأن بإمكانه إدخالهم أوروبا بطريقة قانونية، وأخذ منهم مبالغ مالية مقابل ذلك، لكنه خدعهم كما فعل بالآخرين.
يصف سمير تلك الفترة: “عشت في خوف وحزن واكتئاب، أبكي ليل نهار، لا أعلم ما الذي علي فعله للخروج من هنا، حرمت نفسي من الطعام ومن أشياء كثيرة لأوفر له الأموال، لقد أذاقني هذا الرجل الأمرّين، وعندما لم أعد أحتمل ابتزازه، قررت بحلول منتصف تشرين الأول 2021 الهرب إلى مينسك، والذهاب بمساعدة أصدقائي إلى الحدود. أوهمته إني عائد إلى اليمن، وحجزت تذكرة وهمية منتصف الشهر نفسه وطالبته بإعادة أموالي، رفض وأعاد لي فقط 1000 دولار!، علماً أنه ابتزني ونصب علي بما مقداره 6500 دولار”.
•نصب واحتيال بلا حدود
تواصلنا مع سفير اليمن في روسيا وبيلاروسيا أحمد الوحيشي، وسألناه حول الهجرة ونشاط المكاتب التي “تتاجر” باليمنيين، فرفض الإجابة والتعليق على نشاط المهربين، مكتفياً برد مفاده: “كل ما لدينا يتم إصداره في البيانات التوضيحية أعلاه”، في إشارة إلى البيانات التي أرسلها وتتعلق بأعداد المتوفين والعالقين من المهاجرين في الغابات.
لا يكتفي (م.ش) بالنصب، بل عرّض حياة الكثيرين للخطر، يقول شقيق أحد ضحاياه أنه ذهب بشخصين كان أخذ منهما سبعة آلاف دولار إلى الغابة، ورمى بهما من دون أن يهتم بمصيرهما. علق الشابان في الغابة واتصلا به لإنقاذهما، فتجاهل اتصالهما، وبعد خمسة أيام كادا خلالها أن يفقدا حياتيهما، ردّ عليهما واعتذر عن الخطأ!.
يقول محمد العدني، لاجئ مقيم في ألمانيا، “كاد (م.ش) يقتلنا، رمى بنا في الغابة وتركنا، ولم يقدم لنا أي حل، 11 يوماً أمضيناها ونحن في الغابة نواجه الموت”.
أكد بعض الضحايا أن بعض مسؤولي السفارة اليمنية في روسيا متواطئون معه، بل أن صداقة تربطه بأحدهم، إذ إن عدداً من الضحايا طالبوا السفارة بوضع حد لنشاط هذه العصابة، فطلبت منهم أسماء المكاتب والمهربين، وعندما وافاها الشباب بما طلبت تجاهلت رسائلهم!.
ندى (اسم مستعار)، التي تقيم في المانيا الآن ومعها شقيقها وابن عمها، وقعت أيضاً ضحيّة (م.ش)، إذ وصلوا إلى بيلاروسيا أواخر تشرين الأول 2021، واستغل (م.ش) وضعهم وأجّرهم شقة بــ600 لكل أربعة أيام، ولأنهم في كل مرة كانوا يعودون فيها من الغابة يخسرون مبالغ أكثر، نفدت أموالهم واضطرت ندى للتواصل مع مختار عبد المعز الذي كان ينشط حينها في قضايا اليمنيين العالقين في الغابات، وفعلاً ساعدهما عبر صديقه، ونقلهما إلى شقة آمنة، ملخصاً ما حدث معهما بقوله “لقد نصب عليكم الدكتور”.
•روسيا تستقبل اليمنيين حسب “مظهرهم”
في القاهرة، قدم عشرات الضحايا شكوى إلى السفارة اليمنية ضد مكتب سفر لصاحبه معاذ الجرادي، إحدى الشكاوى المقدمة كانت بتوقيع سبعة شباب سافروا إلى روسيا بتأشيرات (غير سليمة) حسب محضر الشرطة، وُمنعوا من دخول روسيا وأعيدوا إلى القاهرة. كان إجمالي المبلغ الذي قد دفعوه للجرادي حسب الشكوى المقدمة للسفارة، 28 ألفاً و250 دولاراً.
عدد من الضحايا قدموا شكوى إلى الجهات الأمنية المصرية. وأُلقي القبض على الجرادي وتم التحقيق معه في قسم شرطة مصر القديمة بتاريخ 3 كانون الأول/ ديسمبر 2023، وأحيلت القضية إلى النيابة، وتمت محاكمته وصدر حكم بسجنه لمدة عام. وبعد إعادة الأموال الى مقدمي الشكوى وعقد صلح معهم، أطلق سراحه، لكن في أيار/ مايو، صدر قرار بترحيله من مصر ومنعه من دخولها.
ادعى الجرادي البراءة في سلسلة فيديوات نشرها على حسابه على “فيسبوك” ولم يقدم إثباتاً على ذلك، بل قدم تبريراً غريباً لعدم سماح السلطات الروسية للضحايا بدخول أراضيها، وأشار أن سبب الرفض هو “مظهرهم”. وفي التحقيقات، قدم تبريراً لإعادة أحدهم من مطار موسكو بحجة أنه “وصل في منتصف الليل”.
يقول المستشار الإعلامي في السفارة اليمنية بالقاهرة، بليغ المخلافي، لــ”درج”، إن ضحايا مكاتب الهجرة غير الشرعية في القاهرة ليسوا فقط من الشباب، فهناك نساء وعائلات بكاملها تم النصب عليهم ولم تعد إليهم أموالهم، وبعضهم لم يستطع حتى استعادة جوازات سفره.
ويضيف المخلافي أن الشكاوى التي تقدم بها بعض الضحايا إلى السفارة، والتي حسب المستشار تعاملت معها بجدية وأحالتها إلى الجهات المصرية التي قبضت على أحد أصحاب المكاتب من المطار ثم تم ترحيله.
يشير المخلافي إلى مشكلتين تواجههم في السفارة: “التأشيرات التي تصدر إلى روسيا وبيلاروسيا بهدف التهريب إلى أوروبا، ومشكلة تأشيرات الشنغن المزورة، وبهذا الخصوص تم إيقاف الكثير ممن حصلوا على تأشيرات مزورة في مطار القاهرة، استلمتهم السفارة وتمت إعادتهم إلى اليمن”.
يوضح المخلافي قائلاً، إن هذه المكاتب في الأساس مكاتب سياحية، ولديها تراخيص من الجهات المصرية، ومسألة إغلاقها تعود إلى السلطات المصرية. ويختم حديثه: “نحن أبلغناهم بأن هذه المكاتب تستغل المواطنين اليمنيين الذين فروا من الحرب وتعدهم بالهجرة غير شرعية”.
• حدود بولندا-بيلاروسيا… “معابر الموت”
أشارت منظمة “أطباء بلا حدود” إلى أن المهاجرين المرضى على الحدود البولندية – البيلاروسية والحدود الصربية – المجرية، أبلغوا عن تعرضهم للاعتداء الجسدي وسرقة أغراضهم من قبل حرس الحدود والشرطة، وأيضاً تعرّضهم للهجوم من الكلاب تحت إشراف حرس الحدود، وحذرت المنظمة من سياسة الاتحاد الأوروبي التي قد تؤدي إلى مزيد من الوفيات بين المهاجرين واللاجئين.
نفت السفيرة ميرفت مجلي ما يتداوله ناشطون عن أن المهاجرين اليمنيين يُتركون للموت في الغابات، ويُضربون من حرس الحدود البولنديين؛ لكن وصلتنا من وسط الغابات ومن بين الثلوج أصوات يمنية مستغيثة، وحصلنا على شهادات كثيرة، منها تسجيلات صوتية وصور تؤكد تعرض المهاجرين للضرب وسوء المعاملة من حرس الحدود البولنديين والبيلاروس على حد سواء.
في تسجيل يستغيث صاحبه: “أنقذونا… نحن في الغابة منذ 23 يوماً، ومنذ ثلاثة أيام لم نأكل ولم نشرب. رفض حرس الحدود البولنديون إعطاءنا حتى كسرة خبز”. وفي تسجيل لآخر علق في الغابة بين حدود الدولتين، نسمع: “أنا أموت، أستحلفكم بالله لا تتركوني، أنقذوني، تعالوا خذوني، يا جماعة لم أجد ماء فاضطررت لشرب بولي”.
أسس ناشطون وأطباء وصحافيون بولنديون مجموعات لإنقاذ ومساعدة المهاجرين والبحث عن المفقودين، وينشرون على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي كل نشاطاتهم، فتلقوا تهديدات ومضايقات من أنصار الحكومة ومن المواطنين الرافضين دخول المهاجرين إلى بولندا. وتعمل منظمات في بيلاروسيا وليتوانيا وبولندا كـ(Gurpa Granica) و(Sienos Grupe) و(POPH) والصحافي البولندي الناشط في قضايا المهاجرين(بيوتر كزبان)على مساعدة المهاجرين.
سرد سمير ذو الـ23 عاماً (لاجئ في إحدى الدول الأوروبية) مأساته في ثلاثين صفحة، مليئة بالعنف الذي تعرض له ومن معه حين كان يعبر الحدود البولندية-البيلاروسيّة، إذ دفع هو وكل واحد كان معه مبلغ 100 دولار للمهرب، الذي رماهم عند الحدود وهرب، يقول :”لن أنسى ما فعله بنا جنود بولنديون، كنا نائمين تحت تلة صغيرة هرباً من أعينهم، جاؤوا على حين غرة، استفقنا من النوم مذعورين على أصواتهم وأسلحتهم المصوّبة باتجاهنا، ضربونا من دون رحمة”.
ندى (اسم مستعار) تعرضت هي الأخرى للنصب من المهربين والاعتداء من حرس الحدود، تقول: “في واحدة من المحاولات، كنا 36 شخصاً من جنسيات عربية مختلفة، بينهم نساء وأطفال. وصلنا التاسعة مساء إلى الغابة، كانت مظلمة لا نرى شيئاً، لم يمر على وصولنا سوى خمس دقائق حتى كان جنود بيلاروس يحاصروننا وضوء مصابيحهم مسلطاً علينا، أطلقوا علينا كلابهم البوليسية، وضربونا بالعصي والسياط وبأعقاب البنادق، وداسوا على وجوه الشباب وأخذوا منا حتى الطعام والماء”.
كتب أحدهم عن امرأة يمنية عالقة على الحدود البولندية-البيلاروسية عبر منصات التواصل الاجتماعيّ، فجاءت غالبية التعليقات خالية من أي تعاطف بل وحوكمت غيابياً من بعض مرتادي “فيسبوك”: “كيف ولماذا تهاجر؟ أليس لديها رجال”، بينما تعاطفهم كان كبيراً مع المهاجرين الذكور.
اليمنيّة فوزيّة تجاوزت الستين من عمرها، هي أرملة، وجدت نفسها عالقة في الغابة منذ بداية عام 2023، وتعيش بالقرب من إحدى الغابات البيلاروسية على حدود بولندا، تقتات على وجبة واحدة، وعلى ما تقدمه لها المنظمات من دقيق ومعكرونة، وتقطن “في سكن لا تعيش فيه حتى الحيوانات” حسب أحد الناشطين.
تقول فوزيّة في تسجيل حصلنا عليه: “لا أحد من اليمنيين مد لي يد المساعدة بل أهانوني وطردوني، قالوا لي لماذا تريدين الهجرة إلى أوروبا وأنت في هذا العمر ؟”، تعقب:” أنا أرملة وحيدة ليس لدي أحد، بناتي متزوجات، لن أعود إلى اليمن وأعيش عالة عليهن، سأنتظر قدوم الصيف وذوبان الثلج حتى أستطيع الدخول إلى أوروبا”.
أعلنت سفارة اليمن في وارسو مطلع تموز/ يوليو 2023، وفاة الشاب مجاهد الحويسك غرقاً والعثور على جثته في النهر الفاصل بين بيلاروسيا وبولندا. وأوضحت السفارة أنه تم العثور على جثته في 20 من الشهر نفسه، في حين أعلنت عائلة الحويسك في شباط/ فبراير الماضي فقدان الاتصال به منذ كانون الثاني/ يناير أثناء محاولته عبور النهر.
ونعت سفيرة اليمن في وارسو على حسابها في منصة إكس، الشابين أحمد الشوافي ومصطفى الريمي، اللذين توفيا أواخر كانون الأول من العام الماضي. وأُعلن أواخر كانون الثاني 2023 عن وفاة توفيق الحشيري، وجميعهم قضوا بسبب انخفاض درجة الحرارة. كما توفي اليوتيوبر الشهير عبدالمجيد الأشموري غرقاً أثناء محاولته عبور أحد الأنهار على حدود بيلاروسيا وبولندا في أيار/ مايو من العام 2022 .
مصير الكثير من اليمنيين مجهول في الغابات، إذ ما زال يسلم صالح يبحث عن نجله عبد الكريم (36 عاماً)، المفقود في الغابة منذ كانون الثاني. يقول: “أخبرني بأنه سيغادر روسيا إلى بيلاروسيا ومنها إلى بولندا، كان بصحبته ثمانية أشخاص لم يحدد جنسياتهم. ومنذ وصوله إلى الحدود، انقطع الاتصال به”،.وأضاف: “أفاد شخص من الذين كانوا معه وُجد في معسكر بولندي، بأنهم افترقوا عندما هاجمهم الجنود البولنديون. وحينما تجمعوا مرة أخرى وسلموا أنفسهم للسلطات البولندية لم يكن عبد الكريم بينهم”.
تواصل يسلم مع السفارة اليمنية في بولندا، التي أخبرته أنها بحثت عن نجله في المخيمات والمستشفيات، كما أن الحرس البولندي أرسل إليها صوراً لمتوفين ولم يكن عبد الكريم بينهم.
ذكرت السفيرة مجلي أن البولنديين كانوا، خلال لقاءاتهم بهم، واضحين بأنهم لن يسمحوا بدخول أراضيهم بطريقة غير قانونية، لكنهم ملتزمون في الوقت نفسه بتقديم المساعدة لأي شخص وجد على أراضيهم ونقله إلى المستشفى إذا استدعى الأمر.
أشار مسؤولو السفارات إلى مشكلة تواجههم تتمثل بفقدان اليمنيين أوراقهم الثبوتية، فأحياناً يتركونها لدى شخص قبل رحلتهم، لهذا لا توجد إحصائية دقيقة بعدد المتوفين أو المفقودين، خصوصاً إذا لم تقدم عائلاتهم بلاغاً. وبحسب مجلي: “خلال 2022، وجدت السلطات البولندية في غاباتها مائة يمني، بعضهم لا يحملون أوراقاً ثبوتية، إذ يقومون بتمزيقها أو تركها لدى وسيط في بيلاروسيا”.
•حدود اليونان – تركيا ليست أفضل حالاً
وضع المهاجرين اليمنيين على الحدود التركية-اليونانية ليس أفضل حالاً، ومن خلال روايتين لشابين حاولا العبور نحو اليونان، نكتشف عنف حرس الحدود، الذي أشارت منظمة “أطباء بلا حدود” الى قلقها الشديد تجاهه، ودعت إلى التحقيق في إفادات مئات المهاجرين حول اختطافهم وسوء معاملتهم.
كان نزار الجولحي (25 عاماً) أحد ضحايا تضليل المهربين وخداعهم، إذ غرّه أحدهم بسهولة الطريق وبأنّ مبلغاً يترواح بين 1800 و2400 دولار يكفيه لرحلة تستغرق شهرين، وتمر بعشر دول أوروبية حتى الوصول إلى وجهته (هولندا)، لكن نزار لم يمتلك أي فكرة عن مستنقعات الوحل والطين وصعوبة الطريق ووحشية الجنود.
وصل نزار الى أنقرة في 29 حزيران 2022 ثم اتجه إلى اسطنبول، يقول: “كنا 11 مهاجراً، أنا اليمني الوحيد بينهم، نُقلنا في شاحنة سائقها تركي من اسطنبول إلى أدرنه الحدودية، وكنا قد اتفقنا مع المهرب مسبقا على أن كل شخص سيدفع مائة دولار مع مساعدتنا على عبور النهر، غير أن الشخص المسؤول عن مساعدتنا لتجاوز النهر (سوري الجنسية) طلب 180 يورو اضطررنا لدفعها”.
يتابع: “أثناء محاولتنا تجاوز النهر، ظهر أمامنا عسكر الجندرما التركي، فاحتجزوا المهرب وضربوه، وأخبرونا بأنهم لن يؤذونا إن عدنا من حيث أتينا، وإلا سيتم ترحيلنا جميعاً إلى سوريا”.
ضل نزار ومن معه طريقهم وسط الحدود، وبعدما خذلهم المُهرب، ألقى حرس الحدود اليوناني القبض عليهم. يلفت: “جردونا من ملابسنا، لكن لم ينته الأمر هنا، بل أخذونا في شاحنة سارت بنا مسافة، ثم أنزلنا جنود آخرون من الشاحنة وفتشونا، وحين لم يجدوا شيئاً، ضربونا على الرأس والظهر والوجه، وجردونا مرة أخرى من ملابسنا. كان لديهم كلب بوليسي ضخم أطلقوه علينا ونحن عراة منبطحين على الأرض”.
بعد احتجازهم وضربهم، نُقلوا في شاحنات قرب نهر على حدود تركيا. يتابع نزار: “أنزلوا الفتاة والأطفال إلى قارب مطاطي ونقلوهم إلى الجانب التركي، أما نحن فتركت مهمة التصرف بنا لمرتزقة عراقيين وسوريين ملثمين لا يظهر من وجوههم شيء، كانوا يسألون كل شخص إن كان يجيد السباحة، لكن بغض النظر عن الإجابة، رمونا في النهر، وأنا لا أجيد السباحة، صارعت متبعاً نصائح أحدهم، ولم أصدق أني على قيد الحياة إلا عندما لامست قدماي التراب”.
يشير أيمن (اسم مستعار، 25 عاماً) المقيم في تركيا، الى أنه حاول الدخول إلى اليونان منذ بداية عام 2023، وفشل مرات عدة، وما زال يفكر بالمحاولة مرة أخرى. يقول في شهادته، إن مبلغ التأمين يتراوح ما بين 1300 أو 1500 دولار، وإذا فشلت الرحلة يعيد المهرب المبلغ إليهم مع حسم مائة دولار. ووفقاً لأيمن، يقوم المهرب بثلاث رحلات في اليوم، الأولى يستخدمها كطعم للجنود يلهيهم بها عن الرحلتين الأخريين، ولا يعلم المهاجرون في تلك الرحلة أنهم مجرد “طعم”.
في تركيا، أُعلن في 20 أيار/ مايو 2023، عن فقدان الشاب أحمد القدري (19 عاماً) بالقرب من جزيرة خيوس اليونانية. القدري كان قد قفز من المركب خوفاً من إعادته إلى تركيا. وفي 30 تشرين الأول 2022، أعلنت السفارة اليمنية في أنقرة عن فقدان ثلاثة يمنيين بعد غرق قارب مطاطي في بحر إيجه كان متجهاً إلى اليونان وعلى متنه 12 شاباً، بينهم ثلاثة يمنيين (مالك الشميري وفهد أحمد عبادي وصبري صالح).
يقول طلال جامل، الملحق الإعلامي في السفارة اليمنية بأنقرة: “تصلنا أرقام شبه يومية عن مواطنين تم القبض عليهم من قبل السلطات التركية، بخاصة في الحدود البحرية مع اليونان، وتحديداً في ولاية إزمير التركية، وبحسب مؤشر الإحصاءات التركية لجنسيات المهاجرين، فاليمن يأتي رابعاً بعد سوريا وأفغانستان وفلسطين”.
يضيف جامل أنه لا توجد إحصاءات دقيقة بعدد المفقودين والوفيات من المهاجرين اليمنيين، ويتابع: “وصلتنا معلومات عن 6 يمنيين فقط غرقوا في البحر العام الماضي، واتضح لاحقاً أن اثنين منهم في سجون اليونان.
يأسف جامل لعدم تجاوب أسرة المفقود أحمد القدري مع السفارة، ويفسر ذلك بقوله: “هناك نقطة نلاحظها، وهي قوة قاهرة تمنع أهالي الضحية من الإبلاغ وتقديم معلومات مفصلة عنها – عاداتنا وتقاليدنا – ثقافة العيب والخوف من الفضيحة. فيذهب الشاب ضحية العصابات أو يبتلعه البحر، ولا يقوم الأهل بالإبلاغ خوفاً من الفضيحة”.
•الحدود البحريّة في البحر المتوسط
لم يتمكن محمد اليزيدي من الحصول على تأشيرة دخول إلى أوروبا، ما اضطره للهجرة عبر المغرب، هناك تلقفته وغيره من المهاجرين أيدي المهربين الذي يبيتون في بيوت مهجورة على أطراف المدن، بعيداً عن أعين السلطات.
وصل اليزيدي ومن كان معه إلى نواكشوط في تموز 2019، ومنها أخذهم المهرب إلى مدينة باسكنو على الحدود مع دولة مالي، ومن مهرب إلى آخر وصلوا إلى آخر مدينة تربط بين مالي والجزائر، يصفها بأنها: “تبدو مدينة مهجورة! هي منطقة عسكرية خارج سيطرة الدولة، تخضع لسيطرة مجموعات مسلحة متمردة. ومن خلال تعاملهم، لاحظت وجود تنسيق بين هذه الجماعة والمهربين”.
ترك المهرب اليزيدي ومن معه في الصحراء بعدما اجتازوا مدينة تمنراست الجزائريّة، ثم أبلغ السلطات الجزائرية، فأتى الدرك الوطني وألقوا القبض عليهم، وصادروا جوازات سفرهم، ثم نُقلوا مكبلين إلى قسم شرطة رقان في ولاية أدرا.
حوكم اليزيدي ورفاقه بتهمة دخول الجزائر بطريقة غير شرعية، وصدر بحقهم حكم بدفع غرامة قدرها مليوني دينار جزائري عن كل شخص مع وقف التنفيذ، ومنعهم من دخول الجزائر لمدة خمس سنوات، وصودرت هواتفهم وثمانية آلاف دولار كانت بحوزتهم.
وافقت السلطات الجزائرية على تسليم محمد إلى السفارة اليمنيّة بشرط العودة إلى مصر، ثم صدر حكم بترحيله إلى النيجر. حُشر ومئات المهاجرين الأفارقة في شاحنات وتم رميهم جميعاً في صحراء النيجر. يقول اليزيدي: “وفي النيجر، أعادونا إلى المكان الذي رمتنا فيه السلطات الجزائرية بعدما كنا قد مشينا فترة طويلة”. يضيف قائلاً إن الضابط رمى بهم هناك، ونهرهم بنبرة حادة خالية من أي مشاعر إنسانية: “إياكم والعودة إلى النيجر”.
بعد محاولات عدة وسرقة واعتداء، دفع محمد وصديقه ثلاثة آلاف دولار لمهرب ودخلا إلى إسبانيا سباحة.
وأعلنت سفارة اليمن في كل من المغرب وإسبانيا، أنها تتابع موضوع الشاب المفقود معين شريف (27 عاماً)، الذي فقد في 13آب/ أغسطس الفائت أثناء محاولته برفقة شابين آخرين السباحة إلى سبتة. نجا الشابان وأعيدا إلى المغرب، بينما ظل مصير معين مجهولاً حتى اللحظة.
السفارة اليمنية في إسبانيا ذكرت أن عدد المتوفين منذ 2018 في البحر أثناء محاولتهم العبور إلى إسبانيا أربعة أشخاص، وهم اللاعب هلال الحاج (أيلول 2018، الدكتور ضيف الله الذيفاني (كانون الأول 2022)، عثمان الروحاني(2022)، ورشاد القاسم (كانون الثاني 2023).
•حدود إيران- تركيا
الحدود التركية -الإيرانية إحدى وجهات المهاجرين اليمنيين، إلا أننا لم نحصل سوى على شهادة واحدة من مهاجر عاد إلى اليمن، إذ يشتم هشام (اسم مستعار) في رسالة صوتية غاضبة المهربين بألفاظ نابية، ويتهمهم بالإتجار بأعضاء المهاجرين. يقول: “هؤلاء مافيا تجار أعضاء، نحمد الله أننا نجونا قبل سرقة كلانا وأكبادنا”، لافتاً إلى أن المهربين، وهم من جنسيات بنغالية وأفغانية وباكستانية، يجمعون المهاجرين في مساكن تحت الأرض. ويضيف:”إن نجوت منهم فأنت محظوظ، كل مُهرب كان يسلمنا للآخر، أخبرونا أن في أسفل جبل بإيران، ينتظرنا مرشد، خدعونا وساقونا ثلاثمائة شخص كالأغنام إلى هناك وسلمونا لجنود إيرانيين ضربونا وبصقوا علينا”.
•إجراءات لا ترقى إلى مستوى الكارثة
الإجراءات الرسمية المتخذة من الجهات الرسمية اليمنية لا ترقى إلى مستوى الكارثة، وما تقوم به هذه الجهات مجرد لقاءات مع الجهات المعنية، وبعضها مع الجاليات اليمنية في دول العبور، وبيانات نعي أو إعلان عن مفقود، وكأن دور السفارات فقط عد الضحايا وإصدار بيانات النعي.
يرى المستشار الإعلامي في السفارة اليمنية بالقاهرة بليغ المخلافي، أن معالجة هذه القضية هي مسؤولية مؤسسات دولة متكاملة، منها وزارات الإعلام والداخلية والخارجية وسفارات اليمن في الدول التي تُعتبر منطلقاً للهجرة غير الشرعية مثل مصر ودول شمال إفريقيا، والسعودية، وهي الأماكن التي يحصل فيها المهاجرون على تأشيرات بغرض الهجرة غير الشرعية. ويعتقد سفير اليمن في المغرب عز الدين الأصبحي، أن مسألة التوعية يجب أن تبدأ من الداخل اليمني وقبل أن يقع الشخص في براثن عصابات التهريب.