قضى سنوات عمره في مطاردة الثعالب والغزلان رافضاً العيش في المنازل وكل أشكال الحياة الحديثة.
آن للثعالب والضباع والغزلان والحيوانات المفترسة في شبوة أن تنام هانئة، فبعد أن ظلت رصاصات بندقيته العتيقة تؤرقها خلال رحلات صيده البرية التي لا تنقطع منذ عقود مضت، ها هو الموت يعلن عن الرحلة الأخيرة في مسيرة آخر رجل بدائي في اليمن بعد عقود من الحياة الغريبة والغامضة.
أزيد من 60 عاماً والرجل الصلب، عوض الحاشرة باعوضة، يجوب بقدمين حافيتين وجسد عار، تضاريس محافظة شبوة (شرق اليمن) المتنوعة بين الصحراء والجبل والسهول، يطارد الحيوانات ويصطادها فيبيع المفترسة منها كالضباع والثعالب ويترك التي اعتمد على غذائه من لحومها كالوعول والأرانب، بعد أن استنكف منذ طفولته الحياة العصرية والعيش في المنازل التقليدية الحديثة مفضلاً عنها البراري وشعاب الجبال وأكناف الرمال، قبل أن يخطفه الموت، أمس الثلاثاء، في حادث سير في منطقة الملح مدخل عزان الغربي أحزن أبناء المحافظة النفطية التي ظلت تتوجس منه خيفة على رغم وداعته وعدم عدائيته.
•مات مما أخافه
ولعل أغرب ما في سيرة باعوضة المليئة بالغموض والإثارة أنه ظل طوال سنوات عمره الـ80 يرفض رفضاً قاطعاً ركوب السيارات، بل كان يستعيذ منها، بحسب السكان، معتبراً ركوبها فأل سوء مفضلاً السير على أقدامه الحافية محملاً بما اصطاده، على رغم وعورة الطريق والتهاب الأرض المشمسة وبُعد المسافات التي يقطعها وتقدر بنحو عشرات الكيلومترات في رحلته الواحدة التي تتم في الأسبوع مرات عدة خلال تنقلاته الدؤوبة لصيد الحيوانات، وكأنه يعلم أن منيته ستكون بواسطة هذه الوسيلة التي اصطدمت به أمس أثناء سيره على الطريق العام بين منطقتي عزان ولماطر في رحلة سفره الأخيرة قاصداً سوق المدينة العامة لبيع بعض الحيوانات التي اصطادها ببندقيته العيلمان العتيقة كما دأب طوال حياته.
•رفض العصرنة
وجسدت تجاعيد وجهه وملامح جسده قسوة البر ووعورة الجبل على رغم معايشته لحيواناتها التي طوعها لتروي قصة حياة آخر الرجال البدائيين في اليمن الذي ظل يحتفظ بصحة جيدة وقوام فارع صلب أحناه الزمن.
يقول عبدالله محمد مبارك من أبناء المنطقة إن الكهل باعوضة قرر منذ طفولته العيش وفقاً لنمط الحياة التقليدية البدائية المتوارثة عن أجداده الحميريين في أزمنة غابرة مضت رافضاً الاستقرار في المنازل الحديثة على رغم إصرار الأهالي الذين وفروا له كل سبل العيش المريح إلا أنه كان يغادر تلك المنازل خلسة إلى الجبال وبطون الأودية والسهول رافضاً المساعدة من أي أحد".
•قليل من اللبس والكلام
بحسب مبارك فالراحل الذي أحاط حياته بسياج من الخصوصية والكتمان كونه كان نادر الحديث والاختلاط، يفضل العيش بالطريقة البدائية تلك مكتفياً من الملابس بـ"معوز" (إزار) تقليدي يغطي ما بين فخذيه وسرته ويأكل مما تصطاده يده من الظباء
والوعول والضب بواسطة بندقيته القديمة "العيلمان" ويشرب من آبار المياه المهجورة ومساقط الأمطار كما برع في اصطياد الثعالب والوعول والضباع وتتبعها في مخابئها من دون خوف ثم بيعها في أسواق شبوة ليشتري بثمنها ما يحتاج إليه من التبغ والسجائر لأنه مدخن شره".
ويشير إلى أن الرجل يفضل التنقل في كل الطقوس ومهما بلغ به الجوع لا يمكن أن يحل ضيفاً على أحد على رغم دعوة الناس له.
•هزيمة السموم والصعاب
في تجسيد حقيقي للحياة البدائية التي دانت فيها السيطرة لعقل الإنسان على الحيوان في مراحل الصراع من أجل البقاء، واجه الراحل باعوضة، وفقاً لسكان محليين، الأخطار بشجاعة نادرة متحدياً أهوال الليالي المظلمة والحيوانات المفترسة ويحكى أنه تعرض لعدد من اللدغات المميتة من الثعابين والأفاعي والعقارب التي فشلت أن تفت في جسده الصلب طوال الـ80 سنة التي عاشها.
•ذيل بلا ثعلب
وعلى رغم ندرتها إلا أنه احتفظ ببعض المواقف الطريفة مع العامة، إذ يؤكد مواطنون في شبوة أن الراحل جاء إلى السوق في أحد الأيام بثعلب اصطاده ولكنه لم يجد من يشتريه، فساومه أحد السكان المحليين على أن يشتري منه ذيل الثعلب فقط، لكنه تفاجأ أن البدائي لم يتردد في تلبية طلبه للحظة، إذ امتشق جنبيته وباشر بقطع الذيل وناوله للرجل، ثم أطلق سراح الثعلب في السوق وهو حي من دون ذيل.