تحليل: الأدوار النسائية غير التقليدية في نزاع اليمن 
يمن فيوتشر - مركز صنعاء للدراسات: بلقيس اللهبي وريم مجاهد وماغنوس فيتز* الثلاثاء, 08 فبراير, 2022 - 09:17 مساءً
تحليل: الأدوار النسائية غير التقليدية في نزاع اليمن 

مع دخول الحرب في اليمن عامها السابع، يبدو الوضع قاتمًا في ظل تضاؤل فرص التوصل إلى سلام. توجب على المجتمعات المحلية الاعتماد على نفسها للحفاظ على السلام في خضم تشرذم البلاد وظهور سلطات بحكم الأمر الواقع والغياب شبه الكامل للدولة.

في هذا السياق، برزت القبائل كعنصر حاسم في الحفاظ على التلاحم الاجتماعي والأمن. إلا أن قدرة القبائل على أداء هذا الدور ضعفت بسبب الاستقطاب السياسي والطائفي الذي كان قائمًا حتى قبل اندلاع الحرب.

تعد القبيلة من أهم النماذج الاجتماعية في إدارة التلاحم المجتمعي والأمن في اليمن، لا سيما عند الأخذ في الاعتبار تآكل آليات التفاوض والوساطة المحلية الأخرى.

يتسم الوضع بالتعقيد بسبب وجود جهات فاعلة محلية تابعة للقوى الإقليمية والقوات الموالية لها، سواء كانت موالية بشكل مباشر، مثل التحالف الذي تقوده السعودية وحلفائها، أو بشكل غير مباشر، كجماعة الحوثيين المسلحة وإيران.

تواجه المرأة اليمنية حاليًا وضعًا غير مسبوق. تركز القيم الاجتماعية التقليدية على حماية النساء وتشدد بأن الاعتداء عليهن في زمن الحرب يعد أمرًا مخزيًا.

لطالما افتخر المجتمع اليمني بالحفاظ على مثل هذه الأعراف، إلا أنها تداعت في ظل الصراع الراهن. تعرضت النساء للاستهداف من قِبل القناصة، فضلًا عن الاحتجاز والإخفاء القسري والعنف الجنسي، والتشريد.

ويُضاف إلى ذلك التجنيد القسري لأطفالهن في صفوف القوات المسلحة وفصلهن عن ذويهن من الرجال بسبب التجنيد والقتل والاحتجاز.

وثقت منظمة “رايتس رادار” لحقوق الإنسان، وهي منظمة مجتمع مدني، 16,667 انتهاكًا ارتكبتها أطراف الصراع المختلفة في اليمن بحق النساء بين 21 سبتمبر/أيلول 2014 و31 ديسمبر/كانون الأول 2019[6]، وتوزعت بين 919 حالة قتل و1،952 إصابة جراء القصف الجوي والمدفعي والطائرات المسيّرة وانفجار الألغام والعبوات الناسفة وأعمال القنص والإطلاق العشوائي للرصاص، بالإضافة إلى 384 حالة اختطاف واختفاء قسري وتعذيب.

ورغم قصف التحالف بقيادة السعودية على المنازل والمناطق السكنية، وتوثيق العديد من حالات الاختطاف وانتهاكات حقوق الإنسان في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا والمجلس الانتقالي الجنوبي، إلا أن جماعة الحوثيين المسلحة ارتكبت أكبر عدد من الانتهاكات ضد المرأة.

تعرضت النساء في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين للتعذيب والامتهان والاختطاف والإخفاء القسري. سُجن العديد منهن في زنازين انفرادية مع أطفالهن دون إبلاغ أسرهن.

ووفق تقارير أخرى، اُغتصبت قاصرات وتعرضت نساء مسنات للتعذيب.

وقعت هذه الانتهاكات في سياق اجتماعي حيث تُعامل النساء اللاتي يتعرضن للاعتداء الجنسي كمجرمات وليس كضحايا. بعض ضحايا الاعتداء الجنسي انتحرن، والبعض الآخر قُتلن على يد أسرهن بحجة الحفاظ على “الشرف”.

بسطت جماعة الحوثيين المسلحة سيطرتها على المناطق الشمالية والغربية من اليمن، حيث لا يزال نفوذ الأنظمة القبلية قويًا هناك، وفرضت الجماعة نظامًا استبداديًا يستهدف معارضيها بعنف.

أجبرت جماعة الحوثيين الرجال على الانضمام إلى صفوف مقاتليها، تاركة النساء في وضع هش بشكل خاص. تُركت نساء أخريات دون حماية بعد أن ذهب ذووهن من الرجال، ولا سيما رجال القبائل، إلى جبهات القتال.

و بسبب الظروف الاستثنائية التي ولّدتها الحرب، كسرت المزيد من النساء القالب النمطي لأدوارهن المجتمعية التقليدية. استخدمت بعض النساء وسائل تقليدية، مثل الأعراف القبلية، لشغل الأدوار التي كانت حكرًا على الرجال، مثل الوساطة لفض النزاعات على المستوى الأسري والمحلي، والتفاوض على الإفراج عن السجناء وتبادل الأسرى، والتدخل لتأمين مناطق معينة وحماية المصالح العامة، والمساهمة في إعادة فتح الطرق والمطارات.

 

منهجية

أُجريت ثماني مقابلات مع نساء من خلفيات قبلية ومناطقية مختلفة في سياق إعداد هذه الورقة وهن: هيام القرموشي من شبوة، والشيخة هدية البريهي ومعين العبيدي من تعز، وضياء العويني وسولاف الحنشي من حضرموت، وأشواق عوشن من المهرة، ووردة مجور من الجوف، وانتصار القاضي من مأرب.

أُجريت مقابلات شخصية وهاتفية مع القرموشي والعبيدي ومجور والقاضي في أكثر من مناسبة، بينما اقتصرت بقية المقابلات على المكالمات الهاتفية ومحادثات الواتساب. من الناحية الجغرافية، تمثل النساء اللاتي أُجريت معهن المقابلات جنوب اليمن وشرقه ووسطه.

لم يكن ممكنًا إجراء مقابلات مع نساء من الشمال في سياق إعداد هذا البحث نظرًا للوضع الأمني الراهن، لا سيما في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين. أُجريت المقابلات الشخصية والمقابلات عن بُعد في الفترة ما بين نوفمبر/تشرين الثاني 2020 وديسمبر/كانون الأول 2021.

وعُقدت جلسات عصف ذهني على الإنترنت مع خبراء في الشؤون القبلية، وهم: الدكتورة نجوى عدرا، الباحثة في المجتمعات القبلية اليمنية، وأحمد العرامي، الباحث المتخصص في الهياكل والتحولات الاجتماعية والقبلية في اليمن، ومحمد الكثيري، ناشط اجتماعي وباحث ينتمي لقبيلة آل كثير في حضرموت.

هدِفت المقابلات إلى استكشاف العوامل التي تحفز النساء على المشاركة في الوساطة وفض النزاعات والقيود التي تمنعهن من القيام بذلك، إضافة إلى التحديات المختلفة والفروق القائمة بين منطقة وأخرى. كما بحثت مدى تأثير الأسرة والطبقة والدين والمكانة داخل القبيلة، فضلًا عن السمات الشخصية الأخرى للمرأة المشاركة في صنع السلام.

كان هناك توافق في الآراء بين من أُجريت معهم المقابلات على عدم وجود تعارض بالضرورة بين الأعراف القبلية والدين، وفي الواقع يمكن أن يكمل كل منهما الآخر. وأشاروا إلى أن القوانين الرسمية للدولة مستمدة من الأعراف القبلية، التي لا تزال تحكم التقاليد الاجتماعية.

استخدام مصطلح “المجتمعات التقليدية” في هذه الورقة لا يعني تعميم المجتمع اليمني باعتباره مجتمعًا قبليًا، ولا يعني أيضًا أن المجتمعات القبلية في جميع أنحاء اليمن تتشارك نفس التقاليد، لا سيما فيما يخص المرأة. كل مجتمع محلي أو قبيلة تضع قواعد مختلفة فيما يتعلق بالسلوك، ومن الصعب تقنين مثل هذه الاختلافات أو مقارنتها في مجملها، خاصة وأن العديد من الأعراف القبلية تتغير بمرور الوقت ولا يتم تدوينها. إلا أن جميع من تمت مقابلتهم أشاروا إلى خصوصية وضع المرأة في المجتمعات القبلية. انتصار القاضي من مأرب، وهيام القرموشي من شبوة، ومحمد الكثيري من حضرموت قالوا إن النساء يتمتعن بالحماية والرعاية داخل أنظمة قبلية صارمة. وقد يؤثر ذلك سلبًا على المرأة مع اتساع الفجوة بين أدوارها التقليدية والوقائع الراهنة على الأرض. ومع زيادة الفرص التعليمية وزيادة فرص المشاركة في الحياة العامة والحصول على وظيفة في القطاع العام، تتعارض قواعد الحماية التي تهدف إلى حماية المرأة من المخاطر الخارجية مع رغبة المرأة بالمشاركة في الحياة العامة.

 

الأعراف القبلية كأداة في النزاعات المسلحة

الأعراف القبلية هي قواعد تنظم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والسياسية لرجال القبائل، سواء داخل قبيلة واحدة أو بين القبائل المختلفة. رغم قيام دولة حديثة في اليمن منذ ستينيات القرن الماضي، اتسم وجودها في الشمال إلى حد كبير بالضعف والغياب، لا سيما في المناطق النائية والمجتمعات القبلية. ففي مثل هذه المناطق، فشلت قوانين الدولة في أن تحلّ محل القوانين التقليدية بصورة كاملة.

تشمل الأعراف القبلية فرض عقوبات على الأفراد أو الجماعات المتورطين في ارتكاب انتهاكات. بعض الأماكن، مثل الأسواق والمساجد، والشرائح الاجتماعية، مثل النساء والأطفال والهاشميين (المنحدرين من نسل النبي محمد)، تنضوي تحت مظلة حماية القبائل.

وتختلف العقوبات باختلاف حجم الضرر الواقع ودوافع الجناة. توضح الأعراف القبلية مسؤوليات القبيلة في حالات العنف أو الصراع، إلا أنها تتميز بمرونتها. تنظم الأعراف القبلية أيضًا استخدام الموارد الاقتصادية، مثل المراعي والموارد المائية والاحتطاب في مناطق محددة، فضلًا عن الحفاظ على أمن أفراد القبيلة ومنح اللجوء.

يتعلق جزء من هذه الأعراف بالمرأة، ويشدد على معاملة المرأة كفئة محمية. يلحق العار بمن يضايق النساء أو يسيء معاملتهن. تُعرف عقوبة الاعتداء على المرأة باسم “المربوع”، وتنص على تعويض مالي يساوي دية أربع نساء إذا كان الاعتداء غير متعمد. أما في حال ثبت أن الاعتداء كان متعمدًا، تُفرض عقوبات أخرى على مرتكبيه، مثل التشهير العلني.

الأعراف القبلية تمنح النساء أيضًا مزايا يستطعن استخدامها لوقف العنف ومنع الاقتتال. على سبيل المثال، تحظر العادات القبلية استهداف رجل ترافقه امرأة، حتى لو ارتكب جريمة قتل. ويجوز للرجل المطلوب للعدالة أن يستجير بامرأة لحمايته إلى أن تحل القضية سلميًا. أسوأ جريمة، يطلق عليها اسم “العيب الأسود”، وهي “كل اعتداء على ضيف أو ضعيف أو مستجير بحمى قبيلة، أو غريب، أو منتمٍ لديانة غير الإسلام، ويستوجب استنفارًا اجتماعيًا عامًا ضد فاعله، وعقوبات مشددة مع غرامات مالية ومضاعفة الديات، وقد تربو على أربعين دية عما هي معلومة المقدار في الشرع والقانون الرسمي”.

 

الوساطة في أماكن العمل

إحدى التجارب المثيرة للاهتمام هي تجربة هيام القرموشي من شبوة. كانت القرموشي أول مديرة لمدرسة للفتيات في منطقتها. وفي معرض حديثها عن الصعوبات التي قد تواجهها المرأة المتبوأة للمناصب العامة في المجتمعات القبلية، قالت القرموشي إنه نظرًا لمحدودية فرص تعليم الفتيات على نطاق واسع في المناطق القبلية، يعتبر إنشاء مدرسة للفتيات ترأسها امرأة إنجازًا بحد ذاته. وأوضحت أن الطالبات يجسدن النزاعات الداخلية بين القبائل والعكس صحيح. فقد يتحول نزاع بسيط بين طالبتين إلى خلاف كبير بين القبائل أو الأسر. خلال فترة تولي القرموشي منصبها، كادت تؤدي مشكلة بسيطة بين فتاتين إلى إغلاق المدرسة، واضطرت للتدخل من وراء الكواليس باستخدام الوسائل التقليدية لحل الخلاف.

قالت القرموشي إنها مضطرة أن تكون “أول الواصلين إلى مكان العمل وآخر من يغادره”، من أجل إبقاء أبواب المدرسة مفتوحة. وأضافت بأنها واجهت العديد من التحديات في العمل، لكنها استفادت من خلفيتها القبلية لأداء واجباتها في القطاع العام بشكل أفضل.

تحدث محمد الكثيري من حضرموت عن قضية صادفته أثناء عمله كناشط. فوجئت شابة في اليوم الأول من بدء عملها في القطاع العام بزيارة نساء من منطقتها لوالدتها لإسداء النصح من أجل ترك عملها، حتى أنهن عرضن المساعدة المالية إذا لزم الأمر بشرط أن تتوقف ابنتها عن الذهاب إلى العمل. اعتُبر توظيفها انتهاكًا للتقاليد التي تنص على أن المرأة يجب أن تكون تحت رعاية ولي الأمر من الناحية المالية والمعنوية. وهذا يعكس القوة المتناقضة للتقاليد القبلية؛ فهي بمثابة سلاح ذو حدين يضطهد النساء في ظروف معينة، لكنها تحميهن في ظروف أخرى.

 

دور المرأة داخل الأسرة والقبيلة

قضى قرار الأمم المتحدة رقم 1325 بالدور الرئيسي للمرأة في فض النزاعات، حيث أعاد التأكيد على دورها في حل النزاعات ومفاوضات وبناء السلام والاستجابة الإنسانية وإعادة الإعمار بعد انتهاء الصراعات. قال أحمد العرامي، الباحث في الشؤون القبلية، إنه لا توجد قواعد تمنع المزيد من النساء من الاضطلاع بمثل هذه الأدوار “لا يوجد نص في العادات القبلية يحدد للمرأة دورًا ومهامًا معينة [كوسيط]، لأن المرأة [تحت وصاية الرجل]. ما قامت به بعض النساء [فيما يتعلق بالوساطة] هو أمر استثنائي. لم يمنعهن القانون القبلي من التوسط، وبالتالي، مثلما لا يوجد نص يحدد إسناد هذا الدور، لا يوجد أيضًا نص يمنعهن من الاضطلاع بهذا الدور”.

تلعب النساء أدوارًا رئيسية في حل النزاعات داخل الأسرة، والحي، والقرية، والقبيلة، حتى على المستوى الوطني. قالت انتصار القاضي، من مركز الإنذار المبكر لحل النزاعات وصناعة السلام، إن من غير المألوف أن تتدخل النساء في شؤون قبيلة أخرى، حتى لو كن يلعبن دور الوساطة أو يحاولن حلّ نزاع، بحُكم أن “أسرتها وقبيلتها تخشى أن تتعرض لسوء المعاملة من قِبل القبيلة الأخرى. أي سوء معاملة، ولو كان لفظيًا، يمكن أن يتسبب في مشكلة أكبر من تلك التي تسعى لحلها، كون الاعتداء على امرأة هو “عار أسود”، ويمكن أن تحشد القبيلة كامل قواها للدفاع عنها”.

هناك حساسية فائقة تجاه المرأة ومكانتها وضرورة حمايتها؛ لكن تظل هناك حدود تقيد أنشطة المرأة وتسهم في حصرها كفئة ضعيفة. وفي حين يمكن التقليل من شأن الوسيط الذكر أو رفض مساعيه لمحاولة حل نزاع ما، لا خوف من أن يطعن ذلك في شرف القبيلة، كما هو الحال لو كان الوسيط امرأة. فالمرأة تمثل “شرف” القبيلة، وقد يخشى الأقارب الذكور أن تتعرض المرأة الوسيطة لأي إهانة أو اعتداء، بحكم أنه قد يترتب على ذلك إلقاء اللوم على المرأة والأسرة.

غالبًا ما تأتي الوساطة التي تضطلع بها المرأة في إطار غير رسمي. ذكرت القرموشي أن الوساطة وحل النزاعات بالنسبة لرجال القبائل في شبوة تنحصر فقط في قضايا الثأر بين القبائل، حيث تعتبر المسائل الأخرى أقل أهمية. برأيها أن تجاهل النزاعات الأخرى والتقليل من شأنها هو خطأ، وأن النساء يساهمن يوميًا في حل هذه المنازعات التي يتم غض الطرف عنها. أشارت غالبية النساء اللاتي أُجريت معهن مقابلات إلى أن تجاربهن الأولى في فض الخلافات بدأت على مستوى الأسرة والحي. ولا ترتقي هذه الجهود إلى مساهمات رسمية في حل النزاعات وصنع السلام داخل المجتمعات المحلية. وصفت الشيخة هدية البريهي الدور الخفي للمرأة، قائلة إن النساء منعن ذويهن الذكور من الانخراط في النزاعات المسلحة، وحثينهم على عدم المشاركة في المعارك القتالية. من جانبها، قالت انتصار القاضي إن النساء يعملن من وراء الكواليس، ويضغطن على الرجال لقبول السلام، وتهدئة المشاكل، وقبول الحلول وتقديم التنازلات. وغالبًا ما يحدث هذا خلف جدران المنزل وليس خلال الاجتماعات، التي غالبًا ما يهيمن عليها الرجال. أشارت هيام القرموشي إلى أهمية هذا الدور، قائلة إنه مثلما تستطيع المرأة إشعال فتيل الصراع بتحريض الرجل، فإنها قادرة أيضًا على تجنب نشوب صراع ما من خلال تشجيع الرجال على قبول الحلول السلمية.

 

تطبيق الأعراف القبلية في الوساطة

تستفيد النساء من الميزات التي منحتها إياها الأعراف القبلية حيث يمكن استغلالها لحمايتهن خلال الصراع الحالي. إحدى المزايا التي تستطيع المرأة استغلالها هي قدرتها على وقف النزاع بمجرد حضورها أو فرض حمايتها حتى حل النزاع. 

بالنسبة لانتصار القاضي، الضليعة بالممارسات القبلية والتي تنتمي لأسرة مشيخية، لم يكن صعبًا عليها استغلال قدراتها لمنع نزاع ضمن النطاق القبلي الذي تعيش فيه. تتمثل الحادثة في قصة رجل قتل آخر عن طريق الخطأ، وبينما كان في السجن بانتظار المحاكمة، نجحت الوساطات القبلية بإقناع أهل المجني عليه بالعفو عن القاتل مقابل نفيه من القبيلة كعقوبة. ولكن أحد إخوة المجني عليه لم يوافق على هذه التسوية وقرر الانتقام لأخيه عبر قتل الجاني فور خروجه من السجن. استنجدت أسرة الجاني بانتصار التي تطوعت بالذهاب إلى السجن ومرافقة الجاني إلى منزل الشيخ حيث وافقت أسرة الضحية على منح العفو، ونجحت في تأمين حياة الجاني إذ أنه وفقًا للعرف القبلي، لم يستطع أخو المجني عليه التعرض للجاني في حضورها؛ وفي حال حاول التعرض له، لكان ذلك قد اعتُبر تعرضًا لانتصار نفسها، الأمر الذي سيكون له عواقب وخيمة.

هذه الحماية يمكن أن تُقرأ من زاويتين: الأولى أن للمرأة مكانة تجعلها فوق قوانين “الدم” القبلية، والثانية هي أن المرأة يُنظر إليها على أنها ضعيفة وبالتالي من يحتمي بحماها ضعيف أيضًا. وبما أنه من العار استهداف المرأة، فمن العار أيضًا استهداف من يحتمي بحماها.

 

الوساطة العائلية والوطنية

لخصت ضياء العويني من قبيلة آل كثير في حضرموت العلاقة بين القيادات النسائية في المجتمعات التقليدية وبين الأسرة كالتالي: “إن المرأة في مجتمعنا تستمد قوتها من رجال عائلتها، فإذا كانوا يدعمونها فسيتقبلها المجتمع ويحترمها أما إذا لم يفعلوا، فحتى وإن كانت على حق فإن المجتمع لن يتقبلها.”وهذا أيضًا ما أكدته الباحثة في المجتمعات القبلية اليمنية نجوى عدرا، حيث قالت إن المجتمعات التقليدية تمنح النساء مكانة استنادًا إلى مكانة الرجال في عائلتهن، وكلما تدنت مكانة الرجل، كلما قلت الحماية والاحترام اللتان تحظى بهما المرأة.

تلعب العائلة الدور الأكبر في تمكين المرأة “غير التقليدية” في المجتمعات التقليدية، ليس فقط من حيث الأمان، ولكن من حيث تأمين مساحة العمل وتقليل احتمال رفض المجتمع لدورها. مباركة العائلة تمنح الشرعية لأي دور قد تقوم به المرأة. ونظرًا لأن أغلبية العائلات كبيرة، لدى النساء فرص للعب دور الوسيط داخل العائلة نفسها، وغالبًا ما تكون هذه النزاعات هي أول الخلافات التي تعمل المرأة على حلها. بعدها، تستخدم المرأة هذه المهارات في حل النزاعات للانخراط في المجتمع المدني وممارسة أدوار أكبر. هيام القرموشي، ناشطة اجتماعية وقبلية من شبوة، تساهم في حل النزاعات على المستوى المحلي وهي أيضًا مدربة في مجال الوساطة وآليات الحد من النزاعات.

عام 2015، تدخلت القرموشي لإخراج مسلحين حوثيين من مبنى كانوا يتحصنون فيه بمدينة عتق، عاصمة شبوة، لحماية المدينة من الاستهداف بالغارات الجوية. خيّرت القرموشي أهالي الحي بين الذهاب بشكل سلمي إلى الحوثيين أو الذهاب بنفسها، ونجحت مساعيها في ترتيب خروج المسلحين سلميًا.

وتحدثت ضياء العويني، التي استمدت معرفتها بالعرف القبلي وآلياته من خلال الاستماع إلى الأكبر سنًا في أسرتها، عن خبرتها في حضرموت. قالت إن خلافًا نشأ بين عائلتين تستعدان لزفاف ابنيهما حول الذهب المفترض أن يُقدم كهدية للعروس، وكاد الخلاف أن يتسبب في إلغاء الزواج وأن يتطور إلى مشكلة أكبر بين العائلتين لولا تدخلها. وبالمثل، الشيخة هدية البريهي من تعز، قالت إن الكثير من المشاكل تنشب بين العائلات والجيران وهي تتدخل لحلها عندما يُطلب منها ذلك أو تتوسط بشكل مباشر لتفادي مشكلة أكبر.

سولاف الحنشي هي إحدى عضوات فريق نساء حضرموت من أجل السلام الذي سعى إلى إعادة فتح مطار الريان وطريق الضبة الدولية. أُغلق مطار الريان بعد دخول تنظيم القاعدة إلى المكلا عام 2015، بينما أُغلق طريق الضبة الحيوي الواقع شرقًا لأسباب أمنية. وكان لإغلاق المطار وطريق الضبة تأثير سلبي على حياة المدنيين. قادت الحنشي مع نساء أُخريات حملة مناصرة كبيرة عام 2018 ونجحن بإعادة فتح طريق الضبة جزئيًا ولا يزلن يعملن بهدف إعادة فتح المطار. ورغم أنهن لم يستخدمن الآليات القبلية، إلا أنهن يعملن بنجاح في منطقة تتسم بالطابع القبلي والتقليدي.

أطلقت أشواق عوشن من المهرة حملة عام 2018 تطالب بإخراج السلفيين الذين استقروا في المهرة خلال ذلك العام. كان هؤلاء السلفيون يتمركزون في دماج بمحافظة صعدة، ولكنهم طُردوا منها عام 2014 عقب جولات قتال متعددة مع قوات الحوثيين. وأشارت إلى أنها لا تحمل أي ضغينة تجاه أي شخص، ولكن هؤلاء الأفراد كانوا “متطرفين” وكانت تخشى أن يتسبب وجودهم في المهرة بإخلال السلم الأهلي والمجتمعي.

تتوسط معين العبيدي في الجبهات الأمامية للصراع في تعز. العبيدي، وهي محامية غالبًا ما عملت على قضايا النساء الفقيرات قبل الحرب، تتفاوض حاليًا لفتح طرق وتبادل أسرى وجثث القتلى. وأوضحت أنها تتحدث مع الأطراف المتحاربة بلغتهم، وتستخدم آليات الوساطة التقليدية وتحافظ على حيادها إذ أن جهودها ستفشل إذا كان يُنظر إليها على أنها متحيزة لطرف ما. وقالت العبيدي إنه حتى عندما تعمل لأسابيع لفتح طريق، فإنها تدرك تمامًا أن الطريق سيُغلق مرة أخرى. ومع ذلك، تحاول إقناع الطرفين بإعادة فتحه حتى يتمكن الناس من العبور بين شطري مدينة تعز المحاصرة. وقالت إنه في كثير من الأحيان لا يمكن إعادة الرجال أحياء إلى عائلاتهم، لذا فهي تحاول أن ترتب -على الأقل -إعادة الجثث التي تُترك في الشوارع.

 

مصادر الشرعية

استنادًا إلى المقابلات التي أُجريت لغرض هذا التقرير، يبدو أن انحدار المرأة من عائلة مشيخية ليس شرطًا ضروريًا لكي تلعب دورًا أكبر في مجتمعها. اتخذت الكثير من النساء طريقًا لم يسلكه بالضرورة أقرباؤهن من الرجال. أجمعت النساء التي أُجري معهن مقابلات أن العامل الأول لنجاح المرأة في الأوساط التقليدية هو مدى شجاعتها وثقتها بنفسها وإدراكها لما تواجهه، بالإضافة إلى دعم أسرتها.

في حين أن تحلي المرأة بالشجاعة ضروري لتولي أدوار قيادية داخل مجتمعاتهن، إلا أن حصولهن على هذا النفوذ يتشكل جزئيًا من خلال مكانتهن الاجتماعية ومكانة أزواجهن وآبائهن وأفراد أسرهن الذكور داخل مجتمعاتهن. وبحسب نجوى عدرا، فإن الوضع الاجتماعي للأسرة، وتحديدًا الرجال، لا يساهم فقط في تمكين المرأة اجتماعيًا، بل يحدد أيضًا مدى امتداد شبكة الأمان الخاصة بهم. “شبكات الأمان الخاصة بالنساء تحميهن فقط إذا كان آباؤهن وأشقاؤهن محترمين، ولكن مواردهن محدودة إذا كنّ لا يتمتعن بدعم عائلاتهن.”

 كما يمكن أن يؤثر عدد من العوامل الأخرى المترابطة على وضعهن، مثل موارد الأسرة المالية والشبكات الاجتماعية التي تشارك فيها النساء وأسرهن.

وأشارت العويني إلى أن تديّن المرأة وثقافتها تساهمان في تمكين دورها القيادي في مجتمعاتها المحلية. جميع النساء اللواتي قُوبلن متعلمات وحاصلات على شهادات جامعية في اختصاصات مختلفة، وهذا يشير إلى التالي: كان لديهن الموارد المالية اللازمة للحصول على التعليم وكان لديهن أيضًا -إلى حد ما -عائلات منفتحة دعمت تعليمهن. أغلبهن منخرطات في العمل المدني إما بشكل مباشر مع منظمات المجتمع المدني أو عبر مبادرات فردية. يشير هذا إلى المركز الاجتماعي الذي صنعنه لأنفسهن والذي قد يكون نتيجة أدوارهن غير التقليدية أو العكس.

من الممكن تلخيص مصادر الشرعية للنساء المنخرطات في النشاط الاجتماعي بناء على ما سبق. المصدر الأول هو مكانة العائلة الاجتماعية داخل التسلسل الهرمي القبلي التي قد تتأثر بالعوامل الدينية والاقتصادية؛ فمن الصعب على المنحدرات من عائلات فقيرة أو مهمشة اجتماعيًا الانخراط في الوساطة أو حل النزاعات. والثاني هو شخصية المرأة وقدرتها على فرض نفسها من خلال وضد الأعراف الاجتماعية التقليدية.

 

استجابة المجتمع

تحدد مجموعة من العوامل مدى قبول ممارسة المرأة لأدوار غير تقليدية. وبحسب العويني: “أحيانًا تديَّن المرأة يجعلها أكثر قبولًا لدى المجتمع، وأحيانًا أخرى، فإن تعلمها وقوة شخصيتها يمدانها باحترام وقبول المجتمع. وفي بعض الأحيان، (فإن العامل الذي يمنحها هذا الاحترام) هو جاه الأسرة أو الوضع الاقتصادي للأسرة. ولكن أهم عامل (هو في الواقع) قدرة المرأة؛ إذ أنه ضروري لحل النزاعات كونه يعطيها ثقة لتلعب دورًا قياديًا، وبالتالي، فإن العوامل الأخرى لا تعود شرطًا (ضروريًا).” وأضافت أنه في حال كانت هناك مشكلة، فإن الأطراف المتضررة قد لا تولي أهمية لجنس الوسيط، فكل ما يهم هو حل الإشكال وتجنب العنف. بشكل عام، يحترم الرجل القبلي المرأة القوية ويبجلها.

جميع النساء اللواتي أُجريت معهن المقابلات متزوجات. انخرط بعضهن في العمل الاجتماعي قبل الزواج وأُخريات بعده. جميعهن اتفقن على أن الزواج لم يؤثر على نشاطهن الاجتماعي، وأن المرأة المتزوجة قد تكون لديها مساحة أوسع للتدخل. ولكنهن أشرن إلى أن هذا لا يعني أن الزواج شرط ضروري لممارسة هذا الدور وأنه لا يصنع فارقًا كبيرًا. قالت العويني إن عملها قد يحرج زوجها في بعض الأحيان لأنه يتواصل بشكل مباشر مع رجال القبائل الآخرين، ولكن هذا لم يمنعها من مواصلة عملها ولم يطلب منها زوجها التوقف عن العمل. وقالت الحنشي إن هناك زيادة ملحوظة في تقبل عمل النساء في مجال فض النزاعات وإن هناك ازديادًا أكبر في وعي المجتمع لأهمية مشاركة المرأة في هذه الأدوار.

 

خاتمة

أثرت الحرب على المجتمع اليمني برمته غير أن النساء غالبًا ما يكن الأكثر تضررًا حيث يواجهن الموت والتشرد وانعدام الأمن. ومع مقتل الرجال خلال النزاع أو انشغالهم في القتال، توجب على المرأة أن تتحمل المسؤولية الكاملة للاعتناء بالأسرة. كما تشير الدراسات إلى ارتفاع نسب العنف القائم على النوع الاجتماعي.

حاولت النساء اليمنيات لعب أدوار نشطة لحل النزاعات خلال الحرب. وبشكل عام، لا يُعترف بهذه الأدوار رسميًا وتقتصر الأدوار على تحقيق السلام في المجتمعات المحلية. ولكن هناك نساء أخريات يعملن على مستوى رسمي ويطالبن بمزيد من الدعم والاهتمام بمساهماتهن.

ورغم نجاح النساء كوسيطات داخل وخارج إطار العمل القبلي، إلا أن مساهماتهن تُهمش. لا تعترف الأطراف المتحاربة والأحزاب السياسية ذات الصلة بأدوار النساء، كما أنها تتجاهل الجهود التي تبذلها المرأة وتستثنيها من المناصب الرسمية. أشارت الحنشي إلى حقيقة أن الحكومة الحالية تخلو من النساء وقالت: “لو كان هناك نساء مشاركات في محادثات السلام، لوجدنا تقدمًا في هذه المحادثات”.

لا توجد بوادر على إحلال السلام إذ أن القتال مستمر على جبهات مختلفة ولم يعد النزاع يقتصر على طرفين فقط حيث يشمل الآن أطرافًا متعددة وداعميهم الإقليميين.

وفي ظل هكذا ظروف، فإن الخيارات شحيحة. ولكن تشرق بارقة أمل من خلال الجهود التي تشجع على العودة إلى الأعراف السائدة قبل الحرب وإلى المواثيق والعهود ومدونات السلوك التي حكمت مجتمعًا أكثر سلامًا.

يشير التاريخ إلى أن النساء يلعبن دورًا محوريًا في هذه الجهود رغم أنهن يتحملن وزر حروب الرجال، بوسعهن التخفيف من وطأتها عبر استخدام وسائل التهدئة المتاحة.

 

*أُعدّ هذا الموجز السياساتي في إطار برنامج دعم الإدماج والمشاركة الأوسع نطاقًا في عملية السلام باليمن، الذي ينفذه مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية ومؤسسة مارتي أهتيساري للسلام (CMI)، بتمويل من الاتحاد الأوروبي.

 

*بلقيس اللهبي هي باحثة في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، تركز أبحاثها على التطورات السياسية والاجتماعية في اليمن، وتتمتع بلقيس بخبرة تزيد عن 15 عاماً في مجال الأبحاث والمجتمع المدني والتنمية وإدارة المشاريع. شغلت اللهبي منصب نائب رئيس ثم رئيس بالنيابة لفريق عمل القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار الوطني اليمني بين…

-ريم مجاهد هي باحثة غير مقيمة في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية. ركز عملها كباحثة اجتماعية في اليمن على النساء السجينات، والتصوّرات المجتمعية عن الشرطة النسائية والأصوات النسوية، والعدالة الانتقالية، وغيرها من القضايا الاجتماعية. مجاهد أيضا كاتبة روائية، حيث نشرت سلسلة دفاتر في السفير العربي…

ماغنوس فيتز

-ماغنوس فيتز هو باحث في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية.

-لقراءة النص الاصلي للتقرير: 

https://sanaacenter.org/wp-content/uploads/2022/01/Toledo_Yemen_workshop-scaled.jpg


التعليقات