"بعد ساعات من قيادة سيارتي للمرة الأولى على طريق تعز عدن الوحيد، وبمجرد أن بدأنا نزول طريق جبلي تم شقه في منحدر مخيف، بدأت قدماي اللتان اضغط بإحداهما بشكل متواصل على المكبح، بالتعرق وأدرك أنني قد أفقد السيطرة في أية لحظة، وأنا أرى الصخرات المتساقطة على جانب الطريق، قبل أن تسقط واحدة على بعد أمتار منا، كادت أن تودي بحياتي ومن معي في لحظة لم أكن أتخيلها من قبل"، يقول اليمني محمد علي سالم (41 عاماً)، وهو يصف جانباً من المعاناة الناتجة عن قطع الطرقات الرئيسية في تعز، المحافظة اليمنية الأكثر عدداً من حيث السكان، والتي عاد التصعيد العسكري مؤخراً إلى أجزاء منها. في وقتٍ لا تزال فيه المحافظة ساحة حربٍ متقطعة تمتد على عديد جبهات، منذ سنوات.
تعز التي شهدت مؤخراً زيارة نادرة هي الأولى من نوعها، للمبعوث الأممي إلى البلاد هانس غروندبرغ، فتحت نافذة للأمل باستئناف جهود فتح الممرات.
الطريق التي سافر عبرها سالم هي نفسها التي سلكها قبل 11 عاماً، حيث المسافة كانت تستغرق حسبما يتذكر في حديثه لـDW عربية، نحو ثماني ساعات بين صنعاء وعدن.
لكن هذه المدة في رحلته الأخيرة التي يصفها بـ "المغامرة"، لم تكن سوى الساعات التي قضاها بالمرور من طرق فرعية بديلة، لا تخلو من مفاجآت، مثل سماع اشتباكات مباغتة، لا يعرف من أين تنطلق القذائف والرصاصات أو أين تستقر.
وكباقي اليمنيين المجبرين على التنقل، بين مناطق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) شمال المحافظة إلى مدينة تعز التي هي مركز المحافظة وتخضع لسيطرة القوات الموالية للحكومة المعترف بها دولياً، فإنه وعند وصوله منطقة "الحوبان"، التي تبعد دقائق فقط عن المدينة، كان على سالم أن يبدأ رحلة استمرت نحو خمس ساعات عبر طريقٍ ترابي يُعرف بـ"الأقروض"، ليصل إلى المدينة، التي مكث فيها لنحو ساعتين، ليواصل بعدها طريقه إلى عدن.
بحدود الواحدة فجراً بدأ نزول "هيجة العبد"، المنفذ الوحيد الذي لا يحكمه أنصار الله (الحوثيون) بين تعز وعدن.
في ذات الطريق الذي بدأ كما لو أنه قد تم شقه في منحدر شديد الخطورة، صادف علي ورفيقيه قطيعاً صاعداً من الثيران التي يتم سوقها في الظلام. ويضيف أن حركة واحدة غير محسوبة لأحد الثيران، كانت كفيلة بأن تسبب حوادث عدة، ذلك أن وضع المنحدر يجعل من سقوط أي جسم أو صخرة خطراً يهدد كل من هو في المنعطفات الضيقة الأدنى.
وعلى الرغم من أن الثيران قد لا يسمح بمرورها سوى بساعات محددة، إلا أنها ليست أفضل حالاً، من الشاحنات الكبيرة التجارية، التي تتكرر حوادثها من حين لآخر.
أحدث الخسائر، المسجلة في أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، ذهب ضحيتها خمسة أفراد من عائلة واحدة بينهم امرأتان، فيما أصيب طفلان، بعد سقوط السيارة التي كانت تقلهم من منحدر أسفل الطريق.
وفي يوليو/ تموز 2019، كان المسؤول الأول في المحافظة والمعين من الحكومة المعترف، نبيل شمسان ومعه محافظ لحج المجاورة أحمد التركي، على وشك أن يصبحا في عداد ضحايا الطريق، بعد خروج المركبة التي تقلهما عن مسارها.
•طرقات موت محقق
طريق هيجة العبد، ليس سوى واحد من الطرق الخطرة فضلاً عن المسافة الطويلة، حسين القدسي عشريني نجا من حادث انقلاب سيارة، يقول إنه "قبل الحرب كنت أسكن في منطقة قريبة جدا من جولة القصر بمحافظة تعز، أقل من 7 دقائق فقط كانت كافية للوصول من منطقة الحوبان إلى منزلي، الآن وبفعل الحرب أحتاج أكثر من 4 ساعات في طرق وعرة لا تصلح للانتقال، إلا أنها الشريان الوحيد للوصول الى مركز المدينة، وحتى أصل إلى منزلي الكائن بالقرب من خطوط التماس يجب علي أن أخاطر بحياتي وقد أذهب ولا أعود".
ويضيف أنه ذات يوم "في طريقي لاستخراج شهادتي الجامعية من كلية الهندسة في جامعة تعز، لكي أبحث عن فرصة عمل انقلبت السيارة التي كانت نقلتنا عبر طريق الأقروض ونجونا من الموت.
•مطالبات ومفاوضات ذهبت أدراج الرياح!
منذ السنوات الأولى لتصاعد الحرب عقب سيطرة الحوثيين وبدء التحالف العربي بقيادة السعودية عملياته في اليمن، بقيت تعز ومعاناتها بسبب الحرب و"الحصار"، عنواناً متكرراً في وسائل الإعلام، وملفاً على طاولة المفاوضات التي رعتها الأمم المتحدة، وحتى وساطات محلية بين ممثلين عن "أنصار الله" الحوثيين، وعن السلطات المحلية الممثلة للحكومة المعترف بها دولياً.
وفي حديثه لـDW عربية، يقول محافظ تعز الأسبق، علي محمد المعمري، إن المدينة كانت لها ثلاث طرقات تصل من كل الاتجاهات، الطريق الأول بين صنعاء إب تعز ويسمى طريق الحوبان، فيما الطريقين الآخرين يربطان المحافظة بكلٍ من الحديدة ومدينة المخا الساحلية.
ويضيف بأن هذه الطرق تم قطعها ممن يصفهم بـ"الانقلابين"، إشارة إلى الحوثيين، حيث كان الناس يصلون إلى الحوبان مثلاً خلال 20 دقيقة وبكلفة لا تزيد عن مائة ريال، أما الآن فيمكن أن تستغرق المسافة ما يصل لعشر ساعات، وتكلف أكثر من 20 ألف ريال يمني".
إلى جانب ذلك، فإن قطع الطرقات أو ما يوصف بـ"الحصار"، تسبب وفقاً للمعمري في ارتفاع الأسعار "بشكل جنوبي"، وانعكس على الحياة اليومية للناس. مشدداً على أهمية أن يكون من أولويات "مسؤولية العالم السعي لإنقاذ هذه المدينة، وإنهاء هذا الحصار القاتل"، والسماح بوصول كل المواد الضرورية مثل المياه وغيرها إلى المدينة.
•الحوثيون: نحن المحاصرون!
وفي مقابل الاتهامات للحوثيين بكونهم المسؤولين عن إغلاق الطرقات، تنفي الجماعة، وتتهم الطرف الآخر بـ"التقاعس عن فتح الممرات"، ويقول محافظ تعز السابق المعين من قبل الحوثيين، سليم المغلس في إحدى مقابلاته الصحفية، إنه "لا يوجد أي حصار لمحافظة تعز كما يقال، فالمُحاصرون نحن وليس هم، بل إن هناك بعداً بالطرقات بسبب قرب الاشتباكات والجبهات بين الجهتين".
ويضيف بأنهم أكدوا خلال مفاوضات السويد ديسمبر/كانون الأول 2018 "على أنه لابد من إيقاف إطلاق النار بشكل كامل في محافظة تعز ومن ثم تطبيع الأوضاع وفتح كافة الاتجاهات".
•المدن تموت بانقطاع الطرقات
على ذات الصعيد، يقول الصحافي والمحلل الاقتصادي فاروق الكمالي لـDW عربية، إن إغلاق الطرقات الرئيسية وتحويل المرور إلى طرقات فرعية غير معبدة ووعرة في محافظة تعز، أثر على الحياة اليومية للمواطنين اقتصاديا واجتماعيا وصحيا"، فبُعد المسافة ومشقتها ضاعف استهلاك الوقود وبالتالي رفع فاتورة النقل للبضائع والمواطنين، فتضاعفت أسعار السلع وتوقف المواطنون عن تبادل الزيارات".
وإن وعورة الطرق البديلة، حسب الكمالي خلفت أيضاً حوادث مرورية كبيرة ومشقة على النقل التجاري الثقيل فتأثرت سلاسل الإمداد التجاري سواء البضائع التموينية أو حتى المحروقات، وأعاقت وصول المواطن إلى الخدمات الصحية، "كما تسبب تضاعف أجور النقل بزيادة هائلة في أسعار المواد الاستهلاكية في مدينة تعز، وصلت إلى نحو 90 -100 بالمائة، عن سعر نفس السلعة في صنعاء. فسعر كيس الدقيق الذي كان يباع في صنعاء بقيمة 12 ألف ريال قبل تدهور سعر العملة بالصورة الحالية كان يباع في مدينة تعز بـ22 ألف و800 ريال، وهذا مجرد مثال".
ويخلص الكمالي إلى أن "الطرقات توصف بكونها شريان الحياة، وحين ينقطع هذا الشريان فمن المؤكد أن المواطن يواجه الموت، والمدن تموت بانقطاع الطرقات، حيث يضطر سكان المدن للنزوح".
يذهب المحامي والباحث اليمني معاذ المقطري، إلى أنه "في تعز كما في مأرب وشبوة والبيضاء والحديدة ولحج وحجة، يتم استخدام الطرقات والمنافذ الأساسية ضمن استراتيجيات الحرب بين الأطراف المتحاربة"، حيث يلجأ "الطرف المسيطر على الطريق أو المنفذ إلى استخدامه في حصار الطرف الآخر المعادي ويحاصر معه السكان القابعون تحت سلطته".
وإلى جانب التأثيرات الاقتصادية والحوادث المأساوية، يقول المقطري إن "النقاط الأمنية والمجموعات المسلحة تتحول إلى مجموعات ونقاط جباية أكثر منها حماية على طول الطريق، ومثلها الطرق الثانوية المحفوفة بالمخاطر والتقطعات". ويشدد على أن "مسألة فتح الطرقات وتحييدها عن الصراع واحدة من أهم ملفات الأزمة الإنسانية في اليمن، ويجب معالجتها ضمن أولويات تدخلات السلام في اليمن التي تقودها الأمم المتحدة".