قطعت ليبيا شوطاً طويلاً منذ إنهاء حربها الأهلية الثالثة في منتصف عام 2020 لكي تخاطر باستئناف العنف أو تقسيم البلاد من خلال إجراء انتخابات مستعجلة. ونظراً للجو المشحون بالانقسامات وإلى احتمال اندلاع أعمال عنف كبيرة، من الحكمة إرجاء الانتخابات لفترة محددة إلى حين حلّ العديد من القضايا الهامة.
بعد مرور أكثر من عشر سنوات على مقتل معمر القذافي، أعلن نجله الذي كان ذو "عقلية إصلاحية" في الماضي وتحوّل إلى مجرم حرب مطلوب دولياً أنه سيرشح نفسه لرئاسة ليبيا خلال الانتخابات المقرر إجراؤها في 24 كانون الأول/ديسمبر. وتبيّن الطموحات السياسية لسيف الإسلام إحدى عدة مشاكل تواجه إجراء الانتخابات في الشهر المقبل. وإذا سُمح له بالترشح، فإن الليبيين الذين حاربوا القذافي قد يقاطعون الانتخابات أو يلجأون من جديد إلى العنف. وفي المقابل، إذا رُفض ترشّح سيف الإسلام من قبل مفوضية الانتخابات التي من المتوقع أن تحدّد أهليته، فيمكن لمؤيدي النظام القديم إما مقاطعة الانتخابات أو عرقلتها. وهذه الديناميكية نفسها ستبرز الآن بعد أن دخل خليفة حفتر السباق الرئاسي، وهو القائد الذي يتخذ من شرق ليبيا مقراً له والذي هاجم طرابلس بعشوائية في عام 2019. ونظراً إلى هذا الجو المشحون بالانقسامات وإلى احتمال اندلاع أعمال عنف كبيرة، من الحكمة إرجاء الانتخابات لفترة محددة إلى حين حلّ العديد من القضايا الهامة.
وهناك ثلاثة أسئلة أساسية يتعين على الليبيين الاتفاق عليها: ما هي المؤسسات التي يتمّ انتخابها وضمن أي تسلسل ومن هم المخولون بالترشح؟
ما أن ضعف دور المنتدى الذي أنشأته الأمم المتحدة لحلّ هذه المشاكل خلال الصيف الماضي، حتى استغل السياسي المراوغ من الشرق عقيلة صالح هذا الفراغ، وصاغ قانوناً انتخابياً وفرضه على مجلس النواب الذي يرأسه. وعلى مدى أكثر من سبع سنوات، بالكاد اجتمع المجلس بشكل رسمي، ويُعزى ذلك جزئياً إلى الطريقة التي انتُخب بها والمقاطعة اللاحقة من قبل العديد من أعضائه. ومع ذلك، صادق المبعوث الخاص للأمم المتحدة على قانون صالح من دون محاولة التفاوض بشأن مضمونه مع هيئات سياسية ليبية أخرى تتمتع بقدر كبير من النفوذ، وخاصةٍ في الغرب. ولا يزال صالح - وهو مرشح محتمل آخر للرئاسة - يخضع لعقوبات أمريكية لتعطيله المحاولة الأخيرة لجمع الليبيين معاً في عام 2015.
وفي غياب دستور متفق عليه، تنص القوانين الانتخابية الحالية على نظام رئاسي مع مجلس نواب ضعيف، حيث يتمتع الرئيس بسلطة تنفيذية كاملة، وبإمكانه تعيين حكومة ويكون القائد الأعلى للجيش. يُذكر أن القائد العسكري هو المنصب الذي سعى إليه حفتر قبل مهاجتمه طرابلس في نيسان/أبريل 2019. ومن بين مخاطر انتخاب رئيس يتمتع بصلاحيات كبيرة بموجب انتخابات مشكوك بمصداقيتها، وجود شخص واحد وصوت واحد ولمرة واحدة. (يحتاج المرء فقط إلى النظر إلى تونس، النقطة المضيئة في "الربيع العربي"، ليرى كيف يمكن لرئيس منتخب أن يعزز سلطته بسرعة، حتى بدون وجود جيش قوي إلى جانبه).
كما أن تسلسل الانتخابات هو مسألة لم يصر إلى حلها أيضاً. فقد أعلن "المؤتمر الدولي" من أجل ليبيا الذي عُقد في باريس في 12 تشرين الثاني/نوفمبر رسمياً أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ستجري في "24 كانون الأول/ديسمبر"، لكن بعض المشاركين أشاروا إلى أن العملية الانتخابية "ستبدأ" في 24 كانون الأول/ديسمبر. واعتباراً من الآن، ستجري الجولة الرئاسية الأولى التي تضمّ عدة مرشحين في 24 كانون الأول/ديسمبر. وحيث أنه من غير المتوقع أن يفوز أي من المرشحين بالأغلبية، فمن المرجح إجراء جولة ثانية. وتبقى مسألة ما إذا كان سيتمّ إجراء الانتخابات البرلمانية في تاريخ الجولة الأولى أو الثانية أو حتى لاحقاً، عالقة.
أخيراً، تُعتبر هوية المرشحين للرئاسة المسألة الأكثر إثارة للجدل. فسيف الإسلام وحفتر ورئيس الوزراء الحالي عبدالحميد الدبيبة الذي تعهّد بعدم الترشح حين استلم منصبه والمشتبه بتورطه بشكل كبير في الفساد، هم مرشحون فاسدون للغاية. واستناداً إلى "مفوضية الانتخابات"، يجب أن يقدمّ المرشح "دليلاً على أنه غير محكوم لارتكابه جناية أو جنحة" و"يكشف عن الأصول التي يملكها في ليبيا والخارج". غير أن "المفوضية" بذاتها غير قادرة على البتّ في هذه المعايير: سيف الإسلام مطلوب من المحكمة الجنائية الدولية؛ وحفتر - الذي كان لفترة طويلة من سكان ولاية فرجينيا الأمريكية - يواجه دعاوى مدنية بسبب أفعال جيشه في ليبيا بحق مزدوجي الجنسية. وهذه المسائل وحدها، ناهيك عن تنظيم عملية اقتراع حرة وعادلة في جميع أنحاء ليبيا بمساعدة جهاز أمني متهشم وحيث يعجز المراقبون الحياديون عن ضمان حدّ أدنى من النزاهة، تستوجب إرجاء الانتخابات.
وفي المقابل، تَعتبر الولايات المتحدة وغيرها أن إجراء الانتخابات في موعدها أقل خطورة من التأجيل لأن من شأن ذلك أن يضرّ بالصفقة الني تمّ التوصل إليها في العام الماضي لإجراء الانتخابات كما هو مثبت في قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي. ولكن هذا الأمر يكون منطقياً فقط إذا اعتُبرت الانتخابات شرعية من قبل معظم الأطراف. وفي الوقت الحالي، لا يوجد مرشح قادر على حشد مؤيدين على مستوى البلاد، ومن غير الواضح حتى ما إذا كان بإمكان هؤلاء المرشحين شنّ حملات في جميع أنحاء ليبيا. فاحتمالية قبول الليبيين بفوز مرشح إقليمي ضئيلة، لا سيما في الظروف التي سيتم فيها الطعن في قوانين الانتخابات والتصويت الفعلي إذا لم يتم تعطيلها بالكامل.
وتبرز أيضاً مسألة آلاف القوات والمرتزقة الأجانب المنتشرين في البلاد. فحتى المؤيدين للانتخابات يعتقدون أن حكومة جديدة فقط هي التي يمكن أن تطالب بمغادرة هذه القوات. ولكن مرة أخرى، من غير المرجح احتمال قيام حكومة جديدة مستقرة تتولى مثل هذا الدور في المستقبل القريب. فمن المرجح أن تُبقي روسيا مرتزقة "مجموعة فاغنر" في البلاد بغض النظر عن نتيجة الانتخابات، وهذا يشكل تهديداً مباشراً أكبر لمصالح الولايات المتحدة وحلف "الناتو" أكثر من أي شيء آخر في ليبيا. فضلاً عن ذلك، يستعد الروس بالتأكيد للتدخل الانتخابي كما يفعلون بشكل منتظم في وجه الديمقراطيات الغربية.
لقد قطعت ليبيا شوطاً طويلاً منذ إنهاء حربها الأهلية الثالثة في منتصف عام 2020 لتخاطر الآن باستئناف أعمال العنف أو تقسيم البلاد من خلال انتخابات متسرعة. وكان الموعد الأساسي في 24 كانون الأول/ديسمبر قد انبثق من عملية طموحة لم يُكتب لها النجاح لسوء الحظ. وتُعد المواعيد النهائية مفيدة باعتبارها وظائف قسرية ولكن ليس على حساب المخاطرة باندلاع حرب أهلية. ومن الأفضل بكثير استدعاء فريق جديد للأمم المتحدة، وبدعم من الولايات المتحدة وشركائها، لإعادة تنشيط الدبلوماسية الليبية بين الجهات الفاعلة الرئيسية والمجتمع المدني من أجل التوصل إلى إجماع حقيقي حول قانون انتخابي متفق عليه وتحديد جدول زمني جديد من شأنه بدء العملية الانتخابية بعد 90 إلى 120 يوماً من 24 كانون الأول/ديسمبر. وليس هناك شكّ في أن الليبيين يستحقون انتخاب قادتهم وأن الشعب يريد إجراء الانتخابات. ولكن تقع على عاتق المجتمع الدولي مسؤولية تهيئة أفضل الظروف الممكنة لهم للقيام بذلك بحرية وعدالة وأمان.
*بين فيشمان، هو مساعد باحث سابق في معهد واشنطن.