ليس شيئا أخطر على المجتمع ووحدة نسيجه الاجتماعي من صعود “الهويات المفترسة” على حد وصف الانثروبولوجي الأمريكي من أصول هندية أرجون أبادوراي Arjun Appadurai، أو كما يصفها الأديب اللبناني أمين معلوف بالهويات القاتلة، وهي هويات تبني حضورها وتنظيمها الاجتماعي بإلغاء الآخر، وتجعل شرط بقائها مرهوناً بالقضاء على الهويات الأخرى.
في دراسته العميقة لممارسات العنف التي تحدث على نطاق واسع في عالمنا الراهن، يبدي المفكر أبادوراي خشيته من صعود الأعداد الصغيرة أو الأقليات حين تغدو هويات مفترسة، تنشد النقاء الهوياتي على أساس ثقافي أو لغوي أو عرقي أوديني، في ظل تصدع الهوية الجامعة. و”تنشأ الهويات المفترسة عن تواجد هويتين أو أكثر لها تاريخ طويل من الاحتكاك والاندماج، وحدّ معين من التنميط المتبادل”.
انطلاقا من سردية “تشظي الهويات” والارتدادات العنيفة المترتبة عليها، تعمل وسائل الإعلام كأبرز حوامل العنف والكراهية في المجتمع، التي توفر ذخيرة من رسائل الاغتيال المعنوي الموجهة نحو الهويات الأخرى.
وبالتالي، فهي تعد إحدى أهم أدوات هدم الهوية الجماعية وتفتيتها إلى هويات فرعية متناحرة، تنتفي معها قيم المواطنة واحترام التنوع وفرص التعايش المشترك.
تبحث هذه المقالة – التي تستند إلى نتائج دراسات علمية حديثة – عن أي ملامح لبروز الهويات المفترسة في مضامين الصحافة الالكترونية اليمنية؟ وعن أي دور لوسائل الإعلام اليمنية في تغذية ثقافة الكراهية ضد الآخر؟ وكيف تكرّس الصور النمطية السلبية وتعيد بناءها بشكلٍ مقوضٍ للتنوع الثقافي والسلم الاهلي في المجتمع؟
•خطاب الكراهية كأداة صراع
يشكل خطاب الكراهية أحد أهم أدوات الصراع السياسي الراهن في اليمن الذي تشهده منذ العام 2011، إذ تأثرت وسائل الاتصال والاعلام فيه بحالة الانقسام والصراع العنيف من جهة، وكانت إحدى أدواته وساحاته الخطيرة، إذ طغى على خطابها الاتصالي لغة كراهية وعنف متبادل بين أطراف الصراع، وكان أثر ذلك وخيماً على انقسام المجتمع نحو مزيد من التشظي. ويشير مفهوم خطاب الكراهية Hate Speech في هذه المقالة إلى الرسائل البغيضة التي تنقلها وسائل الاعلام اليمنية وتنطوي على صور الإساءة إلى الآخر، والتحريض على الكراهية والعنصرية والتمييز العرقي والديني والجهوي والطبقي، وصولاً إلى البذاءة اللفظية كالشتم والوصم والتشهير والاحتقار والانتقاص.
في المجمل، يعتمد خطاب الكراهية في الأساس على التوتر، الذي يروم إعادة الإنتاج والتضخيم، لأنه خطاب يوحد ويفرق في الآن نفسه، فيوجد “نحن” و “هم” و”الذات” و”الآخر”.
ومع أن مفهوم “الآخر” في سياقه القيمي يعبر عن المعنى المقابل لمفهوم “الذات”؛ فإن المعلوم، بالممارسة، أن الطرفين ” الأنا- الآخر” يعكسان التنوع الفكري والثقافي والحضاري للمجتمع الإنساني. غير أن انطلاق هذه الثنائية من سياقات أيديولوجية منغلقة يحيلها إلى ثنائية تضاد تقوم على الاستقطاب والتعصب، اللذين يؤججان تصاعد خطاب الكراهية في جميع أنحاء العالم. لذلك، فإن دراسة هذا المحتوى البغيض في بيئة الاتصال اليمنية، ارتباطاً بسياقاته السياسية والاجتماعية والثقافية وبظرفيتيه الزمنية والمكانية، سيكون مفيداً في محاولة فهم ديناميكية انتشار خطاب الكراهية كشكلٍ من أشكال الصراع في المجتمع.
•خطاب الاعلام اليمني: كارثة أخلاقية
تعد دراستا (القعاري، 2014)و(الشامي، 2014)من الدراسات العلمية المبكرة التي انشغلت بتقييم أداء وسائل الإعلام اليمني وتحليل تغطياتها الاعلامية للأحداث في الأزمة السياسية الراهنة. حيث رصدت الأولى بروزا لقضايا الكراهية والعنف والحرب بشكلٍ كبيرٍ في محتوى الصحافة اليمنية، وتضمنها تحريضا مباشرا على الكراهية والعنف ضد الآخر. فيما كشفت الدراسة الثانية عدم التزام القنوات الفضائية اليمنية بأخلاقيات التغطية الإعلامية لأحداث الأزمة اليمنية، وسقوطها في التشهير بالآخر والاساءة لسمعته. وفي مقارنة تحليلية لخطاب الكراهية في الصحافة المكتوبة بين خمس دول عربية، أجراها مرصد الإعلام في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، تصدرت اليمن القائمة متفوقة بذلك على كلٍ من مصر وتونس والعراق والبحرين، واعتبرت ما تقدمه هذه الصحف من شتم ووصم وتمييز في خطابها الاعلامي كارثة أخلاقية.
الواقع أن وسائل الاعلام التابعة لأطراف الصراع في اليمن تتبارى على تغذية عمليات تنميط الآخر ووصمه بأقذع النعوت المشينة، كما تعمد إلى تزييف الحقائق وتحريف المعلومات لمجرد تمرير التهم وإلصاقها به، وتأليب الرأي العام ضده. فوسائل الاعلام مثلما تصنع الشخصيات المتخيلة وتبرزها للجمهور تعمل بالمقابل على حرقها وطمرها في طي النسيان. وهي بالمقابل تعمل أيضاً من خلال التغذية السلبية لنزعة الوصم الاجتماعي على التباين التدريجي للمجتمع وتشجيعه على فرز أعضائه وفقاً للصور النمطية التي ترسمها وسائل الاعلام في عقول الجماهير.
يتصل بعملية الوصم الاجتماعي أيضاً ما تقدمه وسائل الاعلام من ابتذال لفظي في خطابها الإعلامي، بتوظيف مفردات السب والشتم والتمييز والتحقير والتشهير ومختلف أشكال العنف والبذاءة اللفظية في صياغة معاني ومدلولات رسائلها الاتصالية. يرى صدقة وزملاؤه (2015) أنه عند احتدام الصراع يعلو منسوب الكراهية في وسائل الاعلام، وينعكس خطاباً إتهامياً وتحريضياً حاداً، يكون ذا أبعاد سياسية ومذهبية بدرجات متفاوتة. ويعبر مضمون الخطاب الاعلامي في الغالب عن استراتيجيات تبريرية تعمل على تجميل الذات وتحقير الآخر من خلال تمثيلاته.
من العنف الاعلامي إلى التنمر الرقمي
لا تقتصر خطورة الأمر على الدور الذي تقوم به وسائل الاعلام اليمنية – المقروءة والمسموعة والمرئية – في تغذية الهويات القلقة، وبث نوازع الكراهية، والتحريض على العنف والفوضى، واستعداء الآخر منذ وقت مبكر من فصول الأزمة اليمنية. ولكن يتجاوز خطاب الكراهية والعدائية نطاق وسائط الاتصال والاعلام التقليدية باكتسابه قنوات ومنافذ جديدة على الشبكة العنكبوتية، باتت تمثل ساحات صراع رديفة، تسهل انتقال رسائل البغض والتمييز والكراهية والعنف بين المستخدمين، وهو ما يعرف علمياً بالكراهية الالكترونية cyber-hate ويقصد بها استخدام لغة عنيفة أو عدوانية أو هجومية، من خلال الإنترنت والشبكات الاجتماعية، تركز على مجموعة معينة من الأشخاص تربطهم قواسم مشتركة، مثل الدين أو العرق أو النوع الاجتماعي أو الانتماء السياسي، وغالبًا تكون مدفوعة بالأيديولوجيات، ومستندة إلى اختلال توازن القوى[7]. تذهب الدراسات العلمية إلى تأكيد أن “الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تعمل كمساحة لخطاب الكراهية الإلكترونية والإرهاب، وتعبيرات العنف والكراهية وأساليب التنمر الأكثر شيوعا عبر الإنترنت”.
على مستوى مواقع الصحافة الالكترونية اليمنية، رصدت دراسة (الشامي والأكوع، 2021) توظيفا إعلاميا للألفاظ التمييزية والمتحيزة على نحو متضاد في تغطية مواقع الصحافة الالكترونية اليمنية للحرب في اليمن، وعدم التزامها بمعايير وأخلاقيات الصحافة الحساسة أثناء الحروب والصراعات. كما كشفت دراسة (بخاش، 2021)بالمثل عن استغلال أطراف الصراع لمواقع الصحافة الإلكترونية وتحويلها لساحات استهداف الآخر على نحو خطير، وتضمنت تغطياتها الاعلامية مفردات كراهية وعنف وإساءة بشكلٍ مبالغٍ فيه. أما على مستوى الشبكات الاجتماعية في اليمن، فقد أظهرت دراسة (النهاري، 2019)أن خطابات النخبة اليمنية (عينة الدراسة) على موقع التدوين المصغر تويتر تضمنت تعبيرات لغوية مشحونة بالعنف والتحريض والإساءة، كما تضمنت صفات تمييزية تكرس الكراهية العنصرية والطائفية في اليمن.
وتؤكد هذه النتائج العلمية على حقيقة أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال اجتزاء العنف الرمزي في الفضاء الافتراضي في اليمن عن دوامات العنف الكامن في المجتمع أصلاً، فالأولى امتدادٌ للأخيرة وانعكاس لها، وإن كان لا يمكن تجاهل دورها في تغذية العنف على أرض الواقع الحقيقي.
•الآخر في مرمى الاستهداف
تكشف نتائج دراسة تحليلية حديثة لخطاب الكراهية في مواقع الصحوة نت والمسيرة نت وعدن تايم خلال شهر يوليو 2021 عن تضمن العينة (1337) تكراراً لمفردات الكراهية، بمتوسط (7) تكرارات لمفردات الكراهية في المادة الصحفية الواحدة، وهو معدل مبالغ فيه كثيرا من حيث شيوع لغة الكراهية والعنف في محتوى المواقع الالكترونية الثلاثة وكثافة استخدامها في الخطاب الاعلامي. وجميع مفردات الكراهية كانت ذات دلالات عميقة دينيا وسياسيا وأخلاقيا واجتماعيا، فقد تضمنت مفردات الكراهية وصف الآخر بأنه مليشيا بما نسبته 45,1%، وفيها اتهام بالتمرد والخروج عن الشرعية، مما يشرعن ردعه وإخضاعه بالقوة.
وجاء في المرتبة الثانية وصمه بالإرهاب والانتماء للجماعات المتطرفة كالقاعدة والدواعش والتكفيريين فيما نسبته 16,2%، وجاء ثالثا الوصم بالعمالة والخيانة والتبعية لقوى أجنبية بما نسبته 9,1%، وفي المرتبة الرابعة جاء وصم الآخر بطابع تمييزي مناطقي مقيت مثل غزاة ومحتلين وشماليين وجنوبيين بما نسبته 8,2%، فيما اشتمل خطاب الكراهية أيضاً مفردات من قبيل إخواني، وفاسد، ومجرم، وسراق البلد ونهابيه، ومرتزقة، وانقلابيين.
يرى أبادوراي في تفسيره لعمليات العنف في العالم أن “بناء الهويات المفترسة يتطلب فناء فئات اجتماعية أخرى قريبة منها، على أساس انها تمثل تهديدا لوجود “النحن”. وكثيراً ما تكون الهويات المفترسة هويات تنشد ارتباطا حصرياً شاملاً بهوية الأمة”.
وفي صراع اليمن، دأبت وسائل إعلام كل طرف على تأطير الآخر وتصويره في موضع العدو، في خطابٍ لا يؤجج الصراع الطائفي فحسب، لكنه يشرعن للعدوان والعنف من خلال شيطنة طرف وأنسنة الطرف الآخر.
وبذلك، تمعن وسائل الاعلام اليمنية في استعداء الآخر، وتكريس خطاب كراهية استعلائي يقفز على كل القواسم المشتركة، لتصنع صوراً نمطية مغرقة في الفصام، وإنتاج معنى اختزالي لا يتسع إلا لوجهة نظر القوى المهيمنة.
*صحفي وباحث أكاديمي يمني. يعمل حاليا على إنجاز رسالته للدكتوراه في علوم الإعلام والاتصال بجامعة منوبة – تونس. وهو حاصل على ماجستير من كلية الإعلام بجامعة صنعاء، 2012. تتركز مجالات الاهتمام البحثي لديه في دراسات الرأي العام، والاتصال السياسي، وإعلام الأزمات. عمل بخاش في المجال الأكاديمي والصحفي لدى مؤسسات حكومية وخاصة في اليمن. ونشرت له عدد من الدراسات العلمية المحكمة، واشترك ضمن فريق علمي في تأليف كتاب "الإعلام والانتقال الديمقراطي في العالم العربي" صدر عام 2019، وله كتاب تحت الطبع بعنوان "الأخبار وهندسة الرأي العام".
-للاطلاع على نص المقالة من موقعها الاصلي يمكن زيارة الرابط التالي
https://almadaniyamag.com/ar/2021/11/22/war-journalism-yemen/