في ديسمبر/كانون الأول 2011، كُنتُ في مُعسكر أمريكي صغير بالقرب من بغداد أتحدث مع القادة الميدانيين لأحد أجهزتنا الاستخباراتية حول الخيارات للحد من فقدان كل من الاستخبارات التقنية والبشرية بعد أن تم تخفيض القوات العسكرية الأمريكية إلى الصفر في العراق. في وقت متأخر من تلك الليلة بعد انتهاء اجتماعاتي التي استمرت طوال اليوم، قمت بإجراء مكالمة مع قائدي الجنرال جيم ماتيس، الذي كان وقتها يتولى رئاسة القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM). كان قد حضر لتوه جلسة أخرى مع القيادة في واشنطن ولا تزال كلماته ماثلة في ذهني حتى يومنا هذا حين قال: "يا فتى، لقد قدمنا أفضل نصائحنا العسكرية، لكن الرئيس أوضح تمامًا أن "صفر يعني صفر"." دعنا نقولها ببساطة، الجنرال ماتيس كان يقول إنه لا يهم ما تحتاجه أجهزة المخابرات، أو ما يريدون منا أن نفعله أو ما يجب أن نفعله، فإن قواتنا العسكرية الأمريكية سوف يصبح عددها صفر في العراق. القرار قد اتُخِذ، "عليك بالعودة إلى أرض الوطن."
في ذلك الوقت كُنت مدير العمليات في القيادة المركزية الأمريكية، وكان فريقنا مسؤولًا عن دعم خطوة خفض جميع القوات العسكرية الأمريكية التي تجاوزت 100 ألف جندي إلى الصفر بحلول نهاية ديسمبر/كانون الأول. بناءً على أوامر الرئيس، قاد الجنرال لويد أوستن بنجاح العملية المُعقّدة لسحب القوات الأمريكية إلى الصفر قبل نهاية العام، بما في ذلك إزالة جميع معداتنا العسكرية وإغلاق جميع قواعدنا ومواقعنا بشكل منهجي.
وكما أظهر التاريخ، فإن هذا القرار، على الرغم من حُسن تنفيذه، كان قرارًا سيئًا، ولكنني لن ألقي باللوم في ذلك على إدارة رئاسية واحدة. هذا القرار، كما هو الحال اليوم في أفغانستان، تم التفاوض عليه لأول مرة من قِبَل الإدارة السابقة وتم تنفيذه من قِبَل الإدارة الحالية. ومع ذلك، كان هناك الكثير من اللوم الذي لا يمكن أن نتجاهله، بما في ذلك القيادة العراقية التي لم ترغب في التفاوض على اتفاقية وضع القوات التي كانت ضرورية لحماية جنودنا. في النهاية، كان من الصعب إبقاء القوات الأمريكية هناك، مثل هذا القرار كان سيترتب عليه تداعيات سياسية، وكان سيتعين علينا تعديل جدولنا الزمني، لكن هذا لا ينبغي أن يصير شغلنا الشاغل. إذ يجب أن تعطي قيادتنا الأمريكية الأولوية دائمًا لما هو في مصلحتنا الوطنية، حتى عندما يكون ذلك صعبًا؛ ففي نهاية الأمر، "نحن نعرف كيف نبذل قصارى جهدنا لننجح الأمر".
الآن ونحن نشاهد هذه الكارثة تتكشف في خروجنا من أفغانستان، ما هي الدروس المستفادة من العراق التي يجب أن نطبقها اليوم وهل لا يزال هناك متسع من الوقت؟ هناك دروس مستفادة من العراق قابلة للتطبيق في أفغانستان لأنه على الرغم من أن التاريخ لا يعيد نفسه، إلا أنه بالتأكيد يتشابه في إيقاعه كثيرًا، ونعم، هناك دائمًا متسع من الوقت.
أولًا، لماذا الوجود الأمريكي مهم جدًا؟ الإجابة هنا بسيطة لكنها لا تتعلق فقط بالأرقام، بل تتعلق أيضًا بقيادة الولايات المتحدة والتزامها. كثيرًا ما يُركِّز الإعلام والمحللون العسكريون على عدد القوات أو المعدات لأنه مقياس سهل، لكن هذا الرقم وحده يفتقر إلى نقطة رئيسية: نفوذ الولايات المتحدة أكبر بكثير. بغض النظر عن كل الحديث عن صعود المنافسة بين القوى العظمى والانتقال من كون الولايات المتحدة هي القوة العالمية الوحيدة إلى عالم متعدد الأقطاب بصورة أكبر، فإن قيادة الولايات المتحدة ونفوذها سيستمران في أن يكونا أوسع بكثير من أعداد القوات المتواجدة. يستمر التزامنا المعلن أو الضمني وتواجدنا في تحمل وزن أكبر بكثير من الأرقام وتأثير أكبر إذا قمنا بعمل القيادة الجادة وأقمنا تحالفًا من الدول الأخرى للانضمام إلينا. نحن لا نحتاج إلى أن ننظر أبعد من الأسابيع العديدة الماضية في أفغانستان لنرى ذلك يتحقق عمليًا أمامنا من جديد.
تسيطر حركة طالبان الآن على غالبية أفغانستان بما في ذلك العاصمة؛ الاختلاف الوحيد عن الأشهر القليلة الماضية هو أننا سحبنا 3500 جندي من جنود الولايات المتحدة والتحالف الدولي الذي دعم ما كنا نفعله. لم يكن هؤلاء الجنود في عمليات قتالية مباشرة ضد طالبان، بل كانوا يقومون بعدد من المهام الأخرى، لكنهم كانوا أيضًا رمزًا للقيادة والالتزام الأمريكي. على الرغم من تاريخ الفساد لدى حكومة أفغانستان وأنه بمرور الوقت اتسعت مهمتنا المعلنة في أفغانستان في نطاقها وعمقها، ففي النهاية، إن وجودنا، متمثلًا في هؤلاء الجنود البالغ عددهم 3500، قد ساهم في إبقاء طالبان مقيدة. وقد أتاح لنا ذلك قاعدة نواصل من خلالها جمع المعلومات الاستخباراتية، والأهم من ذلك منع عودة ظهور القاعدة أو صعود شبكة إرهابية عالمية أخرى.
ما هو الدرس الذي يجب أن نتعلمه من العراق ونطبقه في أفغانستان؟ في فراغ العراق بدون تواجد أمريكي، كان ولادة تنظيم الدولة الإسلامية أمرًا سهلًا. لقد رأينا جميعًا نتائج الوصول إلى الصفر: أعمال الإرهاب المروعة لداعش، وقتل الأبرياء في جميع أنحاء أوروبا، بالإضافة إلى عمليات القتل بلا رحمة والتشويه لأولئك الذين لا يرضخون لمعتقداتهم، والدفع بالنساء إلى العبودية الجنسية، والتدمير العبثي للآثار التاريخية. نتيجة لذلك، كان على الولايات المتحدة، بدعم من تحالف يضم أكثر من 60 دولة، العودة وإنفاق ثروات قومية من الأرواح والموارد لتعقب وتدمير تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا. لماذا؟ لعدم وجود عدد قليل من القوات الأمريكية على الأرض. ولكي نفهم السياق العام لهذا الأمر، ففي ذلك الوقت كنا نقترح في العراق الإبقاء على نحو 5000 جندي على الأرض.
أين نحن الآن في أفغانستان؟ لقد ارتكبنا أخطاءً جسيمة في انسحابنا، لست بحاجة إلى تفصيلها، واضطررنا بالفعل إلى إعادة القوات لأننا كنا نعمل على الوصول إلى أعداد محددة وفقًا لجدول زمني مُختَلَق لا علاقة له بالظروف على الأرض.
ماذا يجب أن نفعل الآن؟ لا يمكننا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء واستعادة أفغانستان من طالبان، لكن يجب ألا ندير ظهورنا لفعل الشيء الصحيح أيضًا. الخطوة الأولى واضحة وقيد التنفيذ: يجب علينا إخراج مواطنينا بغض النظر عن مكان وجودهم في البلاد، إلى جانب أولئك الذين ساعدونا في مهمتنا. أما القيام بأقل من هذا فلن يتم نسيانه في أي نزاعات مستقبلية عندما نحتاج إلى مساعدة من السكان المحليين أو مجموعات المعارضة.
لا يمكننا الانتظار حتى نكمل هذه المهمة لكي نتخذ الخطوات التالية. يجب علينا أيضًا أن نعمل الآن لإيجاد طريقة ليكون لنا تواجد في منطقة أفغانستان / باكستان ويجب علينا القيادة والتأثير لدعم مصالحنا القومية. سيكون هذا أيضًا صعبًا للغاية – لا توجد خيارات سهلة الوصول إليها كبديل عن القواعد العسكرية ولا يوجد تحالف جاهز يمكننا تولي قيادته – ولكن لدينا خيارات وهي تفوق بكثير في وزنها البديل الآخر. إذا لم نفعل أي شيء، فسيوفر هذا مساحة مناورة للشبكة الإرهابية التالية التي ستنتفض، والتي ستكون عازمة على مهاجمة الغرب. هذا أمر مؤكد والأمر لن يكون سوى مسألة وقت قبل تحققه.
ماذا يجب أن تكون خطتنا؟ يجب أن نعمل مع الدول الأخرى، بدءًا من دول الناتو والحلفاء الآخرين. نحن لم نشركهم في قرار الانسحاب الحالي أو الجدول الزمني لتنفيذه، لذا فقد حان الوقت للاعتراف بخطئنا وإعادة بناء التحالف. علينا أن نبدأ تحالفًا صغيرًا، لأننا أضعنا الثقة فينا، لكنه سيكبر بمجرد أن يرى الجميع أننا ملتزمون تمامًا.
إدراك أن باكستان ستكون جزءًا من الحل. نعم، من الصعب على الولايات المتحدة أن تعمل مع باكستان، لكن دعونا لا ننسى أن أسلحتهم النووية يجب أن تظل تحت السيطرة. من مصلحتهم ومن مصلحتنا منع الشبكات الإرهابية مثل القاعدة من الظهور مرة أخرى في أفغانستان أو باكستان.
الدول الأخرى باستطاعتها أن تساعد وسوف تساعد. في ذروة الاضطرابات في أفغانستان، فقدنا في بعض الأحيان إمكانية الوصول إلى خط الإمداد الأرضي والجوي الرئيسي عبر باكستان. ثم استخدمنا نفوذنا في الولايات المتحدة لبناء شبكة شمالية لتوزيع الإمدادات التي أقمناها من لا شيء باستخدام سبل الوصول عن طريق التفاوض مع عدة بلدان أخرى. الآن سيكون هناك حاجة إلى جهد مماثل يعمل بنفس الشعور بالإلحاح لضمان التواجد الذي نحتاجه في منطقة أفغانستان / باكستان. بعض تلك الدول المجاورة تخضع الآن لنفوذ روسيا، لذلك سيكون هذا أيضًا عملًا شاقًا وسيستغرق وقتًا.
الاستمرار في تعزيز تحالفاتنا وشراكاتنا في قطر والإمارات والبحرين، بحيث تظل خيارات القواعد الأمريكية هذه قائمة أو ربما يمكن توسيعها. يجب أن نسعى أيضًا إلى العمل مع روسيا والصين. هناك أرضية مشتركة مع كل منهما، ولكن مرة أخرى لن يكون هذا سهلًا وسيستغرق بعض الوقت. الدرس الذي تعلمناه هو أن البديل المتمثل في عدم اتخاذ هذه الخطوات سيجعلنا ندفع ثمنًا أكبر بكثير من خزيتنا ومواردنا الوطنية فيما بعد.
في الختام، التواجد الأمريكي مهم وعندما يقترن بقيادة الولايات المتحدة والتزامها سيكون له تأثير استراتيجي أكبر بكثير. يظل هذا صحيحًا حتى في مواجهة كل ما نراه يتكشف في الأخبار حاليًا. يجب علينا الآن أن ننضم إلى حلفائنا والشركاء الآخرين ونقودهم في تطبيق الدروس التي تعلمناها من قرار الانسحاب الكامل في العراق؛ إذ أن من مصلحتنا الوطنية القيام بذلك.
نائب الأدميرال كيفن دونيغان (متقاعد) هو القائد السابق للأسطول الأمريكي الخامس والقيادة المركزية للقوات البحرية ومدير العمليات في القيادة المركزية الأمريكية. وهو حاليًا كبير الباحثين بمعهد الشرق الأوسط. الآراء الواردة في هذه المساهمة هي آراءه الخاصة.