لا تُقاس العلاقات بين الدول بحفلات الاستقبال والبيانات الدبلوماسية المنمّقة، بل تُقاس بظلالها الممتدة، وبالصمت الذي يلي الضجيج، وبالهزّات التي ترسلها عبر أوصال النظام العالمي.
واللقاء الأخير بين القادة في بريطانيا والولايات المتحدة كان بمثابة إعلان دفن نهائي لـ"العلاقة الخاصة" كما عُرفت لعقود، وولادة تحالف جديد أكثر صرامة وواقعية، مُصمَّم خصيصًا لعبور عصر الاضطرابات الكبرى.
في منتصف سبتمبر 2025، تحوّلت أنظار العواصم الغربية إلى قلعة وندسور، حيث حظي الرئيس الأميركي دونالد ترامب باستقبال رسمي ووليمة ملكية، في زيارة وُصفت بأنها من أكثر محطات "العلاقة الخاصة" بين لندن وواشنطن إثارة للجدل منذ عقود.
المشهد العسكري المهيب، بمشاركة نحو 1300 جندي و120 حصانًا وعزف الموسيقى العسكرية في باحة القصر، قدّم صورة كلاسيكية عن "البروتوكول الإمبراطوري" الذي تتقنه بريطانيا. لكنه أثار في الوقت ذاته تساؤلات أعمق حول جوهر العلاقة الثنائية، ومصالحها الحقيقية، وانعكاساتها على ملفات ملتهبة مثل الحرب في أوكرانيا، الصراع في غزة، والأزمة اليمنية وما يتصل منها بأمن الملاحة في البحر الأحمر.
اختيار وندسور مكانًا للاستقبال بدل قصر باكنغهام بدا محاولة لإضفاء طابع أكثر حميمية وأقل انغماسًا في رمزية الحكم البريطاني.
لكن الاحتفالات الملكية لم تحجب الانقسام الشعبي؛ إذ خرجت احتجاجات واسعة في شوارع لندن رافعة شعارات ناقدة، وعُرضت صور ترامب إلى جانب جيفري إبستين على أسوار وندسور، في تذكير بعلاقاته السابقة المثيرة للجدل. هذا المشهد شكّل تحديًا للشرعية الرمزية للمراسم الرسمية، وأظهر فجوة بين النخب التي تدير بروتوكول الدولة والجمهور الذي يرى في الزيارة تجسيدًا لتحالف لا يعكس أولوياته القيمية.
العلاقة بين بريطانيا والولايات المتحدة قصة معقدة تتجاوز التحالفات العسكرية والمصالح الاقتصادية. علاقة وُلدت من رحم التمرد الثوري، ونضجت عبر قرون من التنافس ثم التعاون.
ولا يمكن قراءة أي زيارة أميركية إلى بريطانيا خارج إرث هذه العلاقات، التي تجاوزت تحالف المصالح لتصبح سردية أعمق: علاقة "الأب" بالإمبراطورية العجوز و"الابن" بالإمبراطورية الصاعدة.
فبريطانيا، التي كانت يومًا محور النظام العالمي، سلّمت المشعل للولايات المتحدة، التي ورثت القوة وأعادت تشكيل النظام الدولي وفق معاييرها الخاصة.
هذا البُعد النفسي–التاريخي يظل حاضرًا في كل لقاء، وفي كل نظرة متبادلة بين قادة لندن وواشنطن، وهو المفتاح لفهم طبيعة تفاعلاتهم.
في الرابع من يوليو/تموز من كل عام تحتفل الولايات المتحدة بيوم استقلالها عن بريطانيا حيث اعتمد الكونغرس إعلان الاستقلال رسميًا عن الإمبراطورية البريطانية في ذلك اليوم من عام 1776.. ومنذ الاستقلال الأميركي مرت العلاقة بين البلدين بمحطات متعددة من التصادم والتقارب إلى أن تحوّلت العلاقة تدريجيًا إلى ما يُعرف بـ"العلاقة الخاصة" والتي كانت انعكاسًا لتقارب ثقافي ولغوي، وتوافق في القيم الديمقراطية، وتنسيق استراتيجي عميق، خاصة خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة.
ومن تحالف تشرشل وروزفلت في الحرب العالمية الثانية، إلى تأسيس الأمم المتحدة وحلف الناتو، إلى اتفاقيات UKUSA و"الفايف آيز" والتعاون النووي، ظلّ التحالف قائمًا على مزيج من القيم والمصالح. لكنه لم يكن يومًا خاليًا من التوتر: أزمة السويس عندما اضطرت بريطانيا إلى التراجع عن تدخلها العسكري تحت ضغط أميركي(1956)، تحالف ريغان–تاتشر، شراكة بوش–بلير في حرب العراق (2003)، كلها محطات كشفت أن العلاقة محكومة في النهاية بمنطق القوة والمصلحة الوطنية.
زيارة ترامب تأتي في هذا السياق التاريخي المعقد. منذ وصوله إلى الحكم، مثّلت سياسته "أميركا أولًا" تحديًا مباشرًا لفكرة "العلاقة الخاصة". فقد شكّك في الناتو، شجع بريكست، وأعاد تعريف العلاقة باعتبارها شراكة براغماتية قائمة على الصفقات التجارية والمصالح السياسية، لا على القيم المشتركة.
وزيارته لا يمكن قراءتها بمعزل عن هذه الخلفية، فهي تُعد بمثابة إعادة تشكيل للعلاقة في عهد جديد.
فبينما كانت الزيارات الرئاسية السابقة تركز على التأكيد على القيم المشتركة والتحالفات القائمة، فإن زيارة ترامبركزت على إبرام اتفاقيات تجارية جديدة وإعطاء دفعة للتحالفات الثنائية.
هذا التحول يعكس رغبة في إعادة تعريف العلاقة من كونها شراكة قائمة على قيم مشتركة إلى شراكة براغماتية مبنية على المصالح التجارية والسياسية المتبادلة.
ولطالما كانت الشراكة عبر الأطلسي حجر الزاوية في النظام الليبرالي العالمي منذ منتصف القرن العشرين، والتي بُنيت على ركيزتين: الأولى أيديولوجية، تجسدت في خطاب السير ونستون تشرشل عن "ستارة الحديد" ودفاعه عن العالم الحر، والثانية استراتيجية، تمثلت في الحماية الأميركيةلأوروبا في ظل حلف الناتو مقابل ولاءٍ استراتيجي من الحلفاء.
وكانت علاقة قائمة على تبادل المنفعة، لكنها مغطاة برداء من القيم المشتركة، لكن هذا الرداء الأيديولوجي أصبح اليوم باليًا. ما شهده اللقاء الأخير هو تحول جوهري من تحالف القيم إلى تحالف المصالح الصرف، أو ما يمكن تسميته "الواقعية الانتقالية". لم يعد الحديث عن "العالم الحر" يحتل الصدارة، بل حل محله الحديث عن "الأمن الاقتصادي" و"سلاسل التوريد الموثوقة" و"منافسة القوى المناهضة".
تحالف تعيد صياغته لغة المصالح البحتة، وفلسفة سياسية تعترف بزوال لحظة القطبية الأحادية وتستعد لصراع طويل، ليس على القيم، بل على النفوذ والتكنولوجيا والموارد.
بالعودة إلى تفاصيل زيارة الرئيس دونالد ترامب الثانية للمملكة المتحدة كحدثٍ يجمع بين طقوسٍ ملكية رفيعة ودفعةٍ عملية لإعادة صياغة رصيد العلاقات عبر الأطلسي في ثوبٍ تقني وتجاري، ومن هنا برز الطابع الاقتصادي للعلاقة.
إذ رُكّز على توقيع "اتفاقية الازدهار التكنولوجي" في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة النووية، وإعلان استثمارات أميركية تتجاوز 150 مليار جنيه إسترليني (أكثر من 204 مليارات دولار).
شركة (بلاكستون) بقيمة 90 مليار جنيه (122.6 مليار دولار) بجانب 30 مليار دولار من شركة (مايكروسوفت) و5 مليارات جنيه (6.8 مليار دولار) من شركة (غوغل) و5.2 مليار دولار من شركة (برولوجيس) في مشاريع مختلفة تشمل الطب والنقل بالسكك الحديد، وفقًا لوكالة الأنباء الكويتية (كونا). وهي شركات كبرى وضعت أقدامها بقوة في السوق البريطانية، فيما وُعِد بتوفير آلاف الوظائف.
المقاربة البريطانية ركزت على الاقتصاد كمدخل لإدارة العلاقة، في محاولة لمواجهة تباطؤ النمو وجذب رؤوس الأموال. لكنها، في المقابل، فتحت الباب أمام تبعية أعمق للتمويل والتقنية الأميركية في مجالات حساسة كالنفط والطاقة والبيانات.
فالأرقام هنا وفقًا لخبراء الاقتصاد، ليست مجرد عقود تجارية، بل أدوات نفوذ، ومراكز البيانات والابتكارات في مجال الذكاء الاصطناعي تتحول إلى مسارح جديدة للصراع بين القوى الكبرى، والاعتماد البريطاني المتزايد على التمويل الأميركي قد يقيد استقلالية القرار الاستراتيجي.
لم يَحجب الاقتصاد الخلافات السياسية. فقد عبّر رئيس الوزراء كير ستارمر عن نيته الاعتراف بدولة فلسطينية، بينما رفض الرئيس الأميركي دونالد ترامب ذلك علنًا، كاشفًا التصدع في أولويات الطرفين.
في الملف الأوكراني، جاءت تصريحات ترامب بمزيج من الانتقاد لبوتين والدعوة إلى حلول تفاوضية، ما يضع بريطانيا في موقع دفاعي تسعى فيه لضمان استمرار الالتزام الأميركي تجاه كييف.
أما غزة، فقد عكست المواقف واقعية قاسية. فالموقف من الحرب في غزة هو النموذج الأوضح لهذه "الواقعية الجديدة": المبادئ لم تَعُد حاكمة، بل المصالح الاستراتيجية. تاريخيًا، ظلّ الدعم الأميركي-البريطاني لإسرائيل ثابتًا، رغم التكاليف الإنسانية والسياسية الباهظة، لا انطلاقًا من التزام أخلاقي، بل من إدراك بأن إسرائيل حجر الزاوية في الاستقرار الإقليمي، وحليف استخباراتي وتكنولوجي لا يمكن الاستغناء عنه في مواجهة قوى أخرى. وهو موقف براغماتي بحت، يُخضع حقوق الإنسان وحلّ الدولتين لحسابات المصلحة القومية الضيقة.
وفي المؤتمر الصحفي في لندن، أعلن ترامب صراحة أنه يختلف مع ستارمر بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وأوضح ستارمر أن بلاده تعتزم الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة كجزء من خطة شاملة لتحقيق السلام والأمن للفلسطينيين والإسرائيليين. ورد ترامب بأن هذا الخلاف من بين القضايا القليلة التي تفرّقهما. كما انتقد إعلان فرنسا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
ووفقًا لتقارير صحفية بريطانية، تستعد المملكة المتحدة للاعتراف رسميًا بدولة فلسطين خلال عطلة نهاية الأسبوع، بمجرد مغادرة ترامب البلاد بعد زيارته الرسمية. ونقل موقع آي عن مصادر حكومية أن الإعلان قد يتم خلال أيام قليلة، قبل اجتماعات وزراء الخارجية رفيعة المستوى في الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، المقررة الاثنين المقبل.
والمضي في قرار الإعلان، وتفاصيله، سيحدد ما إن كانت الصفقات الاقتصادية الأميركية-البريطانية قد وضعت أي اشتراطات خفية أو قيود سياسية تؤثر على توقيت الاعتراف وشكله، بما يربط بين الاقتصاد كأداة ضغط وبين الملفات الجيوسياسية الحساسة.
وفيما يتعلق بالبحر الأحمر واليمن، لم يُعلن عن مناقشة الملف بشكل مباشر، غير أن محللين رجّحوا عدم إغفاله في اللقاءات الثنائية، خصوصًا أن الضربات العسكرية الأميركية-البريطانية السابقة كانت مشتركة، قبل أن يتقرر وقفها.
إلا أن التصعيد في البحر الأحمر والهجمات على الملاحة الدولية يُعالَج، لا كقضية إنسانية أو سياسية معقدة، بل كتهديد لأمن سلاسل التوريد العالمية وللاستقرار الاقتصادي. ولذلك جاءت الضربات الجوية الأميركية-البريطانية كردّ لحماية المصالح الاقتصادية المباشرة، وليس كجزء من مسعى لحلّ جذور الأزمة اليمنية. وهو نهج يقوم على "إدارة الأزمات" لا "حلها"، بما يعكس أولويات النظام العالمي الجديد، حيث أصبح الاقتصاد ساحة المعركة الأولى.
وليست هذه المرة الأولى التي يتجاهل فيها ترامب الملف اليمني خلال زياراته؛ ففي زيارته للسعودية يومي 13 و14 مايو 2025، لم يُشر صراحة إلى الأزمة اليمنية، وهو ما فسّرته قراءات بحثية بتركيز الزيارة على الطابع الاقتصادي والصفقات الاستثمارية أكثر من الملفات السياسية، وهو طابع مشابه لزيارته إلى لندن.
إجمالاً، تكشف مخرجات اللقاء الأميركي-البريطاني عن لغة جديدة للقوة وتحول في البنى التحتية للسلطة. وهذه المخرجات، سواء المعلنة أو غير المعلنة، سيكون لها انعكاسات عميقة على المشهد الدولي. وفي ظل الأزمات الراهنة، كالحرب في أوكرانيا أو التوترات في الشرق الأوسط، يمكن قراءة الزيارة على عدة مستويات:
ـ المستوى الاقتصادي-الأمني: وُضع إطار جديد للتعاون يركز على "أمن الرخاء". التعاون في مجالات الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة لم يعد تعاونًا تجاريًا فقط، بل أصبح سلاحًا في معركة الهيمنة التكنولوجية ضد منافسين استراتيجيين. كما يعكس إدراكًا بأن ساحة الصراع في القرن الحادي والعشرين انتقلت من ميادين القتال إلى مختبرات التكنولوجيا وشبكات البيانات.
ـ المستوى العسكري-الاستراتيجي: جرى التأكيد على التزام الناتو، ولكن بلغة جديدة؛ إذ لم يعد الحديث عن "الدفاع المشترك" فحسب، بل عن "الردع المالي". والدعوة إلى زيادة الإنفاق الدفاعي من قِبل الحلفاء تعكس تحميلهم تكلفة الحماية الأميركية، وهو تحول يتسق مع الرؤية الترامبيةللعلاقات الدولية كعلاقات معاملاتية بحتة، حتى وإن تبنّاها قادة آخرون اليوم.
ـ المستوى الرمزي: غياب الخطاب الأيديولوجي يُعد رسالة بحد ذاته؛ إذ يشير إلى أن الغرب، أو على الأقل قيادته الأنجلو-ساكسونية، لم يعد واثقًا من قدرته على فرض قيمه أو حتى من جاذبيتها للآخرين. فالصراع اليوم وجودي مع منافسين، والغاية هي الفوز لا الإقناع.
هذا التحول في طبيعة التحالفات سينعكس على الملفات الساخنة بشكل كبير. فمن المرجح أن يستمر الدعم الأميركي-البريطاني لأوكرانيا، لكنه سيكون أكثر حسابية وأقل التزامًا. المعيار لن يكون "انتصار الديمقراطية"، بل "إضعاف روسيا كقوة منافسة" بأقل تكلفة. كما قد تتزايد الدعوات إلى تسوية تفاوضية، لا من أجل السلام، بل لإعادة توجيه الموارد نحو ساحة الصراع الأكبر: المحيط الهادئ والصين. أما "الردع المالي"، فسيجعل الدعم مشروطًا بمساهمة أوروبية أكبر، ما قد يثير توترات داخل الحلف.
وبناءً على ذلك، يمكن القول إن اللقاء مثّل إيذانًا بولادة نموذج تحالفي جديد، أكثر هشاشة وقِصرًا في المدى. تحالف مصمم للصراع لا للبناء.
هذا التحول يعكس اعترافًا ضمنيًا بانتهاء لحظة القطبية الأحادية، والدخول في عصر تنافسي طويل، حيث الهدف ليس بناء نظام عالمي متجانس، بل تحقيق مكاسب آنية وحماية النفوذ أمام منافسين كبار، وهو ما يفضي إلى عالم أكثر انقسامًا وأقل استقرارًا، حيث تتوارى اللغة الأخلاقية لتحلّ محلها لغة القوة والمصلحة.
تعكس هذه الزيارة تناقضات المرحلة: اقتصاد يسعى إلى جرّ المستقبل نحوه، وسياسة غارقة في أزمات الشرق الأوسط وأوروبا، وشعوب تتأرجح بين الأمل والرفض.
وبين القصور والصفقات، تحاول بريطانيا أن تكتب لنفسها فصلاً جديدًا في كتاب علاقتها بالولايات المتحدة، لكن القلم ما يزال بيد التاريخ، والمفردات موزّعة بين وعود كبرى وأسئلة معلّقة.