في مشهد إقليمي تحكمه التوازنات الحسّاسة وتداخل الملفات، تواصل سلطنة عُمان لعب دورها التقليدي كوسيط هادئ وموثوق، بعيداً عن الأضواء وأجندات المحاور المتصارعة. الدور العُماني تجدّد بقوة في أيار/ مايو 2025، عندما استضافت محادثات غير معلنة سلفاً بين الولايات المتحدة وجماعة الحوثي، أسفرت عن إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقف الضربات الجوية على اليمن، مقابل وقف الحوثيين هجماتهم على السفن في البحر الأحمر.
هذه الوساطة لم تكن حدثاً طارئاً، بل حلقة من سلسلة تدخّلات عُمانية بدأت بعد بضعة أشهر من بداية الحرب اليمنية، وتحديداً في عام 2015، حين رفضت السلطنة الانخراط في التحالف العربي بقيادة السعودية، واختارت بدلاً من ذلك الوقوف على مسافة واحدة من أطراف النزاع.
يقودنا ذلك إلى طرح عدد من التساؤلات حول الدّور العُماني في اليمن، والعوامل التي تجعل السلطنة وسيطاً ناجحاً في الشأن اليمني، بما في ذلك العلاقة بين عُمان وإيران، وتالياً علاقة البلد الخليجي مع جماعة الحوثي، وكذلك أهداف عُمان من هذه الوساطة؟ بكلمات أخرى: هل لعُمان مصالح في اليمن؟
•علاقة اليمن وعُمان
لفهم السياق التاريخي للعلاقات اليمنية العُمانية، من المهم التطرّق إلى ثورة ظفار (1962-1976)، التي كانت مدعومةً من قبل الشطر الجنوبي من اليمن وقتها (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية آنذاك)، لذا لم يتم أيّ تبادل دبلوماسي بين البلدين إلا في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، حيث صار أحد أهداف السياسة الخارجية العُمانية دعم قيام دولة مستقرة على حدودها، وفق ما يذكر الأكاديمي العُماني عبد الله باعبود، في ورقة بحثية بالتعاون مع مؤسسة "بيرغهوف" ومنتدى التنمية السياسية.
ووفقاً لذلك، دعمت سلطنة عُمان الوحدة اليمنية في 22 أيار/ مايو 1990. ومُنذ ذلك العام، ظلت العلاقات الثنائية بين البلدين ودّية. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1992، تم حلّ المشكلات الحدودية بين السلطنة واليمن عقب ترسيم الحدود بينهما.
وخلال حرب صيف 1994، الحرب الأهلية اليمنية، دعت السلطات العُمانية كلاً من الرئيس علي عبد الله صالح ونائبه علي سالم البيض إلى المفاوضات في عُمان، ولم تدعم بشكل مباشر أي طرف متصارع في الوقت التي كانت تدعم فيه بعض دول الخليج فكرة الانفصال. وبعد انتصار أحد طرفي الحرب، منحت الطرف الآخر - الذي كان يمثله علي البيض - حق اللجوء لديها. كما دعمت السلطنة مقترح انضمام اليمن إلى مجلس التعاون الخليجي.
دعمت السلطنة أيضاً المبادرة الخليجية تجاه اليمن في عام 2011، عقب اندلاع الحركة الاحتجاجية، وفي آذار/ مارس 2015، كان الموقف العُماني رافضاً للانخراط في عاصفة الحزم (ضد جماعة الحوثي) بقيادة السعودية. وفي نيسان/ أبريل 2015، أوضح وزير الخارجية العماني السابق يوسف بن علوي، أنّ "عُمان ليست جزءاً من تلك الحملة لسبب بسيط؛ عُمان بلد سلام"، وهذا ما أعطاها مكانةً للتدخّل والتوسّط في الملف اليمني.
إلى ذلك، لا ينفصل الدور العُماني عن حسابات الجغرافيا. فحدود السلطنة الممتدة مع محافظة المهرة اليمنية، التي تبلغ نحو 288 كيلومتراً، تجعل من الاستقرار في هذه المنطقة أولويةً أمنيةً قصوى للسلطنة. وترى مسقط في المهرة عمقاً جغرافياً وإستراتيجياً، خصوصاً مع تزايد النفوذ السعودي والإماراتي فيها.
•الدّور العُماني في اليمن
إذاً، تكمن خصوصية الدَّور العُماني في قدرة السلطنة على الحفاظ على علاقات مستقرة مع الأطراف المتنازعة. فضلاً عن ذلك، تحتفظ عُمان بعلاقات متميزة مع طهران منذ عهد الشاه، ما يمنحها أفضليةً في كل ما يخصّ الحوثيين. ويُذكّر الكاتب الصحافي ياسين التميمي، بأنّ العلاقات الإيرانية العُمانية تاريخية مُنذ أن ساعد الشاه عُمان عسكرياً في إخماد حركة التمرّد اليسارية في ظفار التي كانت مدعومة من قبل الحزب الاشتراكي في جنوب اليمن وقتها، لافتاً أيضاً إلى أنّ الموقع الجغرافي لكلٍّ من إيران وعُمان وإشرافهما على مضيق هرمز ساهما في وجود علاقة قوية بين البلدين، وهي علاقات لم تنقطع بعد الثورة الإسلامية، على عكس بقية دول الخليج. القرب من إيران، والاحترام المتبادل بين الطرفين، مكّنا مسقط من لعب دور قناة خلفية لتبادل الرسائل والاقتراحات، ليس فقط في الشأن اليمني، بل أيضاً في الملف النووي الإيراني وفي استئناف العلاقات بين طهران والرياض.
بالعودة إلى الشأن اليمني، استفادت عُمان من علاقاتها الهادئة مع الحوثيين، دون أن تُضطر إلى تقديم دعم عسكري أو أيديولوجي لهم، بل التزمت نهجها المعتاد نفسه بالحفاظ على توازن واضح. ولذلك، هي تعترف بالحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وتتواصل في الوقت نفسه مع جماعة الحوثي كأمر واقع يجب التعامل معه لإنهاء النزاع.
وفي هذا الخصوص، يقول الأكاديمي العُماني عبد الله باعبود، لرصيف22، إن "عُمان تلعب دوراً وظيفياً دبلوماسياً لا أيديولوجياً، فتحت من خلاله قنوات التواصل بين الرياض وطهران، وبين الحوثيين والمجتمع الدولي، بما في ذلك نقل الرسائل والأفكار التفاوضية بطريقة محايدة". وهو يرى أن هذا الدور لا ينبع فقط من الجغرافيا أو الحياد، بل من تراكم الثقة التي بنتها السلطنة على مدى سنوات، وجعلتها تحظى باحترام نادر في منطقة مليئة بالاستقطاب. ومع احتفاظها بـ"سياسات خارجية مستقلّة عن التكتلات الخليجية". وفقاً لما يؤكد عليه باعبود، تمتلك "عُمان القدرة على التواصل مع جميع الأطراف دون أن يُنظر إليها كمصدر تهديد".
في غضون ذلك، يرى الصحافي العُماني، عوض باقرير، أنّ عُمان تتعامل مع الأطراف اليمنية كافة بشكل مباشر، وأنها تقف على الحياد من جميع الأطراف اليمنية، مضيفاً أنّ الدبلوماسية العملية نجحت في عدد من المحادثات في سياق الحرب اليمنية، وتحديداً مُنذ عام 2015، مردفاً أنه من خلال الجهود العُمانية أمكن التوصّل إلى وقف الحرب وفرض هدنة بين "الفرقاء اليمنيين". ويتفق مع هذا الرأي باعبود، بقوله إنّ عُمان حافظت على تواصل متوازن مع جميع الأطراف اليمنية، ما أتاح لها فرصة لعب دور الوسيط المحايد.
وساطة عُمان في اليمن تضمّنت استضافة محادثات رسمية وغير رسمية بين الحكومة المعترف بها دولياً، والحوثيين، والمجلس الانتقالي الجنوبي، وكذلك الدول الإقليمية المعنية بالصراع مثل إيران والسعودية والإمارات والقوى الدولية مثل الولايات المتحدة وبعض أعضاء الاتحاد الأوروبي. فضلاً عن ذلك، عملت عُمان كجسر دبلوماسي بين حركة الحوثي وجهود الأمم المتحدة للسلام، وكانت وسيطاً في تبادل الأسرى والرهائن، ومُقدِمةً للمساعدات الإنسانية. ومع ذلك، بالمقارنة مع الفاعلين الخارجيين الرئيسيين في اليمن، وهم إيران والسعودية والإمارات، فإن تأثير عُمان في البلاد كان مقيّداً إلى حد كبير بالنظر إلى مواردها المالية والعسكرية المحدودة نسبياً مقارنةً بالفاعلين المذكورين سلفاً، وبسبب أيضاً قربها الجغرافي من الصراع، ومبادئ سياستها الخارجية.
ومن بين الجهود التي بذلتها عُمان في محادثات السلام منذ بداية الحرب الأخيرة في اليمن، كشْفها عن خطة سلام عُمانية من سبع نقاط في 24 نيسان/ أبريل 2015، دعت خلالها إلى "انسحاب الحوثيين، وإعادة حكومة عبد ربه منصور هادي، وإجراء انتخابات مبكرة وتحوّل جماعة الحوثي إلى حزب سياسي"، بالإضافة إلى دورها الرئيسي في التفاوض على هدنة نيسان/ أبريل 2022، التي استمرت ستة أشهر. وقام وفد عُماني رسمي، كذلك، بمرافقة أول وفد سعودي علني يصل إلى صنعاء في شهر نيسان/ أبريل 2023، كما رافق أول وفد حوثي علني يزور الرياض في أيلول/ سبتمبر 2023.
•مصالح وتضارب مصالح
في ظلِّ تعدّد الفاعليين الإقليمين في اليمن، فإن تضارب المصالح والخلاف بين هؤلاء الفاعليين أمر غير مستبعد. فعلى سبيل المثال، هناك خلاف بين دول مجلس التعاون الخليجي في تفسير وتعريف أمن دول الخليج القومي، وأمنها الإقليمي، وذلك بالنسبة إلى تحديد نوع المخاطر ومن يشكّل خطراً عليها. فنجد مثلاً أن القيادة العُمانية لا ترى أنّ إيران وجماعة الحوثي المدعومة منها تشكلان تهديداً أمنياً لها، فيما ترى دول خليجية أخرى أنهما تشكلان تهديداً خطيراً على أمنها.
وهذا ما يؤكده المحلل اليمني مصطفى ناجي، إذ يقوله إنه بينما تعدّ السعودية جماعة الحوثي بمثابة تهديد لأمنها، لا ترى عُمان في الجماعة خطراً مباشراً، بل على العكس، ترى أن تمدّد التيارات السلفيّة قرب حدودها، بدعم خليجي، هو ما يشكّل مصدر قلق حقيقياً لها. ويضيف: "عُمان متمايزة مذهبياً عن الغلبة السنّية والسلفية في الجزيرة العربية، ويُعدّ المذهب الإباضي السائد فيها مذهباً محاصراً بانتشار التيارات الوهابية والسلفية في الجوار"، مردفاً أن القضاء على جماعة الحوثي (الزيديين/ الشيعة) بالنسبة للسلطنة يعني سيطرة الإمارات على عدد من المحافظات اليمنية، خصوصاً في الجنوب، "وتالياً سيطرتها على سواحل وموانئ منافسة لعُمان. كما يعني ذلك تعميق النفوذ المذهبي السعودي في منطقة تسير على إيقاع صراع مذهبي سنّي شيعي، أحد أركانه إيران".
هذه الخلفيات وتعقيداتها وتشابكاتها أدّت إلى توجيه بعض الأطراف اتهامات لعُمان باستخدام أراضيها كقناة لتهريب الأسلحة إلى الحوثيين، وهو ما تنفيه السلطنة بشكل قاطع، مؤكدةً التزامها الحياد ودعم جهود السلام. غير أن تقارير أمميةً (من بينها تقرير فريق الأمم المتحدة في تشرين الأول/ أكتوبر 2020)، أشارت إلى مرور بعض خطوط التهريب برّاً عبر الأراضي العُمانية، في سياق الفوضى الإقليمية الممتدة. برغم هذه الاتهامات، استطاعت مسقط أن تحافظ على موقعها كوسيط مقبول لدى الجميع. ويعود هذا، بحسب باعبود، إلى سياستها القائمة على العمل خلف الكواليس، والاستمرارية في جهود الوساطة حتى في أشدّ مراحل الحرب تعقيداً.
في المقابل، هناك انتقاد للسياسة الخارجية العُمانية في عدد من القضايا، خاصةً في ما يتعلّق بعلاقات السلطنة مع إيران والتقارب بينهما، إذ ترى فيها السعودية تهديداً لأمن الخليج عموماً بسبب اتساع نفوذها في المنطقة. من جهتها، ترى عُمان أنّ موقعها الجغرافي الإقليمي يضطرها إلى الحفاظ على علاقات قوية مع طهران.
عُمان أيضاً ليست بعيدةً عن حسابات المصالح الاقتصادية. فمن جهة، يرى باعبود أن استقرار اليمن يخدم مشاريع عُمان الطموحة في تطوير الموانئ والربط البحري والبري، بما فيها "الموانئ العابرة للحدود التي تطمح إليها عُمان". لكن المفارقة أن النزاع نفسه الذي تتوسط السلطنة لحلّه، يخدم عُمان، في رأي الباحث مصطفى ناجي، حيث لم تكن تتوقّع "أن تتموضع ضمن المشروع التجاري الصيني، وتصبح بديلاً لأيّ خطة سعودية للوصول إلى بحر العرب، خاصةً في ظل الاضطرابات الأمنية التي لا تسمح بتمرير مشاريع أنابيب الطاقة".
•نجاح عُمان في ما أخفق فيه آخرون
تجدر الإشارة إلى أن الدبلوماسية العُمانية والدور الذي تلعبه مسقط في المحادثات بين الأطراف المحلية اليمنية، والإقليمية، والدولية، نجحا في تحقيق بعض الانفراجات في الملف اليمني.
وبحسب الصحافي التميمي، فإنّ نجاح الوساطة العُمانية يعود في جزء كبير منه إلى العلاقة الوثيقة مع إيران الداعمة لجماعة الحوثي، وتالياً نشوء علاقة بين عُمان وبين جماعة الحوثي، مؤكداً أنّ استضافة عدد من قيادات الجماعة يزيد ثقل عُمان في الوساطة.
بدوره، يؤكد عوض باقرير أنّ نجاح الدبلوماسية العُمانية نابع من إيمانها بقوة الحوار كقوة ناعمة لحل النزاعات والحروب، وأن دور عُمان مثّل عامل مصداقية لدى الأطراف المتصارعة مكّنها من لعب دور الوساطة.
أخيراً، استطاعت عُمان أن توفر أرضيةً جعلت الحوار ممكناً بين الأطراف المتصارعة في اليمن، بعد سنوات من العنف بدا فيها أنّ اتفاق الأطراف على أي نقطة شبه مستحيل. نجاحها لا يعود فقط إلى مواقفها السياسية، بل أيضاً إلى قدرتها على اللعب على خطوط التماس بدبلوماسية. وفي وقت تتداخل فيه ملفات اليمن، والبرنامج النووي الإيراني، والأمن البحري في الخليج، تصبح عُمان أكثر فأكثر وسيطاً قادر على الحفاظ على استقرار هشّ وسط عواصف تهدّد بهدم كل شيء في أي لحظة.