"اليمن يهزم أمريكا"، بهذا الشعار احتفى أنصار جماعة الحوثي بعد إعلان واشنطن وقف حملتها الجوية على اليمن في السادس من مايو/أيار 2025، إثر إخفاقها في تحقيق أي أهداف عسكرية تُذكر. الحملة، التي وُصفت بالمتسرعة، لم تخلّف سوى فواتير مالية ضخمة وخسائر سياسية فادحة للولايات المتحدة في المنطقة. ومع أن العمليات قد توقفت، فإن تداعياتها لا تزال مفتوحة على مزيد الاستنزاف السياسي والاقتصادي خلال المرحلة المقبلة.
ويُعد اليمن، أحد أفقر دول العالم، غارقاً في أزمات إنسانية واقتصادية حادة منذ اندلاع الحرب قبل نحو عقد، وهي حرب قادها تحالفٌ مدعوم من الغرب تقوده السعودية. وقد عاد اليمن مجدداً إلى واجهة المواجهات في منطقة غرب آسيا، في محاولة لوضع حد للحرب المدمّرة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة. إلا أن تصعيد الولايات المتحدة، بمشاركة المملكة المتحدة، ضرباتها العسكرية على اليمن في الأسابيع الأخيرة، بدّد أي آمال قريبة بتحسن ملموس في الأوضاع المعيشية هناك.
وكتبت الباحثة والكاتبة البريطانية (هيلين لاكنر)، مؤلفة كتاب “اليمن في أزمة: الطريق إلى الحرب” (2019) واليمن: الفقر والنزاع (2022)، في مقال نشرته مجلة Jacobin الأمريكية:
“فقدَ اليمن موقعه المؤسف كـ’أسوأ أزمة إنسانية في العالم’، لا بسبب تحسّن أوضاعه، بل لأن أزمتين أخريين تفوّقتا عليه من حيث حجم الرعب واللاإنسانية، وهما الإبادة الجارية في غزة، والحروب في السودان”.
وأضافت: “ثلثا سكان اليمن بحاجة إلى مساعدات إنسانية، من بينهم سبعة عشر مليوناً يعانون من انعدام الأمن الغذائي”.
وكانت الكارثة المستمرة في غزة، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 53 ألف مدني فلسطيني، قد شكّلت الحافز الأساسي لجماعة الحوثيين لإطلاق هجوم عسكري في نوڤمبر/ تشرين الثاني 2023، استهدف سفن الشحن المتجهة إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر من بحر العرب والمحيط الهندي مروراً بمضيق باب المندب، الذي يفصل اليمن عن جيبوتي وخليج عدن. وقد اضطرت العديد من السفن إلى تغيير مسارها والإبحار حول القارة الإفريقية لتجنّب الحصار، مما أدى إلى ارتفاع حاد في تكاليف الشحن.
ودخلت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على خط الصراع في يناير/ كانون الثاني 2024، عبر شنّ حملات قصف استهدفت مواقع تابعة لجماعة الحوثيين في اليمن، حيث برّر الرئيس الأمريكي (جو بايدن) تلك الضربات بأنها رد مباشر على هجمات الجماعة على السفن في البحر الأحمر، والتي قال إنها “عرّضت التجارة الدولية للخطر وهددت حرية الملاحة”.
وتُعد جماعة الحوثيين، التي تسيطر على جزء كبير من شمال اليمن -تتضمن العاصمة صنعاء ومحيطها، ومناطق واسعة من المرتفعات الشمالية، بالإضافة إلى مدينة الحُديدة الساحلية على البحر الأحمر- أحد أبرز الفاعلين على الأرض. وقد أعلنت الجماعة تعليق عملياتها العسكرية في أعقاب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين حركة حماس وإسرائيل في منتصف يناير/ كانون الثاني 2025، كما أفرجت عن طاقم سفينة احتجزته قبل أكثر من عام.
لكن مع انهيار اتفاق وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل في منتصف مارس/ آذار، عادت الجماعة إلى استهداف حركة الشحن البحري في المنطقة. وتصاعدت هجماتها تزامناً مع اشتداد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وتوسيع الحصار، الذي تسبب في تفاقم أوضاع المجاعة وولّد إدانات دولية واسعة.
ومجدداً، أظهرت واشنطن دعمها الحازم لتل أبيب؛ ففي 15 مارس/ آذار، أطلق الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) عملية عسكرية أطلق عليها اسم “الفارس الخشن” (Operation Rough Rider)، تمثّلت في حملة قصف على اليمن بهدف إجبار الحوثيين على وقف هجماتهم. وبحسب القيادة المركزية للقوات الأمريكية، فقد تم بحلول نهاية أبريل/ نيسان استهداف 800 موقع عسكري “حيوي”، شملت “مراكز قيادة وسيطرة، ومنظومات دفاع جوي، ومرافق تصنيع وتخزين أسلحة متقدمة”، فضلاً عن مقتل “مئات من مقاتلي الحوثي وعدد من قادتهم”، من دون الكشف عن أي أسماء للمستهدفين.
ومن جهتها، أكدت جماعة الحوثيين أن الضربات الأمريكية أسفرت عن سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين، أبرزهم 68 شخصاً قُتلوا أواخر أبريل/ نيسان في مركز احتجاز للمهاجرين الأفارقة في صعدة شمال غرب البلاد، و80 مدنياً آخرين في هجوم استهدف ميناء رأس عيسى في 18 أبريل/ نيسان.
وفي خطابٍ متلفز مطلع أبريل/ نيسان، جدّد زعيم الجماعة (عبد الملك الحوثي) موقفه قائلاً:
“موقفنا موجّه ضد العدو الإسرائيلي والأمريكي، الذي أعلن الحرب على بلدنا بشكل صريح”، مضيفاً أن معركة جماعته “من أجل فلسطين، لمنع تهجير شعبها، والضغط لوقف الإبادة الجماعية التي يتعرض لها”.
كما أكد أيضًا أن الجماعة “ستواصل مواجهة الأمريكيين المتواطئين مع العدو الإسرائيلي، والداعمين له، والحامين له، والمشاركين معه في عدوانه على فلسطين وشعوب أمتنا”. كما أشار إلى أن “الغارات الجوية والهجمات الأمريكية (في اليمن) تصل أحياناً إلى أكثر من 90 غارة في اليوم”، متهماً واشنطن بـ”ارتكاب جرائم وعدوان على بلدنا دون أي مبرر”، ذلك بحسب ما نقلته وكالة الأناضول التركية الرسمية.
وفي نهاية المطاف، أثبتت الحملة العسكرية الأمريكية عدم فعاليتها، حيث أكدت تقارير عدّة فشل واشنطن في تحقيق التفوق الجوي ضد الجماعة. غير أن ما قد يُثقل كاهل الولايات المتحدة أكثر من غيره هو الكلفة المالية الباهظة التي تكبّدتها مقابل مكاسب ميدانية محدودة للغاية. فوفقاً لإحاطات سرية قُدّمت للكونغرس في أوائل أبريل/ نيسان، أفاد مسؤولون في البنتاغون أن القوات الأمريكية أنفقت 200 مليون دولار من الذخائر خلال الأسابيع الثلاثة الأولى فقط. وباحتساب تكاليف الأفراد ونشر القطع البحرية، أكد أعضاء في الكونغرس أن الحملة كلّفت دافعي الضرائب الأمريكيين “أكثر من مليار دولار خلال الشهر الأول”، وفق ما أوردته صحيفة نيويورك تايمز.
أما شبكة NBC الإخبارية فقد نشرت في تقرير لها تفاصيل فاتورة القصف الأمريكي على اليمن منذ منتصف مارس/ آذار، والتي شملت “مئات من القنابل زنة 2,000 رطل، والتي تبلغ تكلفة الواحدة منها نحو 85,000 دولار؛ وما لا يقل عن 75 صاروخ توماهوك، بقيمة تقارب 1.9 مليون دولار للصاروخ؛ وما لا يقل عن 20 صاروخ كروز من نوع AGM-158 تطلق من الجو، وتبلغ قيمة الواحد منها حوالي 1.5 مليون دولار؛ بالإضافة إلى أنواع أخرى عديدة من الذخائر”. وبعد نشر التقرير، صرّح مسؤول في وزارة الدفاع الأمريكية لـNBC بأن تلك الأرقام “غير دقيقة ومبالغ فيها”، مشيراً إلى أن التكلفة “أقرب إلى 400 مليون دولار”، فيما شكك مسؤولون عسكريون آخرون في هذا التقدير وخالفوه.
ورغم استنزاف الولايات المتحدة لمخزونها المحدود من الذخائر بتكلفة تجاوزت مليار دولار لضرب ما لا يقل عن 800 هدف منذ 15 مارس/ آذار، إلا أن الجماعة لم تُردع، فيما ظلّ حجم حركة الشحن عبر البحر الأحمر في أدنى مستوياته. ولا تزال الهجمات الحوثية على السفن الأمريكية والإسرائيلية مستمرة، وكاد أحد الصواريخ أن يصيب مطار بن غوريون الإسرائيلي في 4 مايو/ آيار.
وفي هذا السياق، كتب الأستاذ (تشارلز ويليام وولدورف)، أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة ويك فوريست وزميل أول في مركز “ديفينس برايوريتز”، في مقال نشره بموقع The Conversation في 5 مايو/ آيار:
“في الواقع، إن الهجمات المباشرة على الحوثيين، إلى جانب الارتفاع السريع في عدد الضحايا المدنيين اليمنيين جرّاء حملة القصف التي تنفذها إدارة ترامب، يبدو أنها تعزز من المكانة السياسية للحوثيين داخل اليمن”.
وقد كبدت جماعة الحوثي الولايات المتحدة خسائر مالية كبيرة في معداتها العسكرية المتقدمة، من بينها إسقاط سبع طائرات مُسيّرة من طراز MQ-9، تبلغ تكلفة الواحدة منها نحو 30 مليون دولار، وذلك بالإضافة إلى نحو 15 طائرة مماثلة تم إسقاطها في مراحل سابقة من النزاع. كما خسرت الولايات المتحدة مقاتلتين من طراز F-18، تُقدر قيمة الواحدة منهما بنحو 67 مليون دولار، وذلك بعد سقوطهما من حاملة طائرات أمريكية، وكان آخر هذه الحوادث قد أُبلغ عنه في 6 مايو/ آيار.
وفي تلك المرحلة، وبحسب صحيفة نيويورك تايمز، “وصل الرئيس ترامب إلى حدّ الاكتفاء”، وأصدر البيت الأبيض تعليمات إلى القيادة المركزية الأمريكية في 5 مايو/ آيار بوقف العمليات الهجومية مؤقتاً. وقد لعب وقف إطلاق النار الذي تم بوساطة سلطنة عمان دوراً محورياً في إنهاء الأعمال العدائية، حيث وافقت الولايات المتحدة على وقف غاراتها الجوية مقابل تعهد الجماعة بوقف هجماتها على السفن الأمريكية في البحر الأحمر. وقال ترامب: “لقد ضربناهم بقوة، وكان لديهم قدرة كبيرة على الصمود”، مضيفاً: “يمكن القول إن هناك شجاعة كبيرة. لقد أعطونا كلمتهم بأنهم سيتوقفون عن استهداف السفن، ونحن نُقدّر ذلك”.
إلا أن الاتفاق لم يتضمن أي التزام من الجانب اليمني بوقف استهداف السفن التي يُنظر إليها على أنها داعمة لإسرائيل. وعلّقت (دانا سترول)، مديرة الأبحاث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، المقرّب من الدوائر المؤيدة لإسرائيل، بقولها لـNBC:
“الحوثيون سيتوقفون عن استهداف السفن الأمريكية لفترة من الزمن، لكنهم لن يتوقفوا عن إطلاق الصواريخ على إسرائيل، ولن تعود حركة الشحن التجاري إلى طبيعتها، ولن يتغير شيء في الحرب الأهلية في اليمن”.