في قلب مدينة عدن، إذ تمر الحياة في الشوارع والأسواق والموانئ، ثمة حياة أخرى تخفت أصواتها خلف جدران الصمت، حياة تعيشها عشرات الأسر بين القبور في مقبرة القطيع، حيث لا شيء يشبه العيش سوى التنفس، ولا شيء يربط الإنسان بالأرض سوى البقاء.
عبد الله ناصر إسماعيل، أحد سكان هذه المقبرة، استقر هنا منذ نحو ثلاثين عامًا، يتحدث بصوت يحمل تعب عقود مضت: "قبل 2011 كانت الحياة مقبولة، الماء يصل من غير حاجة لدينامو، الكهرباء تشتغل طول اليوم، بس من وقتها بدأنا ننزل، نزول ما وقفش."
حين تنقطع الكهرباء، كما يقول، لا يبقى أمامهم سوى إخراج الماء بالدبب (علب بلاستيكية)، وأحيانًا يمر يومان دون كهرباء أو ماء، ولا يملك هو وغيره من السكان سوى الصبر والعمل البسيط، يمسح السيارات أو يحمل عبوات الماء الثقيلة، فقط ليؤمّن بضع لقيمات تسند اليوم إلى يوم آخر.
اللافت أن كثيرًا من هؤلاء الناس ليسوا من عدن، بل قدموا من الحديدة هربًا من الحرب، واعتقدوا أنهم يتجهون إلى النجاة، لكنهم وجدوا أنفسهم في حضن المقبرة، مطاردين بالفقر والتهميش، كأنما الهروب من الموت أخذهم إلى الظلّ القريب منه.
أنور منصور، رجل آخر يسكن هنا، يبدأ كلامه بجملة واحدة تلخص وجودًا بأكمله: "نحن منسيّون."
يصف حياته في المقبرة بأنها كدح فوق كدح، فالمصدر الوحيد للعيش هو ما تيسر من أعمال بسيطة، حمل الدبب أو النزول إلى البحر للصيد، دون ضمان، دون راتب ودون استقرار. والبناء هنا عشوائي، الإيجارات تُدفع عن أماكن بالكاد تسع جسدًا، ثلاثة أمتار فقط، لكنها تأوي ثلاث عائلات دفعة واحدة، يقول: "في ناس ساكنين في صندقة يدفعوا ثلاثين ألف ريال، وصاحب المكان يطلب تسعين ألف ريال من ثلاث أسر، الوضع لا يُطاق."
لا طعام ولا ماء كافيين، لا نوم هانئ ولا أمان. يصف صلاح هبة، أحد السكان، الوضع ببساطة قاسية، مشيرًا إلى أن هناك من يعمل طوال اليوم فقط ليشتري روتي وفاصوليا، لا أكثر. أما الأسعار، فقد ارتفعت حتى أصبحت الحياة نفسها بعيدة عن متناول اليد. ومع هذا كله، لا يسمع أحد صراخهم، لا جهة رسمية تمدّ يدها، ولا منظمة إنسانية تقترب. يقول عبد الله بصوت كأنه رجاء مكبوت: "ما فيش دعم ولا حد يسأل فينا، حياتنا كلها تعب فوق تعب."
لكن الألم لا يقف عند تفاصيل المعيشة، بل يمتد إلى الداخل، إلى ما لا يُرى بالعين، إلى قلوب الأطفال التي تنمو على أطراف القبور، وتتعلم الحذر والخوف قبل أن تعرف الدفء أو المدرسة.
تحكي الباحثة النفسية آلاء العولقي لـ"يمن فيوتشر" عن هؤلاء الأطفال الذين يعيشون في مقبرة القطيع، وتقول إنهم يكبرون داخل بيئة غير آمنة، يحيطهم الموت من كل جانب، وتطاردهم التحديات، ما يجعلهم عرضة لضغوط نفسية عميقة قد تترك آثارًا طويلة الأمد على سلوكهم وشخصياتهم.
الخوف والقلق هما أول ما يظهر، فمجاورة القبور والتعرض المستمر لصورة الموت تخلق لدى الطفل شعورًا دائمًا بالخطر والتهديد، وتزرع في قلبه رعبًا صامتًا يصعب التعبير عنه.
ينام الطفل على وقع كوابيس، يصحو مفزوعًا، يتجنب الحديث، يتلعثم حين يُسأل، يتجنب الآخرين أحيانًا، ويظهر عليه الانطواء أو العدوان كرد فعل على حياة لم تمنحه الأمان.
تشرح العولقي أن كثيرًا من هؤلاء الأطفال يعانون من الأرق، الوحدة، ضعف التركيز، ومن صعوبات في التعلم والتواصل، وحتى من اضطرابات سلوكية قد تتحول لاحقًا إلى مشاكل نفسية مزمنة كـ"السلوكيات الناجمة عن الكبت"، فيما قد يُصاب بعضهم بصدمة نفسية حقيقية تستدعي تدخلًا مهنيًا متخصصًا، لكن لا أحد هناك، لا طبيب، لا معالج، لا مدرسة ولا حضن.
في قلب هذا الصمت الموجع، تستمر الحياة داخل مقبرة القطيع كأنها عالم موازٍ لا تراها الدولة ولا تدخلها المنظمات، حياة تتنفس خارج السجلات الرسمية لكنها موجودة، تتكئ على الصبر وتقاوم بالفطرة وتنتظر؛ لعل أحدًا يراها.