تحليل: كيف أخفق المجتمع الدولي في فهم الملف اليمني؟
يمن فيوتشر - Middle East Forum- ايدموند فيتون براون- ترجمة خاصة الإثنين, 26 مايو, 2025 - 11:05 مساءً
تحليل: كيف أخفق المجتمع الدولي في فهم الملف اليمني؟

بصفتي سفير المملكة المتحدة لدى اليمن بين عامي 2015 و2017، عايشت عن قرب وساهمت في التفاوض بشأن استجابة المجتمع الدولي لسيطرة جماعة الحوثي على أجزاء واسعة من اليمن، وهي العملية التي تسارعت وتيرتها في عام 2014. وبعد انتهاء مهمتي الدبلوماسية، واصلت متابعة الشأن اليمني من منظور مكافحة الإرهاب من خلال عملي مع الأمم المتحدة بعد عام 2017.
و القصة التي لم تُروَ على نحو كافٍ هي أن المجتمع الدولي أحسن التصرف في بداية الأمر عام 2014، لكنه سرعان ما فقد بوصلته تدريجياً على مدى السنوات الأربع اللاحقة، حتى وصل إلى محطة مؤسفة تمثلت في "اتفاق ستوكهولم" السيء في ديسمبر/ كانون الأول 2018.
و قد حدّد قرار مجلس الأمن رقم 2140 الصادر في نوڤمبر/ تشرين الثاني 2014، بصورة دقيقة، الأطراف المسؤولة عن زعزعة الاستقرار في اليمن، وفرض عقوبات على الرئيس السابق (علي عبد الله صالح) واثنين من قادة حركة الحوثيين، التي كانت آنذاك متحالفة مع صالح. وكان الرئيس (عبد ربه منصور هادي)، الذي تولّى السلطة عقب احتجاجات ما يُعرف بـ"الربيع العربي"، يدعم حواراً وطنياً جامعاً يهدف إلى بناء توافق سياسي بين مختلف مكونات المجتمع اليمني، بما فيها جماعة الحوثي.
وباستثناء بعض الأطراف الخارجة عن الإجماع الدولي، كإيران، فقد كان هناك إدراكٌ واسع بأن هادي يمثّل شرعية دستورية ويحمل نوايا إصلاحية، في حين شكّل تحالف صالح والحوثيين زواج مصلحة مدفوعاً بجشع الطرفين نحو السيطرة المطلقة، ورفضهما الواضح لنجاح مسار الحوار الوطني.
وفي غضون أربعة أشهر فقط، ومع استمرار الحوثيين في ملاحقة هادي الذي اضطر للفرار من صنعاء إلى عدن، استجابت المملكة العربية السعودية لطلب استغاثة تقدمت به الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، مستندةً إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة المتعلقة بحق الدفاع عن النفس. وبذلك، تدخلت السعودية عسكرياً في النزاع، بدافع قانوني واضح، إلى جانب الحكومة الشرعية.
و كان كل من الحوثيين وصالح يسعيان للسيطرة على الحكم بوسائل غير مشروعة، وتجاوزا كل القيم الأخلاقية، لا سيما أنهما لا يمثلان سوى شريحة محدودة من السكان (إذ تنتمي جماعة الحوثي إلى فئة عقائدية متشددة ضمن المذهب الزيدي، وتُمارس الاضطهاد بحق الأغلبية السنّية). و حين توليتُ منصب السفير، لم تكن هناك أي التباسات، حيث كنا نقف في صفّ الرئيس هادي والمملكة العربية السعودية، في مواجهة مشروع انقلابي واضح المعالم.


ما الذي حدث لاحقًا؟
 ببساطة، وقع المجتمع الدولي تحت تأثير عدد من الأحكام المسبقة وسوء الفهم، من بينها تقديس النشاط الإنساني على نحوٍ غير نقدي. وباستثناء السعودية وسلطنة عُمان، تبدو اليمن بالنسبة لبقية العالم، وخاصة الدول الغربية، بلدًا بعيدًا وهامشيًا مقارنةً ببؤر التوتر الأكثر إلحاحًا سياسيًا واستراتيجيًا، كالعراق وسوريا وليبيا. وفي مثل هذا السياق، لا سيما قبل أن يأتي (دونالد ترامب) ويهز القناعات السائدة، كانت الدول الغربية تميل تلقائيًا إلى النظر إلى الأزمات على غرار الأزمة اليمنية من زاوية إنسانية بحتة.
ومن تجربتي، كان لوزارة التنمية الدولية البريطانية موارد ونفوذ على صياغة السياسة تجاه اليمن يفوق بكثير ما تملكه وزارة الخارجية. وأي أمر يُنظر إليه على أنه يُعيق العمل الإنساني كان يُعد تلقائيًا أمرًا سلبيًا، بما في ذلك جهود الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، بدعم سعودي وإماراتي، لاستعادة أراضيها من قبضة الحوثيين.
و المجتمع الدولي من "أصحاب النوايا الحسنة" يعتبر أكثر تماسكًا وتأثيرًا في الضغط السياسي مما يدركه كثيرون. وقد شاهدتهم لاحقًا وهم يضغطون شيئًا فشيئًا على مجلس الأمن حتى أُدرجت استثناءات إنسانية على جميع أنظمة العقوبات، بما في ذلك تلك المفروضة على تنظيم داعش. و هذا التيار النشط يعتنق أيضًا مجموعة من التحيزات الغالبة، أبرزها عداؤه للغرب عمومًا، وعداؤه العلني لكل من إسرائيل والسعودية. وقد تعاونت منظمات مثل أوكسفام وأمنستي مع دوائر حقوق الإنسان لدعم هذا اللوبي الإنساني، الذي يقوده مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA).
و في كل مرة كان الحوثيون ينجحون في استدراج الطيران السعودي لقصف هدف مدني -على نحو يشبه ما تفعله حماس في غزة اليوم- كنتُ أنا وحكومتي ومسؤولون غربيون آخرون نتعرّض لضغوط متزايدة من هذا اللوبي، الذي لا يكف عن التنديد بالمملكة. والمفارقة أن هذه الجهات لم تُظهر أي اكتراث حيال ما يرتكبه الحوثيون من اعتقالات وتعذيب وقتل بحق اليمنيين العاديين، تمامًا كما لا يُبدون أي تعاطف مع ضحايا حماس من الفلسطينيين أنفسهم.

وبمرور الوقت، أصبح الأوروبيون الغربيون أكثر شكًّا تجاه الدور السعودي في اليمن. وواجهت كلٌّ من بريطانيا والولايات المتحدة صعوبة متزايدة في الدفاع عن موقفها الأصلي الداعم للتحالف العربي والحكومة الشرعية. أما وزير الخارجية الأميركي آنذاك (جون كيري)، فقد تأثر بالموقف العُماني وأصبح يتبنى توجهًا متصاعدًا ضد السعودية، ساعيًا إلى تحقيق السلام بأي ثمن.
وبحلول مفاوضات الكويت عام 2016 -أي بعد عام واحد فقط من دخول السعودية الحرب- بدأ التوافق الدولي يتشكل حول ضرورة منح الحوثيين ما يريدونه لإنهاء الحرب. وبسبب القلق على سمعتها ومصالحها الدولية، كانت السعودية مستعدة لتوقيع أي اتفاق تقريبًا، غير أن الحوثيين فضّلوا انتظار "النصر الكامل"، وتخلّوا عن محادثات الكويت.
و تنفّست السعودية الصعداء جزئيًا مع تغيير الإدارة الأميركية في يناير/ كانون الثاني 2017، ورفعت، إلى جانب حلفائها العرب، من وتيرة دعمها لقوات الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، ما مكّنها من دحر الحوثيين، خاصة على الساحل الغربي المطل على البحر الأحمر. ورغم أن التقدّم شمالًا من المخا نحو الحديدة كان بطيئًا ومكلفًا، إلا أن المدينة كانت على وشك السقوط في أواخر عام 2018، عندما ارتكبت السعودية خطأً فادحًا باغتيال الصحفي (جمال خاشقجي).
و أثار هذا الحادث موجة سخط عالمية، واستغل مناخ العداء الغربي المسبق تجاه السعودية، مما جعل من الصعب على الرئيس ترامب حينها أن يحمي حليفه من تصاعد الانتقادات الدولية لحملته في اليمن. وقادت الأمم المتحدة الدعوات لعدم اتخاذ أي خطوة قد تعرقل مرور المساعدات الإنسانية عبر ميناء الحديدة، ما أدى إلى توقيع "اتفاق ستوكهولم" في ديسمبر/ كانون الأول 2018.
نظريًا، كان من المفترض أن يضمن الاتفاق عدم سيطرة الحوثيين على الحديدة، لكن لم تُتخذ أي إجراءات رقابية أو تنفيذية تضمن الالتزام به، وتجاهله الحوثيون منذ اللحظة الأولى.
و هذا الاتفاق الكارثي، الذي حال دون استعادة الحكومة اليمنية لسيادتها على أراضيها، دشّن خمس سنوات من الجمود العسكري، سعت خلالها السعودية إلى إيجاد مخرج بأي ثمن. واستغل الحوثيون هذا القلق ونجحوا في إقناع الرياض بأن الثمن اللازم لحمايتها من الهجمات بالطائرات المُسيّرة وضمان أمن حدودها الجنوبية هو القبول بدور مهيمن لهم في محادثات "السلام اليمني-اليمني"، إلى جانب دفع مبالغ ضخمة تم تسويقها لاحقًا على أنها "مخصصات لإعادة الإعمار".
تخيل لو أن المجتمع الدولي تحلى بالثبات، ودعم استعادة الحكومة الشرعية لكامل الساحل الغربي لليمن! لما كنّا اليوم أمام هذا المأزق.
وقد أثبتت مغامرات الحوثيين العدوانية في البحر الأحمر خلال عام 2024، واعتداءاتهم المستمرة ضد إسرائيل حتى اللحظة، مدى السذاجة في الاعتقاد بأن هذه الجماعة قد تصلح لتضطلع بأي دور مسؤول في حكم اليمن. وقد منحهم "اتفاق ستوكهولم" نقطة ارتكاز حيوية مكّنتهم من إطلاق حملة ابتزاز دولي واسعة.
غير أن النزاع الإقليمي الذي اشتعل منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول أعاد فتح الباب أمام فرص تصحيح السياسات المتساهلة تجاه إيران والحوثيين وسائر أطراف ما يُعرف بـ"محور المقاومة".
و قد أدّت النجاحات العسكرية الإسرائيلية ضد حزب الله اللبناني وإيران، وما ترتب على ذلك من انهيار النظام في سوريا بقيادة الأسد، إلى استدعاء ضرورة إعادة النظر في سُبل تحقيق تسوية أكثر قبولًا في المنطقة. وأظهرت الضربات الإسرائيلية والأميركية ضد الحوثيين هشاشة الجماعة أمام تفوق عسكري نوعي، خاصة عندما ترفض القوى الدولية الانصياع لإملاءات منظمات كـ(OCHA) التي تتعامل مع موانئ البحر الأحمر ومطار صنعاء بوصفها "مواقع محرّمة" لا يجوز استهدافها بذريعة الضرورة الإنسانية.
بل حتى الأمم المتحدة نفسها بدأت تفقد رغبتها في الدفاع عن الحوثيين، الذين تجاوزوا كل الخطوط الحمراء في غطرستهم وتوحّشهم، حيث أقدموا على اختطاف موظفين إغاثيين، بينهم موظفو الأمم المتحدة، وعرّضوا عمليات الإغاثة في البحر الأحمر للخطر والانهيار.

و تبدو إدارة ترامب في حالة ارتباك حيال كيفية توحيد مسارات سياستها في الشرق الأوسط، و يكمن التساؤل حول: هل يمكن حقًا التوفيق بين دعم إسرائيل والوقوف في صف قطر في آنٍ واحد؟ وهل بالإمكان انتهاج سياسة عسكرية نشطة لإعادة ترميم الردع في مواجهة الحوثيين، وفي الوقت نفسه التفاوض مع إيران بشأن برنامجها النووي والصاروخي، وسلوكها العدائي غير المتكافئ ضد إسرائيل والسعودية؟
و الحملة الجوية التي شنتها الولايات المتحدة على مدى سبعة أسابيع ضد الحوثيين أحدثت تأثيرًا ملموسًا، إذ ألحقت أضرارًا بقيادات الجماعة، وبمواردها، وبنيتها التحتية، ومنشآتها العسكرية، وترسانتها من الأسلحة.

لكن ما لا يزال غير محسوم هو ما إذا كان اتفاق وقف إطلاق النار، الذي أنهى تلك الحملة، قد عالج أيًا من القضايا الجوهرية على المدى البعيد. فالحوثيون يدّعون النصر، دون أدنى ندم، ويؤكدون استمرار التزامهم بمهاجمة المصالح الإسرائيلية. بل إن البيان الرسمي العُماني الذي أعلن وقف إطلاق النار تضمّن تناقضًا صارخًا، إذ أشار إلى أن حركة الملاحة التجارية باتت آمنة، لكنه أقرّ بأن الاتفاق لا يشمل سوى وقف متبادل للضربات بين الحوثيين والأميركيين.
وفي أفضل السيناريوهات، قد يوفّر هذا التهدئة المؤقتة في البحر الأحمر لبضعة أشهر، إلا أن شركات الشحن والتأمين ستظل مترددة في استئناف عملياتها بشكل آمن. و في هذه الأثناء، سيواصل الحوثيون قصف إسرائيل بالصواريخ والطائرات المُسيّرة، وسترد تل أبيب بضربات نوعية، تشمل محاولات لاستهداف زعيم الجماعة (عبد الملك الحوثي)، مباشرة.
و ما يبدو غائبًا عن خطط أعداء الحوثيين هو تواصل فعّال وجاد مع الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا والمجلس الانتقالي الجنوبي في عدن، إلى جانب افتقار واضح للإرادة والموارد اللازمة لإعادة تنشيط الحملة العسكرية ضد الجماعة. أما الضمان الأكيد لإنهاء تهديد الحوثيين لحرية الملاحة الدولية، فهو دفعهم بالكامل بعيدًا عن الساحل الغربي لليمن. وبعبارة أوضح: لا بد من إلغاء "اتفاق ستوكهولم"، الذي انتهكه الحوثيون منذ يومه الأول، واستعادة مدينة الحديدة وكل الشريط الساحلي الممتد منها حتى الحدود السعودية، كما كان ينبغي أن يتم في عام 2019.
لكن ما لا يزال غير واضح هو ما إذا كانت السعودية تمتلك الرغبة للانخراط في هذه المعركة مجددًا، في ظل سعيها المستمر للخروج من مستنقع الحرب اليمنية. و وحدها الولايات المتحدة، وتحديدًا الرئيس ترامب، تستطيع طمأنة الرياض بشأن ضرورة هذا المسار، وجدّية دعم واشنطن لها في مواجهة الحوثيين. و وحدها واشنطن أيضًا قادرة على حشد تحالف دولي يُشكّل ركيزة لإعادة ضبط سياسة المجتمع الدولي حيال هذه الجماعة.
ومن ثم، فإن من الضروري أن تراجع الولايات المتحدة خياراتها السياسية قبل اندلاع موجة تصعيد جديدة، سواء اقتصر التصعيد على المواجهة بين إسرائيل والحوثيين، أو امتد ليشمل إيران بصورة مباشرة. ولكي تتخذ قرارات واضحة، لا بد لواشنطن أن تحدد أولًا أهدافها من سياسة التعامل مع إيران -الطرف القائد في "محور المقاومة" والمصدر الرئيسي للتهديد الاستراتيجي للسلم العالمي من خلال مشروعها النووي- ثم توفّق بين تلك الأهداف وبين مقاربتها للملف اليمني.
فإيران تُجيد استغلال المحادثات مع الولايات المتحدة كوسيلة لشراء الوقت وتجاوز اللحظات الحرجة، خاصة في ظل إدارة أميركية منشغلة بالاستحقاقات الانتخابية. فإذا كان الهدف الأميركي هو إبرام نسخة مُعدّلة من الاتفاق النووي (JCPOA-plus)، فهو تأجيل للخطر الإيراني لكنه لا يُنهيه، و التهديد بمحاسبة طهران على سلوك الحوثيين يفقد وجاهته في هذا السياق.
و من وجهة نظري، تمثل اللحظة الراهنة فرصة فريدة لفرض تحوّل جذري في سلوك إيران. وإن لم يكن ذلك عبر تغيير النظام، وهو احتمال قائم في ضوء حالة الضعف الراهنة التي تعانيها الجمهورية الإسلامية، فيمكن على الأقل الدفع باتجاه تفكيك أو القضاء على مجمل برامجها العدائية، و ذلك من تخصيب اليورانيوم، وتطوير الصواريخ الباليستية، إلى خوض حروب غير متماثلة بواسطة وكلائها مثل الحوثيين، وحزب الله، والميليشيات الموالية لها في العراق، وبقية مكونات ما يُعرف بمحور المقاومة.
و تحقيق هذا الهدف سيتطلب قدرًا كبيرًا من العزم، وربما اللجوء إلى القوة. وإذا كان هذا هو المسار الذي تتجه إليه التطورات، ولا شك أن طبيعة الجمهورية الإسلامية، وكذلك الحوثيين، لن تتبدل من تلقاء نفسها، ولن يتغير سلوكهم ما لم يُفرض عليهم ذلك قسرًا، فإن من الضروري الاستعداد لمواجهة مزدوجة مع طهران ومع الحوثيين، إذ لا يُتوقع من هؤلاء أن يتخلوا عن أجندتهم التصعيدية ما لم يتكبدوا الهزيمة في الحرب الأهلية اليمنية.

الرابط ادناه لقراءة المادة من موقعها الأصلي: 

https://www.meforum.org/mef-reports/how-the-international-community-got-yemen-wrong


التعليقات