[ ارشيف ]
العدالة الانتقالية ضرورة أساسية لتحقيق المصالحة الوطنية وإرساء السلام المستدام في اليمن، وإنصاف الفئات الأكثر تضررًا، لا سيما المهمشين الذين تعرضوا لانتهاكات ممنهجة على مدى عقود من الزمن. ومع ذلك، يبقى التساؤل قائمًا، هل تمتلك البلد الإرادة السياسية والآليات الفعالة لتحقيق عدالة انتقالية شاملة، أم أنها تظل مجرد شعارات بلا تنفيذ؟
*ما العدالة الانتقالية؟*
القاضي محمد الهتار، المتخصص في قانون العدالة الانتقالية، يعرفها بأنها "عملية شاملة تهدف إلى كشف الحقيقة، وتحقيق العدالة، وتعويض الضحايا، وضمان عدم تكرار الانتهاكات".
ويؤكد أن فعاليتها تعتمد على "مدى شموليتها لجميع الفئات المتضررة، وعلى رأسها المهمشون الذين لطالما تعرضوا للتهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي".
ويرى الصحفي والمحلل السياسي عبد الواسع الفاتكي، أن "اليمن بحاجة ماسة إلى تطبيق العدالة الانتقالية، خاصة للفئات الأكثر تضررًا من الصراعات، مثل المهمشين، الذين عانوا من التمييز والانتهاكات حتى في الفترات التي لم تشهد فيها البلاد أزمات أو حروب".
*مؤتمر الحوار.. تمثيل شكلي*
عام 2013، خُصص للمهمشين نسبة 1% فقط من إجمالي المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وهو ما اعتبره الكثيرون تمثيلًا غير عادل لا يعكس حجمهم الحقيقي في المجتمع.
يؤكد السفير اليمني في لندن، ياسين سعيد نعمان، الذي شغل منصب نائب رئيس مؤتمر الحوار الوطني، أن "تمثيل المهمشين لم يكن منحة أو هبة من أحد، بل كان نتيجة لدورهم في المجتمع". لكنه لم يوضح أسباب الاكتفاء بنسبة 1% فقط، رغم أن بعض الإحصائيات غير الرسمية تشير إلى أن نسبتهم في المجتمع تتجاوز 10%.
من جهته، يوضح رئيس الاتحاد الوطني للمهمشين، نعمان الحذيفي، أن نسبة تمثيل المهمشين في المؤتمر لم تكن عادلة، مشيرًا إلى أن "تخصيص مقعد واحد لهم جاء من حصة رئيس الجمهورية عبد ربه منصور هادي، بعد احتجاجات واسعة أمام منزله".
وأضاف، "كانت غالبية الأحزاب والمكونات في اللجنة الفنية للمؤتمر رافضة لتمثيل المهمشين، بحجة أنهم كانوا يصوتون لحزب المؤتمر الشعبي العام، الحاكم حينها".
ويكشف الأمين العام المساعد للاتحاد الوطني للمهمشين، محمد الريمي، عن تفاصيل الاجتماعات التي سبقت الحوار، "تم وعدنا بتمثيل حقيقي يضم 25 شخصًا، وخلال اجتماعاتنا مع عبد الكريم الإرياني، (توفي نوفمبر/تشرين الثاني 2015) أكد لنا أننا سنحصل على حضور قوي، لكننا تفاجأنا لاحقًا بأن أسماء المشاركين تم إنزالها من قبل الأحزاب والمنظمات، دون تمثيل مستقل للمهمشين".
وأوضح أن هذا التهميش دفعهم للخروج في احتجاجات أمام منزل الرئيس هادي، ليتم في النهاية تخصيص مقعد واحد لهم ضمن حصته الرئاسية.
*تحديات تحقيق العدالة الانتقالية للمهمشين*
يرى القاضي محمد الهتار أن تحقيق العدالة الانتقالية يواجه عوائق كبيرة، أبرزها غياب الإرادة السياسية وضعف المؤسسات القضائية، مما يعيق محاسبة المنتهكين وضمان تعويض الضحايا. كما لا تزال العوائق الاجتماعية والثقافية تلعب دورًا كبيرًا في تكريس التمييز ضد المهمشين، ما يجعل اندماجهم الكامل في المجتمع أمرًا صعبًا.
ويتشاءم الناشط الحقوقي من فئة المهمشين، محمود بهكلي، "لا أرى أي مؤشرات على تحقيق العدالة الانتقالية للمهمشين في المستقبل القريب، فالأطراف السياسية لا تعتبر قضيتنا أولوية، ونحتاج إلى نضال طويل حتى يتم التعامل معها بجدية".
*التوثيق خطوة أولى..*
لتحقيق عدالة انتقالية حقيقية للمهمشين في اليمن، يؤكد الناشط الحقوقي من فئة المهمشين، جمال الحجري، أن الخطوة الأولى تبدأ بتسجيل وتوثيق الانتهاكات التي تعرضوا لها وإدراجها في تقارير الحقيقة والإنصاف.
ويشدد على أن "عدم توثيق معاناة المهمشين يعني طمس حقوقهم، لذلك يجب أن تكون هذه التقارير مقدمة لضمان تعويضهم وعدم تكرار التمييز ضدهم".
ويرى القاضي محمد الهتار، أن تمثيل المهمشين في لجان العدالة الانتقالية أمر ضروري لضمان أن تكون القرارات عادلة وشاملة.
ويؤكد أن "أي عملية عدالة انتقالية لا تشمل المهمشين في لجانها التنفيذية والاستشارية ستكون ناقصة وغير منصفة، لأنهم الأدرى بتفاصيل معاناتهم والأكثر قدرة على تقديم الحلول المناسبة".
من جهته، يوضح الصحفي والمحلل السياسي عبد الواسع الفاتكي أن تحقيق العدالة الانتقالية يجب أن يترافق مع إطلاق برامج لجبر الضرر الذي لحق بالمهمشين على مدى العقود الماضية.
ويضيف، "لا يمكن تحقيق عدالة حقيقية دون توفير منح تعليمية تتيح لهم فرصة الوصول إلى مستويات تعليمية أفضل، إلى جانب تحسين أوضاعهم المعيشية وإعادة تأهيلهم اقتصاديًا من خلال مشاريع تنموية تضمن استقلالهم المالي".
وفيما يتعلق بالإطار القانوني، يؤكد رئيس الاتحاد الوطني للمهمشين، نعمان الحذيفي، أن إلغاء القوانين والممارسات التمييزية هو شرط أساسي لتحقيق العدالة الانتقالية.
ويشدد على أن "استمرار القوانين التي تكرس التمييز يجعل من المستحيل الحديث عن عدالة حقيقية، لذلك لا بد من سن تشريعات جديدة تضمن المساواة الكاملة في الحقوق والفرص، سواء في التوظيف أو التعليم أو المشاركة السياسية".
ويجمع الخبراء والناشطون على أن العدالة الانتقالية لا يمكن أن تتحقق ما لم يتم إشراك المهمشين في عملية صنع القرار وضمان حقوقهم بشكل فعلي، وليس فقط من خلال وعود وشعارات لا تجد طريقها إلى التنفيذ.
*أهمية إشراك المهمشين في عملية السلام*
يشدد الناشط الحقوقي من فئة المهمشين، جمال الحجري، على ضرورة "إشراكهم في جميع الفعاليات السياسية والمدنية، وتعزيز حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما يضمن تمثيلًا حقيقيًا لقضيتهم"، أما عبد الواسع الفاتكي، فيرى أن "ضمان حضور المهمشين في مفاوضات السلام والمؤسسات الانتقالية ضروري لتحقيق المصالحة الوطنية، لكن ذلك يتطلب التزامًا سياسيًا حقيقيًا وليس مجرد وعود شكلية".
رغم الاعتراف الواسع بأهمية العدالة الانتقالية في اليمن، تشير تقديرات خبراء ومراقبين إلى أنها ستظل إطارًا نظريًا ما لم تُترجم إلى تدابير ملموسة تعزز حقوق الفئات المهمشة.
فالإقرار بالمعاناة، في نظرهم، لا يكفي وحده لتحقيق الإنصاف، ما لم يُقترن بإجراءات تكفل إشراك هذه الفئات في عملية صنع القرار، وتوسيع فرص التمكين الاقتصادي والاجتماعي، وإرساء تشريعات تجرّم التمييز بجميع أشكاله.
وإلى أن تتحقق هذه المتطلبات، ستظل العدالة الانتقالية، بالنسبة للمهمشين، أقرب إلى الوعد المؤجل منها إلى واقع.