في أحد الأحواش بسوق المنصورة للمواشي، وقفت امرأة في العقد السادس من العمر، كانت قد تنقلت بين أحواش السوق تجر أرجلها وكأن أحدهم يدفعها غصبا، ظلت تنظر إلى رؤوس المواشي حينما رفعت بيدها تمسح دموع الحسرة.. اقتربت منها وقلت: "كيف يا حجّة تشوفي الأسعار"، لترد من فورها:"جنان يا ابنتي والله، الأسعار بالدولار، ليش ونحن بلا رواتب شهور، معقول رأس الكبش يوصل إلى 95 ألف، والعيد عاده بعيد كيف لو قرب العيد؟ لم تنتظر مني جواب، وتركتني في حيرة وهي تجر خطاها إلى خارج السوق.
وتُطلَق كلمة الأضحية في اللغة على كلّ ما يُضحّى به، وجمعها أضاحي، أما في الاصطلاح الشرعي، فالأضحية: ما يذبحه المسلم في يوم النَّحْر؛ أي في يوم عيد الأضحى، وما يليه من أيام التشريق الثلاثة من بهيمة الأنعام؛ على وجه التعبد لله سبحانه وتعالى، والأنعام المجزئة شرعًا هي الإبل والبقر والغنم، وللأضحية أحكام وشروط محددة.
جولة في أسواق المواشي في عدن وأبين تكفي لمعاينة أحوال كثير من المواطنين التي لا تسر، فالناس أفزعتهم أسعار المواشي لهذا العام، حيث تجاوزت المعقول. تعدى سعر الرأس البلدي حاجز 150 ألفًا، والبعض وصل إلى 200 ألف، بينما وارد الصومال تجاوز سعره 100 دولار، والعجول الصومالي 750 دولارا.
في سوق الماشية التابع للمؤسسة العامة للحوم رأيت كثيرًا من الأحواش فاضية، ولما سألت عن السبب كان رد أصاحبها بأنهم لم ينزِّلوا مواشيهم بعد منتظرين قُرب العيد.
يقول المواطن محمد منصور: "أصبح التجار لا يخافون الله، كل واحد يبيع بسعر، متناسين أنها أضحية وليست عرسًا أو للتباهي، الأسعار ليست بمقدور المواطن الفقير الذي يستلم راتبه بعد كل خمسة أو ستة أشهر.. يجب أن يكون هناك أحواش خاصة بالدولة تبيع المواشي بسعر منافس، وهذا سيؤدي إلى انخفاض الأسعار، لكن الحكومة رفعت يدها حتى من المواد المدعومة كالرز والسكر والدقيق ".
يشاطره الرأي الشاب علوي عمر قائلاً: "المفروض يعملوا أحواش خاصة بالأضاحي، وتكون الدولة هي مسؤولة عنها، وتبيع للناس بأسعار في متناول الجميع، الآن أصبح كل شيء غال، والأسعار نار تحرق قلب المواطن ".
الوالد علي عوض يعلق: "شروط الأضاحي معروفة لكل مسلم لكن كما يقال العين بصيرة واليد قصيرة، هبوط العملة أثر علينا في كل مجريات حياتنا حتى أصبحنا نرى الأضاحي تباع بالدولار، راتب الموظف بالريال الهابط الذي أصبح بلا قيمة، ماذا نعمل؟ هل نضحي أو نكتفي بأن الأعمال بالنيات وربك غفور رحيم ".
وتختلف أسعار المواشي بين حوش وآخر، فالرأس الكبار وارد الصومال سعرها 150 ألف، ووزنها ما بين 15-20 كيلو، والصغير يباع بـ85 ألف وزنه بين 10-12 كيلو، ويحسب سعر الكيلو البلدي في الملاحم 7 ألف ريال و6 ألف للبربري.
عند دخولك من بوابة سوق المواشي في المنصورة ستلاحظ أنه يطرح عليك سؤال "معك كرت"، هذا السؤال يتكرر في كل عيد على مرتادي السوق، سواء إن كان عيد الفطر أو عيد الأضحى. إذ إن كثيرًا من الدوائر الحكومية تمنح موظفيها رؤوس مواشي بنظام التقسيط، وتخصم قيمة الرأس من راتب الموظف، لكن أغلبهم يقومون ببيع الكروت المخصصة لصرف المواشي بسعر بخس في هذا السوق.
سألت أحد المواطنين بعدما رأيته يساوم على الكرت "بكم تبيعه؟"، فقال: "محسوب علي بـ150ألف وأبيعه نقدًا 100بـ ألف أو 80 ألف، والمبلغ اشتري به ملابس العيد للأطفال".
وعندما سالته لماذا تبيع الكرت ولا تأخذ الكبش قال: "أيش أعمل، اللحم محتاج ثلاجة لحفظ الباقي بعد إخراج الأضحية، وانقطاع الكهرباء خمس ساعات سيتلف اللحم، أيضًا محتاجين غاز، الدبة بـ9700 ريال في الخاص، ومن الحكومة 4500 ريال، ويعلم الله تحصلها أو لا ما ندري متى المندوبون يوزعون الغاز المخصص للمواطن، هذا غير أسعار الخضار مرتفعة، لهذا نقول بلاها لحمة العيد وربك غفور رحيم والدين يسر ".
أحد الشاب قال مازحًا: "في زماننا تغيرت شروط الأضاحي، من أول الشروط أن يكون جيبك مليء بالنقود، الشرط الثاني أن يكون معك معاريف في الجمعيات الخيرية، أو معك راتب شهري عشان تقدر تأخذ بالتقسيط، وكل هذه الشروط لا تتوفر ".
ويضيف: "والله النية متوفرة لكن أيش نفعل معنا حكومة من حق أم الجن لا تعمل حساب لمواطنيها ".
فطوم امرأة تعيل أطفال أيتام تقول:" ماعد نقدر نشتري أضاحي العيد مش عارفين والله كيف لما نموت ونسأل هل ربنا سوف يحاسبنا أننا ما كنا نضحي، ولكن نعلم أن ربنا رحيم وعارف بعباده".. تتركنا لتكمل جولتها بين أحواش المواشي تشبع منها بالنظر لتغادر دون أن تشتري شيء.
الوضع لا يختلف في أبين على الرغم من توافر المواشي البلدي بصورة كبيرة هناك. إذ تشهد أسواق المواشي والأغنام بمدينتي لودر وزنجبار هذه الأيام ارتفاعًا جنونيًا في الأسعار بالتزامن قدوم عيد الأضحى المبارك، مما ضاعف من معاناة المواطنين في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة، وانهيار العملة المحلية، وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية ومعدلات الفقر.
ويؤكد مواطنون من أهالي زنجبار وخنفر أن أسعار المواشي هذا العام ارتفعت بشكل غير مسبوق، وشراء الأضحية بات حلمًا يراود الأسر بعد أن وصلت أسعار الضأن 170 ألف، وربما 200 ألف، ما جعل الكثيرون من ذوي الدخل المحدود على التراجع عن شراء الأضحية هذا العام.
ويعلل عدد من بائعي المواشي والأغنام في زنجبار وجعار ولودر ارتفاع أسعارها بانخفاض العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، مما تسبب في ارتفاع الأعلاف، وتكاليف المواد الخاصة بنقلها. وقال أحدهم: " إقبال المواطنين على شراء أضحية العيد ضعيف جدًا، مقارنة بالأعوام السابقة، نتيجة لتدهور العملة المحلية وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية، والظروف المعيشية الصعبة التي تمر بها البلاد، ما أوصل العديد من الأسر إلى مستوى الفقر المدقع".
المواطن محمد العبسي من مدينة زنجبار أوضح أنه يعيل أسرة كبيرة وراتبة ضئيل جدًا لا يكفي لمتطلبات واحتياجات المنزل كونه عامل في الصرف الصحي، وهذا العام لم يتمكن من شراء أضحية العيد نتيجة ارتفاع أسعارها الخيالية.
وأكد العبسي لـ "الأيام" أن هناك أسر كثيرة لا تجد قوت يومها، ولم تتمكن من شراء أضحية عيد الأضحى المبارك، بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، وأيضًا الحروب المتتالية أثرت سلبًا فأصبحت أبين حقل تجارب بين الفرقاء يدفع ثمنها الأبرياء.
مريم أحمد صالح من أهالي زنجبار أيضًا تقول: "إن الارتفاع الجنوني في أسعار المواشي هذا العام دفع بالكثير من الأسر الذهاب إلى سوق المواشي بزنجبار، وللفرجة عليها والعودة بخفي حنين، فللأمانة لا نستطيع الشراء بهذه الأسعار، وموردوها يستغلون الأزمات ويقومون برفع الأسعار دون مراعاة للمواطنين الذين لا يوجد لديهم مصدر دخل، وأنا واحدة منهم، أنا وزوجي وأسرتي المكونة من خمسة أشخاص".
الخضر صالح أحمد، من أهالي مدينة لودر، عسكري براتب تقاعدي 30 ألف ريال فقط. يعيل الخضر أسرة مكونة من 9 أشخاص، ويؤكد أن المبلغ الذي يستلمه لا يكفي حتى للأساسيات.
وقال: "سنضطر إلى شراء دجاجة يوم العيد، كنا نتمنى أن نضحي لكن الغلاء حال دون ذلك".
ومن جعار يتحدث نائف حمود حسين، عن ارتفاع الأسعار الذي حرم الكثير من الأسر فرحة عيد الأضحى المبارك، "لن نتمكن من شراء الأضاحي، وسيمر العيد مرور الكرام، ويأتي ذلك في ظل تردي الأوضاع، وجشع موردي المواشي الذين يستغلون الأزمات من أجل الكسب على حساب المواطن المغلوب على أمره ..
أنا ليس لدي راتب أو دخل ثابت بل أعمل بالأجر اليومي من أجل توفير لقمة العيش لي ولأسرتي".
ويرى أسامة عمر صالح أن الحروب والأزمات هي وسيلة الساسة لتجويع الشعوب، وأن ارتفاع الأسعار أحد أوجه الحرب التي تعيشها البلاد منذ سنوات عدة.