في 15 مارس/ آذار، أعلن الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) عن سلسلة من الضربات التي استهدفت مواقع مرتبطة بجماعة الحوثيين المعروفة باسم "أنصار الله" الإسلامية اليمنية، التي تقودها عائلة الحوثي، وذلك في أكبر عملية عسكرية خلال ولايته الثانية حتى الآن. وقد تكون هذه الضربات مجرد بداية لحملة أوسع ضد الحوثيين. و جاءت هذه الضربات بعد أحد قرارات ترامب الأقل إثارة للضجة خلال أسبوعه الأول بعد عودته إلى المنصب، حيث أعاد تصنيف الحوثيين في اليمن كـ"منظمة إرهابية أجنبية" (FTO) بسبب هجماتها المرتبطة بحرب غزة على إسرائيل واستهدافها للملاحة البحرية في البحر الأحمر. وجاء في بيان البيت الأبيض أن "أنشطة الحوثيين تهدد أمن المدنيين والعاملين الأمريكيين في الشرق الأوسط، وسلامة أقرب شركائنا الإقليميين، واستقرار التجارة البحرية العالمية".
لكن إدارة ترامب تخاطر بالوقوع في النمط الأمريكي المعتاد منذ الحرب العالمية على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، حيث يتم اللجوء إلى تحركات عسكرية قصيرة النظر على حساب بناء خطة مستدامة لليمن. فقد أهملت إدارات أمريكية متعددة تعقيدات الصراع، ما أدى إلى فشل متكرر في تنفيذ استراتيجية طويلة الأمد تحمي المصالح الأمريكية في اليمن والمنطقة الأوسع. و تداخل الصراعات في اليمن وتفاقم الأزمة الإنسانية لن يُحَلَّ عبر التحرك العسكري الأمريكي، بل من المرجح أن يؤدي إلى ترسيخ الحرب، وتدفق الأسلحة، والتدخلات الخارجية، والتشرذم، وضعف الحوكمة، وتفاقم الكارثة الإنسانية.
• أصول الصراع في اليمن
لم تكن جمهورية اليمن -التي تم تأسيسها في عام 1990 عبر دمج الجمهورية العربية اليمنية الشمالية القبلية والجمهورية الديمقراطية الشعبية اليمنية الجنوبية الماركسية- دولة موحدة، لا على مستوى البلد ولا المجتمع ولا الشعب. ورغم تاريخها الطويل الذي يسبق ظهور الإسلام في القرن السابع بحوالي ألفي عام، فإن اليمن نادرًا ما كان خاضعًا لسلطة سياسية واحدة. حتى قبل أن تندلع الحرب الأهلية بين الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا والمدعومة من السعودية وجماعة الحوثيين (أنصار الله) في عام 2014، كان اليمن يعاني من عنف مستمر، وانعدام الأمن، والفقر. ويعد الحوثيون المدعومون من إيران واحدًا من العديد من التحديات الأمنية الإقليمية التي تنبع من اليمن لتتحدى الرؤية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط السلمية والمنتجة والمتكاملة. وتشمل التحديات الأخرى فروعًا لأكبر جماعتين سُنيتين متطرفتين، هما القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، بالإضافة إلى مجموعة متنوعة من الجماعات المسلحة التي تقاتل داخل اليمن في محاولة لتشكيل مستقبله الغامض. كانت الحكومة اليمنية في صنعاء تسيطر بشكلٍ محدود على العديد من مناطق البلاد التي كانت تحت تأثير الجماعات القبلية أو العناصر المسلحة الأخرى، بما في ذلك الانفصاليين، والإرهابيين، والمتطرفين الدينيين.
مع ذلك، تبقى جماعة الحوثيين، التي نشأت في التسعينيات، التهديد الأكثر استمرارًا في المنطقة. لقد كانت شوكة في خاصرة حكومة صنعاء، حيث خاضت ما لا يقل عن ستة حروب ضد نظام الرئيس السابق (علي عبدالله صالح). وعندما تنحى صالح بعد انتفاضة الربيع العربي في اليمن عام 2011، سعى قادة الحوثيين إلى السلطة السياسية. وفي عام 2015، أجبروا خليفة صالح (عبد ربه منصور هادي)، أولاً على الخروج من صنعاء، ثم إلى المنفى في السعودية. ولا يزال المجلس الرئاسي اليمني الحالي -الذي يُفترض أنه خليفة هادي- يعمل من الرياض. و يواصل الحوثيون لعب دور مركزي في الصراعات المستمرة في اليمن، وقد وسعوا هجماتهم لتتجاوز اليمن، كما أشار ترامب. وأفادت نسخة 2023 من تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول الإرهاب بأن الحكومة اليمنية "تسيطر على حوالي ثلثي أراضي اليمن، ولكن بين 60 إلى 70% من سكان البلاد يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها جماعة الحوثيين".
• التبعات الإقليمية
اليمن، الذي يشكّل أحد ضفتي مضيق باب المندب، يعد أرضًا استراتيجية للغاية تطل على نقطة دخول و خروج البحر الأحمر، مما يسهل الهجمات الحوثية ضد طرق الشحن العالمية. علاوة على ذلك، فإن تعدد الصراعات والعناصر المسلحة يهدد الجيران، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، مما ساهم في حصول الحوثيين على الدعم الإيراني في عام 2012. كما أشار (آشر أوركابي)، "إن عدم استقرار اليمن يُشكّل تهديدًا للمملكة العربية السعودية في الوقت نفسه الذي يمثل فيه مصدرًا محتملًا لفائدة استراتيجية لإيران." وقد تعاونت جماعة الحوثيين أيضًا عن كثب مع حزب الله اللبناني لتحسين هياكلها العسكرية والإدارية. ونتيجة لذلك، وبمساعدة من الولايات المتحدة، تدخلت دول شبه الجزيرة العربية لتشكيل ساحة المعركة اليمنية لصالحها. إضافة إلى ذلك، فإن هجماتها ضد إسرائيل، تعبيرًا عن التضامن مع الفلسطينيين في غزة، قد أثارت رد فعل إسرائيلي، بينما أثارت هجماتها على الملاحة في البحر الأحمر رد فعل أمريكي. كما بدأ منافسو الولايات المتحدة، روسيا والصين، في استغلال الفرص التي تتيحها الصراعات اليمنية المختلفة.
في عام 2015، شنت المملكة العربية السعودية هجومًا جويًا على شمال اليمن بتكاليف تصل إلى 200 مليون دولار يوميًا في نفقات الأسلحة. كما تدخلت الإمارات العربية المتحدة في اليمن، سعيًا لإسقاط حكم الحوثيين من خلال دعم ميليشيات معارضة لهم. وبناءً عليه، يدفع المدنيون اليمنيون -الذين يعانون من تداعيات الصراعات المتداخلة- ثمنًا إنسانيًا باهظًا. و في سعيه لإنهاء العواقب السلبية للحرب في عام 2021، أعلن الرئيس الأمريكي آنذاك (جو بايدن) عن إنهاء الدعم الأمريكي للحملة الجوية السعودية، مُصرحًا بأن "هذه الحرب يجب أن تنتهي".
التأثير السلبي للتدخل العسكري الدولي في اليمن يتجلى من خلال "المجلس الانتقالي الجنوبي"، الذي يعتبر حركة انفصالية مدعومة من الإمارات العربية المتحدة. وعلى الرغم من أن هذه الجماعة قد اصطدمت في كثير من الأحيان مع ميليشيات يمنية أخرى، فإنها في عام 2023 انضمت إلى فصائل جنوبية أخرى في الدعوة إلى استعادة دولة جنوب اليمن بحدودها ما قبل عام 1990، مما يعد دليلاً واضحًا على أن أطرافًا مثل الإمارات ستسعى لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب الدولة اليمنية الموحدة. كما تدعم الإمارات جماعة يمنية غربية تُعرف بالقوات المشتركة، التي يقودها ابن شقيق الرئيس السابق صالح، والتي تشتبك أيضًا مع الحوثيين.
وبحلول نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، كان الحوثيون يتلقون أيضًا دعمًا كبيرًا من روسيا، "التي يبدو أنها ترى في الجماعة اليمنية أداة للانتقام من ودحض الدعم الغربي لأوكرانيا." حيث كشف تقرير من "وول ستريت جورنال" في أكتوبر/ تشرين الأول أن الكرملين قدّم للحوثيين بيانات استهداف لشن هجماتهم ضد الشحن التجاري في البحر الأحمر، ربما في مقابل السماح للسفن الروسية، وكذلك للشباب اليمني، بالمرور بحُريّة ليخدموا كوقود مدفعي في حرب روسيا ضد أوكرانيا. كما قدمت الصين للحوثيين صواريخ مقابل عدم مهاجمة سفنها. و سعى الحوثيون أيضًا إلى إقامة علاقات أكثر دفئًا مع الجماعات الجهادية السُنيّة، بما في ذلك منافسهم اليمني تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وحركة الشباب في الصومال، وهي تحالفات تساعد الحوثيين على تضييق قبضتهم على مضيق باب المندب.
لقد أدى المزيج السام من العنف الفصائلي، والحكم الضعيف، والتدخلات من القِوى الخارجية لحماية مصالحها الجيوسياسية إلى تكاليف إنسانية هائلة في اليمن. و في الواقع، وفقًا للأمم المتحدة، توفي أكثر من 60% من أكثر من 377,000 شخص قضوا في الصراع بسبب أسباب غير عسكرية. بالإضافة إلى ذلك، هناك أربعة ملايين ونصف المليون نازح داخليًا، ويعتمد 18.2 مليون شخص على المساعدات الإنسانية، وفقًا لوكالة الأمم المتحدة للاجئين، وهي المساعدات التي تم تقليصها في السنوات الأخيرة. علاوة على ذلك، يتطلب تصنيف جماعة الحوثيين كـ "منظمة إرهابية أجنبية" (FTO) مراجعة برامج المساعدات الأمريكية في اليمن، ويؤدي إلى إنهاء المشاريع والمنح والعقود مع الكيانات التي ثبت أنها دفعت أموالًا للحوثيين أو لم توثق بشكل كافٍ الانتهاكات الحوثية.
• استراتيجية الولايات المتحدة غير الكافية
النهج العسكري الأمريكي في اليمن هو في الأساس استراتيجية ذات اتجاهين: السعي لتقليص العمليات الإرهابية الخارجية في حين تقوية القدرة المحلية لمواجهة التمردات المزعزعة للاستقرار.
أولاً، اعتمدت الولايات المتحدة بشكلٍ كبير على برنامج الطائرات المُسيّرة لتنفيذ المهام التكتيكية لمكافحة الإرهاب في اليمن، حيث شنت أكثر من ثلاثمائة ضربة بطائرات مُسيّرة في محاولة لإبقاء تنظيم القاعدة في جزيرة العرب (AQAP) بعيدًا. وقد أسفرت هذه الضربات عن مقتل ما يصل إلى 150 مدنيًا وأكثر من ألف مقاتل مؤكد، وفقًا لإحدى الجهات المراقبة. وقد ثبت أن برنامج الضربات بالطائرات المُسيّرة كان فعالًا في مواجهة الإرهاب الدولي، ولكنه كان أقل فعالية في حل الصراعات المسلحة في الدول المستهدفة. و بدائل برنامج الطائرات المُسيّرة تحمل مخاطر مختلفة؛ على سبيل المثال، في غارة "ياكلا" في يناير/ كانون الثاني 2017، عندما حاولت عملية خاصة مشتركة بين الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة القبض على زعيم القاعدة في جزيرة العرب (قاسم الريمي)، قُتل ما بين عشرة وثلاثين مدنيًا في الغارة، بما في ذلك مواطن أمريكي، فضلاً عن عدة مقاتلين من القاعدة وجندي البحرية الأمريكي (ويليام أوينز). و لم يتم العثور على الريمي في تلك الغارة لكنه قُتل لاحقًا في ضربة جوية أمريكية.
الجانب الثاني من هذه الاستراتيجية شمل دعم الجهات المحلية، و بشكل أساسي الحكومة اليمنية، لتعزيز قدرتها على مكافحة الإرهاب. و وفقًا لـ "مراقب المساعدات الأمنية"، بلغ هذا الدعم لليمن أكثر من 850 مليون دولار. وبينما منع هذا النهج القوات العسكرية الأمريكية من الاضطرار إلى الانتشار في اليمن، فقد جعل الدعم مشروطًا بالنجاحات في مكافحة الإرهاب، وليس بالإصلاحات الضرورية التي كان اليمن في أمس الحاجة إليها. حيث كتب الدبلوماسي اليمني السابق (مصطفى ناجي) منتقدًا هذه الاستراتيجية: "هذا النهج يميل إلى تقويض البدائل السياسية والاجتماعية التي تعزز الحوكمة الأفضل والمشاركة السياسية. في اليمن تحديدًا، أولت السياسة الأمريكية الأولوية لمكافحة الإرهاب والقرصنة في خليج عدن، ولكنها أغفلت أولويات الشعب على الأرض." في النهاية، تبين أن هذه الاستراتيجية كانت غير فعّالة نسبيًا. ويلاحظ تقرير وزارة الخارجية الأخير حول الإرهاب أن الحكومة اليمنية "تعاونت مع الحكومة الأمريكية في جهود مكافحة الإرهاب لكنها لم تتمكن من تنفيذ تدابير مكافحة الإرهاب بالكامل أو قيادة الجهود متعددة الأطراف بشكل مستمر بسبب عدم الاستقرار والعنف وضعف القدرات".
الهجمات ضد الحوثيين وتصنيفهم كـ "منظمة إرهابية أجنبية" قد تلحق الضرر بالجماعة ولكنها لن تساعد قادة اليمن السياسيين على بناء توافق. كما كتب (بيتر سالزبيري) و (مايكل وحيد هانا) في "فورين بوليسي": "التصنيفات تعمق الاستقطاب السياسي، وتخلق حوافز للجماعات غير المصنفة لتقديم مطالبات متطرفة، وتجعل الوساطة من أطراف ثالثة، التي هي ضرورية لحل النزاعات من خلال التسويات السياسية، أكثر صعوبة أحيانًا من خلال تجريم حتى الاتصال المحدود مع الجماعات المصنفة".
اليمن الآن فعليًا يعتبر دولة فاشلة حيث إن أسباب وحلول النزاع معقدة بشكلٍ هائل، وقد أرهقت هذه التعقيدات صانعي السياسات الأمريكيين وأدت إلى وضع اليمن في أدنى سلم أولويات السياسة الخارجية الأمريكية. و الحرب الأهلية توفر الخلفية للعديد من المصائب التي يعاني منها اليمن -أعداء لا يمكن التوفيق بينهم، وحوكمة ضعيفة، وإرهاب، وتدخلات خارجية، وأزمة إنسانية- كل واحدة منها تشكل تهديدات كبيرة لاستقراره وتضمن أنها ستظل تحديًا كبيرًا لصانعي السياسات الغربيين والإقليميين.
و في الواقع، ازدهر النزاع في اليمن إلى حدٍ كبير بسبب جهل الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى وقراراتها الخاطئة. كما كتبت (أليسون ماينور) في مؤسسة "بروكينغز" العام الماضي، فإن الفشل في منع الحرب كان إلى حد كبير نتيجة لـ "قلة الانتباه والموارد المخصصة لليمن حتى في فترات الأزمات، مما أدى إلى تقويض التحرك الأمريكي الحاسم". و بالنسبة لترامب، قد تظل استراتيجيته التي تعتمد على الحلول المعاملاتية للمشاكل محبطة من قبل أطراف تستفيد من الوضع القائم، والكثير منها خارج نطاق التأثير الأمريكي.
و على الرغم من أن خطوط المواجهة في نزاع اليمن "مجمّدة"، وفقًا لعدة مراقبين، فإن حالة الجمود هذه تؤدي إلى تقسيم غير رسمي وغير مريح، شمال تحت حكم الحوثيين وجنوب تحت حكم عناصر انفصالية تعارضهم. ومع ذلك، كما يشير (غريغوري جونسن)، فإن التقسيم لن "يكون نهاية الحرب في الجنوب. بل، من المرجح تمامًا أن يؤدي إلى جولة جديدة من القتال." وقال (هانس غروندبرغ)، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن، في يوليو/ تموز إن "الطريقة الوحيدة للتقدم في اليمن هي إيجاد حلول مقبولة بشكلٍ متبادل من خلال الحوار والمفاوضات." وعلى الرغم من أن هذه الفكرة أسهل قولًا من تنفيذها، فإن الولايات المتحدة ليست حتى منخرطة في مثل هذا الجهد. و في الواقع، أوضح وزير الدفاع الأمريكي (بيت هيغسيث)، أن اهتماماته بشأن النزاع اليمني تقتصر فقط على مواجهة التهديدات لمصالح واشنطن في المنطقة. كما قال في ظهوره الأخير على قناة "فوكس نيوز" الأسبوع الماضي: "نحن لا نهتم بما يحدث في الحرب الأهلية اليمنية."
لقراءة المادة من موقعها الأصلي عبر الرابط التالي: