بالنسبة لـ (مبارك سعيد)، الأب اليمني البالغ من العمر 40 عامًا والذي لديه سبعة أطفال، كانت السنوات الثلاث الماضية صعبة للغاية لدرجة أنه لا يستطيع شراء ما يكفي من الطعام لإطعام أسرته مهما عمل بجد أو طال الوقت، الكثير من ذلك يعود إلى تدهور العملة.
و قال سعيد لـ "ذا نيو هيومناتاريان" في منزله الصغير في المكلا، عاصمة محافظة حضرموت في جنوب شرق اليمن: "أعمل ليل نهار لكني لا أستطيع توفير لقمة عيش لعائلتي."
بدأ سعيد العمل في وظيفتين منفصلتين كسائق، مما يعني أنه يغادر المنزل فور انتهاء الصلاة في الفجر ولا يعود إلا حوالي الساعة التاسعة مساءً.
ورغم ذلك، لم يكن يكسب ما يكفي لتغطية احتياجات أسرته، فاضطر لطلب من ابنته الوحيدة التي أكملت الثانوية أن توقف تعليمها لتوفير مصاريف الدراسة.
بعدها، بدأت الأسرة في تخطي وجبات الطعام. الآن، تكاد الأسرة تقطع الأرز والسمك -وهو غذاء أساسي في منطقتهم الساحلية- من نظامها الغذائي.
و بعد عشر سنوات من اندلاع الحرب الأهلية في اليمن، التي تسببت في أوضاع إنسانية كارثية في البلاد، يواجه الملايين من اليمنيين مثل أسرة سعيد جوعًا شديدًا وفقرًا مدقعًا نتيجة الانهيار السريع للعملة.
و من نواحٍ عديدة، كانت الحرب الاقتصادية -التي شملت سياسات وأسعار صرف متباينة- مدمرة مثل الحرب المقاتلة بالأسلحة، وقد بدأت المشاكل، بما في ذلك تقلبات العملة المفرطة، في وقت مبكر من النزاع.
بعد أقل من عام على بدء التحالف المدعوم من السعودية والإمارات حملته العسكرية في مارس/ آذار 2015 لدعم الحكومة المعترف بها دوليًا ضد المتمردين الحوثيين (المعروفين رسميًا بأنصار الله)، قام الرئيس المنفي بنقل البنك المركزي اليمني إلى مدينة عدن الساحلية في الجنوب.
ومن أبرز التطورات المدمرة للاقتصاد الجنوبي، الهجوم الذي شنّه المتمردون الحوثيون في أواخر عام 2022 على منشآت النفط في محافظتي شبوة وحضرموت الواقعتين في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في الجنوب.
ويهيمن الحوثيون على العاصمة صنعاء وأجزاء من وسط وشمال اليمن.
وقد عملت هذه الهجمات على توقف شحنات النفط من الجنوب، مما حرَم الحكومة من مصدر رئيسي للإيرادات.
منذ ذلك الحين، انهار الريال اليمني من حوالي 1,200 مقابل الدولار إلى نحو 2,400 في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، مما قلل من القوة الشرائية لليمنيين، وزاد من تكاليف الغذاء، واضطر الناس لتقليص وجباتهم للبقاء على قيد الحياة.
أما في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، فقد تراوح سعر الريال حوالي 537 للدولار.
والتدخلات الأخيرة -مثل ضخ السعودية مبلغ 300 مليون دولار في البنك المركزي بعدن في ديسمبر/ كانون الأول 2024- لم تكن سوى حلول مؤقتة.
و مشاكل العملة تعمل على تفاقم الضغوط اليومية في بلد يعيش 80% من سكانه في فقر، ويُقدّر أن 17.1 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي، و55% من الأطفال تحت سن الخامسة يعانون من سوء التغذية المزمن.
و تسيطر قضايا المال والجوع على ذهن سعيد بشكل مستمر.
فليس عليه فقط دعم زوجته وأطفاله -ثلاثة منهم كانوا يلتفون حوله أثناء حديثه مع "ذا نيو هيومناتاريان"- بل هو أيضًا مسؤول عن اثنتين من شقيقاته اللتين لا تستطيعان العمل بسبب مشكلات صحية.
و قال سعيد إنه في معظم الأوقات، تتناول الأسرة الخبز كوجبة رئيسية. وفي أيام الجمعة عندما يتوقعون قدوم ضيوف، يشتري السمك والأرز كعلاج استثنائي. وأضاف: "في الليل، أظل مستيقظًا مهووسًا، أفكر في فواتير المنزل."
•الهدن الفاشلة والتدخلات المالية:
في أبريل/ نيسان 2022، شهدت البيئة السياسية في اليمن تغيّرًا كبيرًا.
حيث أعلن الرئيس (عبد ربه منصور هادي) عن نقل السلطة إلى "مجلس القيادة الرئاسي" الذي يتكون من ثمانية أعضاء، يمثلون بعض الفصائل الرئيسية المتحالفة مع الحكومة في اليمن. وقد تم تكليفهم بتوحيد الحلفاء المتفرقين في كثير من الأحيان لمكافحة الحوثيين وإنهاء الأزمة الإنسانية المتصاعدة في البلاد.
و في نفس الشهر، توصل الحوثيون والحكومة اليمنية إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار بوساطة الأمم المتحدة، مما مهد الطريق لنقل عدد كبير من الأسرى وأشعل الآمال في إنهاء النزاع.
و كان لتأسيس مجلس القيادة الرئاسي، ووقف إطلاق النار، وحزمة مالية مؤقتة بقيمة ملايين الدولارات من السعودية والإمارات تأثير إيجابي، وإن كان قصير الأمد، على الاقتصاد اليمني المنهك، حيث أوقف تدهور الريال الذي كان قد وصل إلى 1,200 مقابل الدولار في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، مقارنة بـ 250 في أوائل 2015.
لكن الهدنة انتهت رسميًا بعد تمديدها لمدة شهرين، وانهارت محادثات السلام. ورغم أن الصراع تراجع بشكلٍ كبير حتى في غياب هدنة رسمية، إلا أن الحوثيين تصاعدوا في هجماتهم على المنشآت النفطية في أواخر العام، واستمرت الحرب الاقتصادية في الاشتعال.
وفي الشمال، قام الحوثيون بمنع التجار من استيراد السلع من الموانئ الجنوبية أو شراء الغاز من مأرب، المحافظة الوسطى التي هي تحت سيطرة الحكومة جزئيًا. و في عام 2024، ألغت الحكومة اليمنية تراخيص البنوك التي لم تنقل مكاتبها من صنعاء إلى عدن، قبل أن تتراجع عن هذا القرار تحت ضغط الأمم المتحدة. وفي المقابل، قام الحوثيون بحظر استخدام الأوراق النقدية المطبوعة في الجنوب.
وفي الوقت نفسه، استمر انخفاض قيمة العملة في الجنوب، وكانت المحاولات الأخيرة لدعمها ذات تأثيرٍ ضئيل أو معدوم. فقد أدى وعد السعودية بتقديم 500 مليون دولار كمساعدات -بما في ذلك إيداعها البالغ 300 مليون دولار في ديسمبر/ كانون الأول- إلى استقرارٍ مؤقت فقط (بينما كانت حقنات المال السابقة لها تأثير أكبر).
وفي يناير/ كانون الثاني، أعلن المتمردون الحوثيون أنهم سيوقفون الهجمات على معظم السفن في البحر الأحمر بعد وقف إطلاق النار في غزة، لكن هذا لم يكن له تأثير دائم على الاقتصاد.
مواجهةً لهذا التدهور السريع في العملة، أمر البنك المركزي في عدن في فبراير/ شباط، البنوك الخاصة وشركات الصرافة بإغلاق أبوابها ووقف تداول العملات الصعبة. وعندما أُعيد فتحها بعد توقفٍ قصير، حظر البنك المركزي أيضًا أي تداول للعملات عبر الإنترنت في محاولة للحد من المضاربات. كما باع البنك المركزي في عدن أكثر من 200 مليون دولار في مزادات علنية منذ بداية هذا العام في محاولة لحل عجز الدولار، لكن لم تنجح أي من هذه المحاولات.
و قال (مصطفى نصر)، رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، الذي يقع في مدينة تعز الخاضعة لسيطرة الحكومة، إن أحد العوامل الرئيسية وراء انخفاض الريال والانهيار الاقتصادي المستمر هو عدم التفاؤل بشأن التوصل إلى اتفاق سلام ينهي الحرب الطويلة.
و قال نصر لـ "ذا نيو هيومناتاريان" : "الناس ليس لديهم رؤية دقيقة لما سيحدث في المستقبل، هل سيكون هناك سلام أم مزيد من الحرب". وأضاف أن من بين معاناة الحكومة هناك انخفاض الإيرادات والصراعات الداخلية على السلطة، موضحًا أن "المتلاعبين بالعملة، من شركات الصرافة إلى الحوثيين، يدركون هذه الهشاشة ويستغلون هذه الضعف".
و من جهته، قال (وائل العطاس)، أستاذ مشارك في العلوم المالية والمصرفية بجامعة حضرموت، إن الحكومة "قد أساءت في كثيرٍ من الأحيان استخدام الأموال التي قدمتها السعودية أو المانحون الآخرون"، جزئيًا لأنهم يفتقرون إلى الخبرة في كيفية استخدام الأموال بشكلٍ أفضل.
و يعتقد العطاس أن المزادات العامة للدولار كانت غير فعّالة. وقال إن الحكومة يجب أن تركز بدلاً من ذلك على "زيادة الأجور، وتوفير الخدمات الأساسية للشعب، وتنفيذ آليات مراقبة الأسعار وغيرها من آليات المساءلة".
•الاحتجاجات الشعبية:
في الشهر الماضي، خرج اليمنيون في مختلف أنحاء الجنوب إلى الشوارع للاحتجاج ضد التراجع السريع في قيمة الريال، وتدهور الخدمات العامة، ونقص الكهرباء وغاز الطهي. و تحولت الاحتجاجات في عدن إلى أعمال عنف حيث أغلق الناس الطرق وأحرقوا إطارات السيارات للفت الانتباه إلى معاناتهم.
ومن القضايا المستمرة التي ذكرها العطاس -تأخر الحكومة في دفع رواتب الموظفين العموميين- التي ساهمت أيضًا في تأجيج الاحتجاجات.
(عبد الرحمن المقطري)، المعلم المتقاعد في تعز، هو أحد الآلاف من المعلمين الذين مضوا في إضراب منذ ديسمبر/ كانون الأول، حيث ساروا في الشوارع مطالبين الحكومة بالتصدي للوضع الاقتصادي المتدهور وزيادة رواتبهم.
في حين أن المقطري أفضل حالًا من سعيد وملايين اليمنيين لأنه يمتلك أربعة أبناء يعملون ويمكنهم المساعدة -بمن فيهم بعضهم الذين يعملون في الخليج ويرسلون التحويلات المالية إلى المنزل، وهي مصدر دخل مهم للكثيرين في اليمن- إلا أنه لا يزال يعاني.
و يخصص المقطري معظم معاشه الشهري البالغ 150,000 ريال يمني (ما يعادل حوالي 62.50 دولارًا) لدفع الإيجار، وقد اضطر إلى قبول عمل إضافي لتغطية احتياجاته. وقال: "تدهورت ظروف المعيشة بشكلٍ كارثي، في حين انهار الريال بشكل كبير". وأضاف: "هذا جعل الرواتب غير كافية لتلبية الاحتياجات الأساسية".
و في مدن أخرى، دفعت الإضرابات الحكومة إلى زيادة الرواتب بشكلٍ طفيف، أو على الأقل دفعها بشكل أكثر انتظامًا.
ويشعر المقطري أن المعلمين ليس لديهم خيار سوى الإضراب. وقال: "الرواتب الضئيلة تجعل بعض المعلمين ليس لديهم خيار سوى المشي حافي القدمين أو ارتداء الأحذية البالية: مظهرهم يعكس معاناتهم". وأضاف: "آخرون يائسون لتغطية احتياجاتهم، لذلك تركوا مهنة التعليم أو باعوا أثاثهم وأغراضهم الأخرى".
•التجار يلقون اللوم على بعضهم البعض:
بينما يواصل الناس الاحتجاجات، يتبادل الأحزاب السياسية الاتهامات بشأن الأزمة، مما يزيد من القلق من أن اللجوء إلى العنف قد يكون واردًا مجددًا.
ففي يناير/ كانون الثاني، حمل المجلس الانتقالي الجنوبي، وهو أحد المكونات القوية لمجلس القيادة الرئاسي الذي يحكم عدن وأجزاء أخرى من الجنوب، الحكومة اليمنية "المنفية" التي تعمل بشكل رئيسي من خارج البلاد، مسؤولية تدهور الريال، مطالبًا بعودتها.
وفي فبراير/ شباط، قال البنك المركزي في عدن، الذي حمّل تدهور العملة على هجمات الحوثيين على المنشآت النفطية، إن الحكومة اليمنية فشلت في النظر في "عدة حلول" اقترحها البنك لحل الأزمة الاقتصادية.
وقد وجه كل من رئيس مجلس القيادة الرئاسي (رشاد العليمي) ورئيس الوزراء (أحمد عوض بن مبارك) اللوم إلى هجمات الحوثيين على محطات النفط والحرب الاقتصادية باعتبارها سببًا رئيسيًا في الأزمة الاقتصادية وتدهور الريال.
كما وجهت الحكومة اليمنية أصابع الاتهام إلى شركات الصرافة غير المرخصة، متهمة إياها بالمشاركة في المضاربات على العملة.
و قد أصبحت هذه الشركات أكثر شعبية طوال فترة الحرب، حيث توفر السيولة خلال فترات النقص، وتسد الفراغ الذي خلفته الدولة والبنوك الخاصة المتقاسمة بين الحوثيين والحكومة اليمنية. كما تقدم هذه الشركات خدمات مهمة، مثل دفع فواتير الخدمات واستلام الرواتب.
وقد نفى (صبحي باغفار)، المتحدث باسم جمعية الصرافين في عدن، الاتهامات المتكررة من الحكومة اليمنية بأن تجار العملة المحليين هم وراء تدهور قيمة الريال، مُشيرًا إلى أن السبب في ذلك يعود إلى نقص العملة الصعبة في السوق.
وقال في تصريح لـ "ذا نيو هيومناتاريان" إن اليمنيين كانوا يشترون الذهب منذ سنوات وينقلون أموالهم من الريال إلى العملات الأجنبية لأنهم لا يثقون بالريال. وأضاف: "إذا وفرت الحكومة ما يكفي من العملة الصعبة لتلبية احتياجات الواردات، فإن المضاربة ستتوقف كمسألة."
و بينما تتبادل الأطراف الاتهامات، تواصل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى رفع التحذيرات بشأن الحاجة الماسة للتمويل لمساعدة ملايين اليمنيين. ومع ذلك، فإن بيئة جمع التبرعات تتغير بسرعة نظرًا للتخفيضات الجذرية التي قام بها الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) في مساعدات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، تليها إعلان المملكة المتحدة عن تقليص مساعداتها الخارجية لزيادة الإنفاق الدفاعي.
و في يناير/ كانون الثاني، حثت الأمم المتحدة المانحين الأجانب على تقديم 2.47 مليار دولار هذا العام لتغطية المساعدات التي تنسقها في اليمن. و تهدف خطتها إلى تقديم "المساعدة المنقذة للحياة لـ 10.5 مليون من الأكثر ضعفًا" في اليمن. لكنها تعترف بأن هناك حاجة ماسة إلى مساعدة إنسانية لما يصل إلى 19.5 مليون شخص، أي أكثر من نصف السكان.
وتشير التوقعات الاقتصادية لليمن للعام المقبل إلى وضعٍ قاتم، وفقًا للخبراء المحليين والمؤسسات المالية الدولية. وقال البنك الدولي في يناير/ إن "غياب الآفاق الواضحة للسلام والأمن، وزيادة الإيرادات والصادرات، سيستمر في وضع الضغوط على المالية العامة والحسابات الخارجية". وكما كان الحال في السنوات الماضية، من المتوقع أن ترتفع معدلات التضخم في الجنوب بشكلٍ أكبر.
و بالنسبة لسعيد والعديد من اليمنيين الآخرين، يعني كل هذا أنهم سيضطرون إلى اتخاذ قرارات أكثر صعوبة. وقال: "في هذه الأوقات الصعبة، همي الأكبر هو إطعام أطفالي".