تقرير: التحكيم القبلي في اليمن... صلاحيات مطلقة تعوّض ضعف الدولة
يمن فيوتشر - العربي الجديد/فخر العزب الجمعة, 07 مارس, 2025 - 02:52 مساءً
تقرير: التحكيم القبلي في اليمن... صلاحيات مطلقة تعوّض ضعف الدولة

يعتبر اليمن من البلدان القليلة التي لا يزال للأعراف القبلية حضور فاعل ومؤثر في حل قضايا المتخاصمين. وزاد حضور التحكيم القبلي أو العرفي في زمن الحرب التي تشهدها البلاد منذ عشر سنوات، وغياب الدولة ومؤسساتها.

استمرت دعوى قضائية عالقة بين شخصين يمنيين يدعيان محمد مسعود وعبد الجليل علي سبعة أعوام أمام النيابة العامة والمحكمة، وخسرا ملايين الريالات من دون أن يصلا إلى حكم حاسم في ظل مماطلة القضاة. وبعدما ظلت القضية سنوات بلا حل في أروقة النيابة العامة والمحكمة قررا اللجوء إلى تحكيم شخصيات اجتماعية من قبيلتيهما، وتوصلا إلى حل طوى القضية العالقة بينهما إلى الأبد، وأعاد اللحمة الاجتماعية إلى قبيلتيهما في ريف محافظة صنعاء.

يقول محمد مسعود لـ"العربي الجديد": "أمضيت سبعة أعوام في محاولة الحصول على حكم قضائي، لكنني لم أنصف، واضطررت إلى بيع قطعة أرض كبيرة من أجل دفع تكاليف الدعوى المرفوعة أمام المحاكم التي ماطلت في حسم القضية والتوصل إلى حل. وخلال هذه الفترة كان يمكن أن تكبر القضية أكثر لأن العداوة والخصومة زادتا".

يضيف: "بعد سبع سنوات من التقاضي عرضت شخصيات اجتماعية من المنطقة التدخل لحل القضية من خلال التحكيم القبلي لرأب الصدع ولمّ الشمل بيننا. وقبلت بهذا الاقتراح، وحصل التحكيم بعدما قلت مع خصمي بأننا رجال قبائل نرضى بما يقوله الشيوخ، وحُلّت القضية نهائياً بطريقة أرضت الطرفين".

ويعّد التحكيم القبلي أحد أبرز مظاهر التقاضي في اليمن، ويستند إلى اختيار محكّمين يمثلون أطراف القضية، وهم يتشاورون بينهم للتوصل إلى حل للقضية يرون أنه منصف، ويعتبرون تنفيذه ملزماً استناداً إلى الأعراف القبلية والاجتماعية المتعارف عليها، والتي تسعى دائماً إلى مصالحة المتخاصمين ولمّ الشمل وزرع قيم المحبة والتآخي.

وفي ظل ضعف القضاء والسلطات في اليمن يبرز التحكيم القبلي باعتباره سلطة نافذة في كثير من القضايا. ويُعتبر أسرع وسائل التقاضي وأقلّها كلفة، وهو في نظر القانون حكم ابتدائي لا يُلغى إلا بحكم تصدره محكمة الاستئناف إذا رفضه أحد طرفي القضية.

ونتيجة للأعراف الاجتماعية والقبلية يندر أن يلجأ أحد المتقاضين إلى الاستئناف، إذ يُعد رفض الحكم القبلي بمثابة نقص اجتماعي ووصمة عار في حق من يرفضه، لأن القبول به يعني أن صاحبه يملك المروءة والنخوة الاجتماعية اللتين تراعيان مكانة الآخرين وتكرّس ميزة احترام أقوالهم وأحكامهم.

وللتحكيم العرفي أو القبلي قوانين عرفية غير مكتوبة. ورغم أن الغالب أن المحكّمين يتمتعون بصلاحيات مطلقة لكنها تمنح المتخاصمين حق استئناف الأحكام الصادرة عن المشايخ عند المنهى (اسم يُطلق على فئة معينة من المشايخ ذوي درجات أكبر يصنّفون بأنهم مراجع في الأحكام القبلية)، وأيضاً لدى أشخاص يُقسمون اليمين ويختلف عددهم بحسب القضية. كما يفضل أبناء القبائل اللجوء إلى التحكيم العرفي بدلاً من القضاء العام لأن مسؤولية تنفيذ الحكم تقع على أبناء القبيلة التي ينتمي لها، والذين يشاركونه في دفع مصاريف التحكيم او الغرامات المحكوم بها عليه عبر ما يسمى بـ"الغرم".

وعرّف القانون رقم 22 الصادر عام 1992 التحكيم بأنه عرف يختار فيه طرفان متنازعان برضائهما شخصاً آخر أو أكثر للحكم بينهما من دون عقد محكمة متخصصة في الخلافات والنزاعات بينهما، كما نص على أن تولي محكمة الاستئناف تنفيذ قرارات التحكيم.

 

يقول الباحث الاجتماعي عمار ياسر لـ"العربي الجديد": "التحكيم القبلي أو العرفي انعكاس لقوة حضور القبائل في اليمن. وكانت القبيلة قوية في ظل وجود الدولة قبل الحرب، وزاد ذلك على حساب حضور الدولة بعد الانقلاب الذي نفذه الحوثيون في سبتمبر/أيلول 2014. وأصبح كثيرون يقصدون المنظومة القانونية للقبيلة بدلاً عن مؤسسات الدولة الضعيفة أو الغائبة، ومعظم القضايا التي تحل قبلياً ذات طابع جنائي وفي مقدمها القتل، وتنتهي غالباً بالعفو عبر ما يسمى التهجير، إذ يذهب أبناء قبيلة الجاني إلى قبيلة المجني عليه للاعتراف بالخطأ وطلب العفو، ويقدمون ذبائح ويوزعونها.

ويشير ياسر إلى أن "المجتمع اليمني لا يزال قبلياً، وولاؤه أكبر للقبيلة من أي ولاء آخر نتيجة الأعراف الاجتماعية المتوارثة التي يكتسبها الفرد منذ طفولته ونشأته داخل مجتمعه القبلي. وهذه الأعراف تظهر التبجيل الكبير للقبيلة ورجالها، وتقديس قرارات القبيلة، وإغاثة المستجير، ونصرة المظلوم، واستنكار العيب".

ويقول المحامي مجيب النصاري، لـ"العربي الجديد": "التحكيم العرفي في اليمن أحد أنواع التحكيم بالصلح، لأن وثيقة التحكيم العرفي تتضمن التفويض المطلق للمحكّم الذي يملك بموجب الوثيقة صلاحية مطلقة في إصدار حكمه حتى لو حصل ذلك على حساب تجاوز النصوص والإجراءات القانونية، وهناك فارق بين التحكيم بالصلح، وهو التحكيم العرفي، الذي يسلّم سلفاً بالحكم الذي يصدره المحكّم، وبين انتهاء التحكيم بالصلح. ونصت المادة رقم 48 تحكيم على أن حكم التحكيم نهائي وحاسم في حال اتفق أطراف التحكيم عليه، وأيضاً في حال انتهى التحكيم بالصلح".

يضيف: "التحكيم بالصلح مطلق، ويحدث باسم التحكيم القبلي أو العرفي. وتتضمن وثيقة التحكيم منح المحكّم تفويضاً مطلقاً بالفصل في النزاع بما يراه مناسباً، وتأكيد أنه غير مقيّد بنصوص القانون، ما يعني تفويض المحكّم بحسم النزاع بحسب رؤيته للعدالة والأعراف القبلية السائدة".

ويشير النصاري إلى أن التحكيم العرفي والقبلي يعد من بين الأعراف السائدة في مجتمع اليمن، خصوصاً في جزئيه الشمالي والشرقي بسبب سيطرة المشايخ ونفوذهم الكبير. ويحصل اللجوء إلى هذا التحكيم بسبب ضعف الدولة والمؤسسات التابعة لها في تطبيق القانون، وفساد الجهاز القضائي والأمني في الدولة، وإطالة فترة التقاضي.

ويرى أن "التحكيم العرفي يحصل عبر تطبيق إجراءات مخالفة للقوانين التي تحدد التحكيم، ما يُضعف بالكامل دور الدولة ومؤسساتها ويعزز سلطة القبيلة والمشايخ في المجتمع. ومن الغرائب في المجتمع اليمني اعتداء مواطنين على موظفين في الدولة، وحل الأمر عبر التحكيم القبلي العرفي بدلاً عن القوانين المطبقة".

 

وخلال السنوات الأخيرة تبنّت السلطات الحوثية التحكيم القبلي في مناطق المحافظات الشمالية التي تخضع لسيطرتها، والتي تتركز فيها القبلية بالدرجة الأولى، بخلاف مدن الجنوب والشرق الأكثر تمدناً.

وبررت سلطات صنعاء إعادة الأعراف القبلية إلى الواجهة بأنها تساهم في تجسيد مبدأ التسامح والإخاء ولمّ الشمل وتخطي العقبات الكثيرة للحرب التي تستدعي توحيد الصف لمواجهتها، وإفشال محاولات إحداث خرق في نسيج المجتمع.

وعالجت هذه السلطات عبر هذه الأعراف التي تفرضها بـ"الترغيب والترهيب"، ملفات عدة، بينها قضايا رأي عام، ومنها حادث الاعتداء الشهير على طفل يدعى مصطفى اليحيصي في مديرية أرحب، والذي أخضع لما يسمى حكم "بنادق التحكيم والتهجير والعقير" المتوارثة قبلياً.


التعليقات