اليمن: ناشطون يسعون لاستعادة ملاذ الطيور المهاجرة وسط الأنقاض
يمن فيوتشر - The Christian Science Monitor- ترجمة ناهد عبدالعليم: الاربعاء, 05 مارس, 2025 - 11:34 مساءً
اليمن: ناشطون يسعون لاستعادة ملاذ الطيور المهاجرة وسط الأنقاض

في ذاكرة الطفولة لـ (أدهم صالح)، كانت الأراضي الرطبة على أطراف هذه المدينة الساحلية تبدو كطابع على بطاقة بريدية.
عندما كان صبيًا، كان يأتي إلى هنا كل شتاء لمشاهدة طيور البجع الوردي وهي تغوص برشاقة في الماء، وطيور الفلامنغو بلونها الوردي الفاتح تتهادى في المياه الضحلة.
يقول صالح: "كانت الطيور تحتشد هنا في مثل هذا الوقت من العام. لم نكن نعرف أسماءها أو تفاصيل رحلتها، كل ما كنا نعرفه هو الجمال الذي كانت تجلبه إلى عدن."
اليوم، يعمل صالح سائق حافلة بين المدن، الآن، وهو يدير مركبته في المنعطف الأخير المؤدي إلى محمية بحيرة البجع، تتلاشى ذكرياته الجميلة. أمامه، أكياس بلاستيكية متيبسة، وزجاجات مهجورة منذ زمن، وأنقاض مبانٍ مهدمة، وسطح الماء مغطى بطبقة من الطحالب.
يقول بأسى: "لقد أصبحت أشبه بمكب نفايات. لم يعد هناك أي طيور."
و المسؤول عن ذلك هو الحرب الأهلية المدمرة التي تعصف باليمن منذ ما يقرب من عقد. فقد أجبر الصراع الملايين على النزوح من منازلهم، وتسبب في انهيار الاقتصاد، مما دفع بأكثر من 80% من السكان إلى فقرٍ مدقع.
وهذه الأزمة التي صنعها الإنسان لم تقتصر آثارها على البشر فحسب، بل تركت أيضًا ندوبًا عميقة على العالم الطبيعي. فالمناطق الرطبة المحيطة بعدن، التي كانت يومًا محطة عبور لآلاف الطيور المهاجرة بين أوروبا وآسيا أو إفريقيا، لم تعد سوى ظل باهت لما كانت عليه. والآن، يحذر خبراء البيئة من أنه بدون تحرك عاجل، قد يختفي هذا النظام البيئي بالكامل.
يقول (جميل القدسي)، مدير إدارة المحميات الطبيعية والموارد الطبيعية في وزارة المياه والبيئة اليمنية: "السماح لهذا الملاذ الطبيعي بالتدهور يعني أن عدن تفقد جزءًا من تراثها الطبيعي ومواردها الاقتصادية الحيوية. وبدون تدخل فوري، ما تبقى من هذا النظام البيئي الهش سيصب مجرد ذكرى."


⁠•الصعود والانهيار:
تقع مدينة عدن الساحلية في موقعٍ استراتيجي بين أوروبا وآسيا، وقد كانت على مدار آلاف السنين مركزًا تجاريًا مهمًا، و خدمت إمبراطوريات متعددة، من الإغريق القدماء إلى البرتغاليين والعثمانيين. وبنفس الطريقة، أدت عدن دورًا محوريًا للطيور المهاجرة حول العالم.
و على مدى قرون، كانت آلاف الطيور تتوقف هنا سنويًا في رحلة هجرتها بين أوروبا وإفريقيا وآسيا. وقد وفرت الأراضي الرطبة مصدرًا غنيًا للأسماك، كما شكلت ملاذًا آمنًا يحمي الطيور من قسوة الصحراء المحيطة، مما جعلها موطنًا مثالياً لعشرات الأنواع، من البجع والفلامنغو إلى النسور والبلشون والنوارس.
وكان السكان المحليون يعتمدون أيضًا بشكلٍ كبير على هذه السواحل. فقد استخدمها جامعو الملح لاستخراج منتجاتهم، كما لعبت الأراضي الرطبة، التي تعد "موقعًا حيويًا لتكاثر العديد من الأنواع البحرية"، دورًا أساسيًا في دعم صناعة الصيد في المدينة، وفقًا لجميل القدسي.
وفي عام 2006، أعلنت الحكومة اليمنية أن الأراضي الرطبة التي تمتد على مساحة 110 هكتارات (270 فدانًا) في شمال عدن منطقة تكاثر حيوية لكل من الطيور المحلية والمهاجرة. وكان الهدف من هذا القرار حماية النظام البيئي من التوسع العمراني والتلوث.

بحلول أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة، كانت الأراضي الرطبة في عدن، بما في ذلك بحيرة البجع، تواجه أزمة متفاقمة. ومع توسع المدينة، تعرّضت هذه المناطق للتجريف والاستنزاف لصالح المشاريع الزراعية والتوسع العمراني.
وفي أواخر عام 2014، ازداد الوضع سوءًا بشكلٍ حاد. فقد أدت الاحتجاجات ضد تعليق دعم الوقود إلى تمكين حركة الحوثيين، المدعومة منذ فترة طويلة من إيران، والتي تمكنت من السيطرة على العاصمة صنعاء. وسرعان ما تحول الصراع إلى حربٍ أهلية شاملة، أغرقت اليمن، الذي كان بالفعل أفقر دولة في المنطقة، في دوامة من الفوضى والعنف.
ورغم أن عدن لم تكن ساحة لأعنف المعارك، إلا أن عدد سكانها شهد انفجارًا سكانيًا، مع تدفق آلاف اليمنيين الفارين من القتال في مناطق أخرى بحثًا عن ملاذ آمن.
و مع تزايد الطلب على الإسكان، بدأت المباني الجديدة في الظهور في كل مكان، بما في ذلك على ضفاف الأراضي الرطبة مثل محمية بحيرة البجع. ولم تلتزم شركات البناء بقوانين التخطيط العمراني، التي كانت أصلاً تُطبق بشكلٍ ضعيف. وفي الوقت نفسه، ومع استمرار الحرب، فقدت الحكومة سيطرتها تدريجياً على الخدمات العامة، حيث تُركت مياه الصرف دون معالجة، وتراكمت النفايات، وتدهورت أنظمة الصرف الصحي.
و بدأ السكان القاطنون بالقرب من محمية بحيرة البجع، إلى جانب أن الناشطين البيئيين، يلاحظون أن مع تزايد أكوام القمامة ومخلفات البناء، وتسرب مياه الصرف الصحي إلى البحيرة، أصبح عدد الطيور التي تحط فيها كل شتاء يتناقص بشكلٍ ملحوظ.
حيث يقول (جمال باوزير)، أستاذ العلوم البيئية المتقاعد من جامعة عدن: "الحرب دمرت المحميات الطبيعية في الأراضي الرطبة."


•جوهرة فقدت بريقها:
بالنسبة للمجتمعات التي تعيش على أطراف المحمية، فإن الخسارة لم تكن اقتصادية فحسب، بل كانت أيضًا خسارة ثقافية وبيئية. فقد نشأت أجيال من سكان عدن وهم يشاهدون مشهد السماء تمتلئ بالطيور المهاجرة كل شتاء، مما جعل هذه الظاهرة جزءًا من هوية المدينة.
لهذا السبب، ورغم استمرار الحرب واضطرار الناس إلى التوسع داخل المحمية، سواء للسكن أو للتخلص من النفايات، بقيت بعض القيم خطًا أحمر.
يقول (إبراهيم منعم)، الناشط البيئي والمسؤول السابق في إدارة البيئة بعدن: "رغم أن البعض لجأ إلى طمر النفايات في المحمية، إلا أنه لم يلجأ أحد إلى صيد الطيور البحرية أو جمع بيضها وصغارها. فهذا تقليد راسخ لدى سكان عدن، وأي محاولة لصيد هذه الطيور للمتعة أو العبث بها تلقى استنكارًا واسعًا."


• جهود محدودة في مواجهة أزمة متفاقمة:
على مدى العقد الماضي، قام السكان بين الحين والآخر بتنظيم حملات تنظيف مجتمعية أو مبادرات توعية صغيرة تهدف إلى وقف التلوث في المحمية. لكن هذه الجهود، وفقًا للخبراء، لن تكون أكثر من قطرة في محيط، ما لم تتخذ حكومة عدن والمنظمات البيئية المحلية خطوات أكثر جرأة، وتوفر تمويلًا أكبر لدعم جهود الحماية.
فاليوم، يرى الخبراء والناشطون أن أفضل أمل لإنقاذ البحيرة هو انتهاء الحرب في أقرب وقت، حتى يتسنى للحياة -سواء البشرية أو البرية- أن تعود إلى بحيرة البجع.
 و يقول صالح، سائق الحافلة: "كان يمكن لهذه البحيرة أن تبقى جوهرة تزين مدينة عدن، وجزءًا عزيزًا من ذاكرتنا الجماعية، لنا وللأجيال القادمة." ويأمل أن تُبعث البحيرة من جديد، مضيفًا: "حتى يتمكن أطفالي يومًا ما من الاستمتاع بها كما فعلت أنا."


التعليقات