في أحد أحياء صنعاء، وجد رضيع حديث الولادة شبه ميت في منور (فتحة التهوية) عمارة سكنية. مالك العمارة، الذي يدعى "خ. س"، اكتشف الطفل بعد سماع صرخات استغاثة مروعة. كان الرضيع وحيدًا، مرميًا في مكان ضيق بعيدًا عن أي مظهر من مظاهر الحنان. وثّق الرجل الحادثة عبر مقاطع فيديو، خشية أن يُتهم بالإهمال حال أصاب الطفل مكروه. انتشرت المقاطع، ما دفع فريق التحقيق إلى الغوص في قصة تتجاوز تفاصيلها لتكشف مأساة متكررة في مجتمع يواري قضاياه الحساسة.
•رحلة قصيرة إلى المجهول
عام 2021، وثّق التحقيق أربع حالات تخلِّي عن أطفال حديثي الولادة في صنعاء، اثنتان منها تم التأكد من تفاصيلهما، ضمنهما حادثة "رضيع المنور".
خلال زيارة ميدانية للمكان، حاولنا الحصول على إفادات من "خ. س" الذي اعتنى بالرضيع، قبل أن يرفض الإفصاح عن أي تفاصيل، ربما خوفًا من المسؤولية القانونية أو التداعيات المجتمعية.
التحقيقات الشرطية لم تكن أكثر وضوحًا، إذ اكتفت شرطة قسم العمري بالقبض على أحد ساكني العمارة كمتهم محتمل، دون أدلة واضحة أو نتائج ملموسة.
•وصمة المجتمع وضياع الحقيقة
في اليمن، يُنظر إلى التخلي عن الأطفال كجريمة أخلاقية تعكس انهيارًا في القيم المجتمعية. إلا أن التركيز ينصب غالبًا على الجريمة المفترضة للأم التي أنجبت الطفل، متجاهلًا مصير الرضيع الذي يُترك لمواجهة الموت أو المجهول. بين الشائعات التي تكتنف هذه الحوادث والحقائق التي تُدفن عمدًا، تبقى مثل هذه المآسي صورة صارخة لتخلي مجتمع بأكمله عن أضعف حلقاته.
•حكايات مرعبة عن الموت المنسي
في السادس من سبتمبر/أيلول من العام نفسه، صدم ناشطون المجتمع بصور مرعبة لرضيع التهمته الكلاب بعد أن أُلقي في إحدى أماكن النفايات بمنطقة السارة في مديرية العدين بمحافظة إب، وسط البلاد. وبعد أيام قليلة، انتشر مقطع فيديو يوثق مشهدًا مروعًا آخر في إحدى مستشفيات صنعاء الحكومية: رضيع فارق الحياة، ملطخ الدماء، وملقًى في شبّاك حمام المستشفى. حصل فريق التحقيق على نسخة من الفيديو، موثقة لدى "يمن فيوتشر"، ما دفعه للبحث عن الحقيقة خلف الحادثة.
كشف النزول الميداني والتحقيق عن تفاصيل صادمة. الأم، وهي فتاة صغيرة السن، وصلت المستشفى تشكو من آلام في الأمعاء، وفق ما أفاد به ذووها. حاولت الفتاة إخفاء حملها بارتداء ملابس فضفاضة، بينما كانت تعاني نزيفًا حادًا. أفادت إحدى الممرضات في قسم النساء والولادة بمستشفى الجمهوري أن الأم تناولت أدوية محفزة للولادة دون إشراف طبي. في غفلة عن العاملين بالمستشفى، أنجبت الفتاة الطفل داخل حمام المستشفى، قبل أن تتركه في الشباك مرعوبة من الفضيحة التي قد تعرض حياتها للخطر.
حصل فريق التحقيق على فيديو يوثق الرضيع الملقى، لكنه قوبل برفض من إدارة المستشفى للتعاون أو تقديم أي معلومات عن نتائج التحقيقات. المفاجئ أن المستشفى لم تجرِ أي فحص طبي للرضيع أو التحقيق في أسباب الوفاة. وفقط بعد تحويل القضية للرأي العام بدأت سلطات الأمر الواقع التابعة لانقلاب الجماعة الحوثية المصنفة على لائحة الإرهاب بالتحرك. أجرى البحث الجنائي تحقيقًا، وحُولت القضية إلى النيابة التي قامت بمساءلة الأم وتسليمها جثة الرضيع.
تؤكد إحدى الأخصائيات النفسيات أن العائلة لم تكن على دراية بحمل الفتاة حتى اللحظة الأخيرة. أضافت، مستشهدةً بحديث الأم: "كانت الفتاة تشكو من انتفاخ في بطنها، لكن العائلة اعتبرت ذلك نتيجة الإفراط في تناول البطاطس المقلية."
•ظاهرة التخلي عن الأطفال.. قصص الموت المعلنة
استبعدت إحدى الأخصائيات النفسيات أن تكون الأم التي تركت رضيعها في حمام مستشفى الجمهوري قد أقدمت على قتله عمدًا، مشيرة إلى أن نقص الأكسجين وغياب الرعاية اللازمة قد يكونان سببًا رئيسيًا للوفاة. فبقاء الطفل وحيدًا في ظروف غير صحية داخل الحمام لفترة طويلة يُرجح أن يكون وراء وفاته.
•حوادث متكررة دون حلول
في 20 مارس/آذار 2022، وثّقت كاميرا مراقبة في محافظة الحديدة، غربي البلاد، حادثة مروعة، إذ ألقى سائق سيارة "هيلوكس" رضيعًا بجانب أحد المباني غير المكتملة، في مشهد يعكس انعدام الرحمة. وبعد أقل من شهرين، في 4 مايو/أيار، تداول ناشطون صورًا لرضيع عُثر عليه بجانب رسالة مكتوبة بخط غامض لم يفهمه أحد.
وفي ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، اكتُشف رضيع في مدينة إب إلى جانبه هاتف "نوكيا" قديم ورسالة تعريفية بالأم التي بررت تخليها عن طفلها جراء ظروفها القاسية، وأوصت بالاحتفاظ باسمه. والعام التالي، 2023، شهد شارع الثورة في تعز، جنوبي غرب البلاد، حادثة مشابهة عندما وُجد رضيع مرميًا على الرصيف، فيما تم العثور على طفل آخر في 6 يونيو/حزيران، ملقًى داخل كرتون قرب أحد مساجد العدين بمحافظة إب.
•مطرقة القسوة وسندان الخوف
عبد الفتاح الصلاحي، ناشط حقوقي، روى حادثة تقشعر لها الأبدان في مدينة الضالع، إلى الشمال من مدينة عدن، إذ أصبح جنينٌ وُلد جائعًا وجبة للكلاب الضالة.
وقعت الكارثة قرب مجموعة عمال كانوا متجهين إلى أعمالهم في الصباح الباكر، ليكتشفوا كلابًا تلتهم بقايا جنين. بحسب الصلاحي، لم يجرؤ أي منهم على الاقتراب من الجثة بسبب هول المشهد والخوف من المساءلة القانونية.
"لا عتب عليهم"، يقول الصلاحي، "فقد قدَّمَتْهُ من حملته تسعة أشهر طعامًا للكلاب الضالة. ليأتي آخرون لاحقًا ويحفروا له حفرة صغيرة، كأنما يدفنونه طلبًا للرحمة، ليس من أمِّه فحسب، بل من كل من تخلّى عنه."
•بشاعة متكررة وصمت مطبق
عبد الفتاح الصلاحي يرى أن التخلي عن الأجنة جريمة بحد ذاتها، لكن الطريقة التي يتم بها رمي الرضع في القمامة، وكأنهم وجبة لكلاب الشوارع، تجعل الجريمة أكثر فظاعة، مشيرًا إلى حادثة أخرى لطفل في محافظة غير معلنة، وُجد مرميًا في القمامة، حيث كان حظه أفضل قليلًا إذ عثر عليه الناس قبل أن تصل إليه الكلاب، إلا أن الموت كان أسرع من إنقاذه.
يحذّر الصلاحي من أن تتحول هذه الحوادث إلى ظاهرة اجتماعية كارثية يصعب علاجها.
وفي حادثة مشابهة، رصد أحد رعاة الأغنام، لاحقًا، جثة جنين تنهشه كلاب بجانب القمامة. لاحظ كلبًا يتردد ذهابًا وإيابًا ليأخذ قسطًا من الراحة ثم يعاود النَهش. تجمع الناس حول المكان وأبلغوا السلطات، لكن القضية انتهت بالتكتم والصمت، وفق رواية إحدى ساكنات الحي التي أكدت أن هذه الحوادث غالبًا تُدفن مع ضحاياها.
•تجارة البشر بغطاء اجتماعي
الناشط إلياس العمري تحدث عن حادثة في وضح النهار، حيث ألقت سيارة فاخرة طفلًا رضيعًا بجانب قمامة في شارع مزدحم، مصادفة مع مرور طلاب شاهدوا الواقعة، لتلتقطه امرأة من ذوي البشرة السمراء. لكن الطفل، ذا بشرة بيضاء، أُعطي لعائلة من القبائل بحجة تأمين مستقبله، بعد أن قُدمت للمرأة مكافأة نقدية تراوحت بين أربعة وستة ملايين ريال يمني، حسبما قال.
يضيف العمري أن المتورطين في القضية، بمن فيهم الوسطاء والمعرفون، أُوقفوا لفترة قصيرة بتهمة الاتجار بالبشر. لكن القضية أُغلقت لغياب أدلة مادية حول الأموال، لينتهي الأمر أن "التبني" هو ما دفعهم للتدخل.
•قصص مؤلمة وسط أجواء باردة
الناشط فراس مكرد شارك حادثة أخرى من صنعاء، حينما سمع صوت بكاء أثناء تجوله في أحد شوارع المدينة الباردة، شمالي البلاد الواقعة تحت سيطرة الحوثيين. قاده الصوت إلى صندوق كرتوني بجانب القمامة، حيث وجد رضيعة ملفوفة ببطانية صغيرة وعليها ملابس نظيفة تُظهر اهتمامًا واضحًا، مخضبة الأظافر إلى ذلك رغم صغر سنها. وبعد أخذها إلى المستشفى وإبلاغ الشرطة، تبيّن أن الطفلة تبلغ من العمر شهرًا واحدًا فقط، ما أثار مخاوف من أن تكون ضحية لجريمة جنائية.
انتهى الأمر بالطفلة في رعاية أحد ضباط الشرطة، حيث تزداد مخاطر وتعقيدات التبني والبيروقراطية ما قد يطيل معاناة الأطفال المتخلى عنهم.
•حاويات القمامة أرحم من قلوب البشر
تتحول الحاويات إلى ملاذ بديل للرضع المتخلّى عنهم، إذ تفتح أبوابها دون شروط أو مساءلة قانونية، في مشهد يفضح عجز المجتمع والمنظومة القانونية عن احتواء مثل هذه المآسي. وبينما تتعامل دور الأيتام والمنظمات الإنسانية بإجراءات معقدة وشروط صارمة، تبقى الحاويات المكان الوحيد الذي "يرحب" بهؤلاء الأبرياء، لتصبح رمزًا لبشاعة الواقع.
دار رعاية الأيتام في صنعاء، على سبيل المثال، لا يستقبل الأطفال دون سن السادسة، بحجة أن دوره يقتصر على التعليم والرعاية من مرحلة الدراسة الابتدائية. وفي دار الرفقاء، تتلخص السياسة في قبول الأطفال اليتامى فقط، بشرط أن يكونوا ضمن أسرة عاجزة عن الإنفاق عليهم. هذا ما أكده أحد المسؤولين في الدار الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه.
•وصمة العار والتكتم
يوضح رئيس منظمة سياج لحماية الطفولة، أحمد القرشي، أن الإبلاغ عن حالات التخلي عن الرضع نادر جدًا، جراء وصمة العار التي تلاحق العائلات والمجتمع، وحتى السلطات الأمنية التي تميل إلى الصمت بدلًا من اتخاذ إجراءات واضحة.
ويربط القرشي الظاهرة بارتفاع معدلات الاستغلال الجنسي والفقر، متوقعًا تفاقمها في ظل غياب حلول حقيقية.
•روايات من الواقع
الدكتور قيس الجهراني، طبيب أطفال، يروي استقباله، في عيادته الخاصة، ثلاث إلى أربع حالات سنويًا لأطفال متخلى عنهم. تأتي بعض هذه الحالات من أشخاص اعتنوا بهم أوليًا، فيما تُظهر أخرى آثار كدمات أو إصابات بليغة. وفي أحد المستشفيات الحكومية، استقبل حالة واحدة فقط، انتهى بها المطاف بالتبني من قبل أحد زملائه، نظرًا لصعوبة الإجراءات الرسمية.
•ثغرة قانونية
يؤكد المحامي فؤاد الجعفري أن القانون اليمني يفتقر إلى نصوص خاصة تعالج قضايا الأطفال مجهولي النسب، باستثناء مادة تتعلق بحق الطفل في الحياة بمجرد ولادته حيًا.
يضع هذا القصور القانوني هؤلاء الأطفال في دائرة النسيان، دون أي حماية أو حقوق واضحة.
يشير الجعفري إلى نموذج القانون السوري الذي خصص تشريعات واضحة لمجهولي النسب، سواء الشرعيين أو غير الشرعيين، توفر لهم دور رعاية وتمنحهم حقوقًا قانونية كاملة. ويرى أن اليمن بحاجة إلى قانون مماثل يُنظم رعاية هؤلاء الأطفال، ويحميهم من أن يصبحوا ضحايا للتهميش أو الانتهاكات.
•دعوة للمجتمع والدولة
وإذ يُنتظر من الدولة، في ظل حكومة شرعية معترف بها دوليًا، تحمُّل مسؤوليتها تجاه هؤلاء الأطفال، باعتبارهم أرواحًا بشرية تستحق الحياة والكرامة، من المهم الإشارة إلى أهمية تخصيص دور رعاية في مختلف المحافظات، وتوفير إجراءات مرنة لاستقبالهم دون وصمة أو تعقيد، في ظل الاحتياج الماس للمجتمع إلى حملات توعية لتغيير النظرة السلبية تجاه المتخلى عنهم، وتشجيع الأفراد على الإبلاغ عن هذه الحالات دون خوف من المساءلة.
وما بين الحاويات المفتوحة وأبواب المؤسسات المغلقة، يظل هؤلاء الأطفال شهودًا صامتين على جريمة مزدوجة، ضحيتها الحياة والإنسانية معًا.