تداول يمنيون أواخر أيلول/ سبتمبر الماضي على مواقع التواصل الاجتماعي، مقاطع فيديو نشرها مجندون في جبهات القتال الروسية، وآخرون ظهروا كعمال سُخرة يُجبرون على حفر الخنادق لساعاتٍ طويلة من دون استراحة، ويناشدون حكومتهم إعادتهم إلى بلادهم.
من هؤلاء، مجنّد في السابعة عشرة من عمره أطلق النار على نفسه بسبب تعامل ضباط روس بوحشية معه، إذ “ضُرب بقسوة ووُضع في مكان سيئ، تبولوا في قنينة الماء ثم صبوها عليه”.
هؤلاء اليمنيون كانوا يحلمون بعمل ومستقبل أفضل إثر وعدهم بالمال والجنسية الروسيّة، بيد أنهم علقوا في قلب معركةٍ ليست معركتهم وعلى أرضٍ ليست أرضهم، ولم تبقَ لهم أمنية سوى العودة إلى اليمن.
في الوقت ذاته، طالبت عائلات المجندين السلطات اليمنية بإنقاذ أبنائها من القبضة الروسية، لكن انتشار الفيديوهات وأخبار المجندين على وسائل الإعلام أثار غضب اليمني المقيم في روسيا هاني الزريقي، مندوب الشركة التي تستقطب الشباب وتجنّدهم.
في تسجيل صوتي، نسمع الزريقي يهدد بعض المجندين الذين يثيرون (الزوبعة) حسب وصفه، مؤكداً أن الاستخبارات والشرطة العسكرية الروسيتين ستضعان حلاً لهم من دون أن يذكر ما هو الحل، عده البعض تهديداً بتصفيتهم.
وتحدث الزريقي في رسالة صوتية موجّهة الى شخص يُكنى بـ(أبو تركي)عن غضب روسي، وأن لهجة المخابرات الروسية حادة تجاه كل المجندين اليمنيين، ونصحه في الرسالة “أخبر الروس أن من يثير الزوبعة هم خمسة أشخاص لا علاقة لنا بهم ولا نعرفهم ، تعاملوا معهم كما تريدون لأنهم شوّهوا سمعتنا”، واستدرك: “الحل أصبح قريبا!”.
في التسجيل، يعترف الزريقي ضمنياً بمراقبة حسابات المجندين على فيسبوك والواتسآب لصالح المخابرات الروسية. وفي تسجيل آخر – يبدو أنه تم التحقيق مع المجند جمال – الذي يعترف الزريقي بأن الروس تعاملوا معه بحقارة، ويقسم بأنه “لم يكن راضياً عن تعامل الروس مع جمال بتلك الوحشية “، مضيفاً أن الروس وجدوا معلومات كثيرة لدى جمال وحمّلوا الشركة المسؤولية لأنها هي من أتت بهم، جمال أطلق الرصاص على نفسه، يقول: “صراحة تعاملوا معه بحقارة”.
وأضاف الزريقي متوعداً: “أنا لم أبع أحداً رغم أن محمد جلال وجمال قاما بأشياء كثيرة، كنت أستطيع ولا أزال حتى الساعة، باتصال هاتفي، أن أعمل بهما أشياء لا يتوقعانها”.
وفي التسجيل يؤكد أن الاستخبارات الروسية وراء اختفاء المجندين المفقودين نجم الدين العماري وإدريس المالكي، ويبدو جلياً في لهجته ترهيب للمجنّدين الآخرين.
بعض المجنّدين ممن لا يزالون في معسكرات الاستقبال، أرسلوا إلينا معبرين عن خوفهم من تلقيهم تهديداتٍ يومية من الزريقي منذ ورود اسمه في التقارير الإعلامية كأحد السماسرة الذين خدعوا الشباب، بسجنهم، ويحذرهم من ذكر اسمه أو التحدّث إلى الإعلام. يقول عادل: “هاني أبلغ عنا المخابرات والشرطة الروسية، وحرّضهم علينا، إذا غبت إعلموا أنه حبسنا أو اقتادنا عنوة إلى الجبهة”.
•بداية القصة وتأسيس الشركة
أسّس عبد الولي الجابري شركة في عُمان تحت اسم شركة الجابري للتجارة والاستثمار (ش.ِش.م) بسجل تجاري رقم (1450240)، وتحمل الرقم الضريبي (1830627) على أنها شركة استيراد معدات طبية، قبل أن يكشف المجندون نشاط الشركة الحقيقي في تجنيد العاطلين من العمل والفقراء إلى روسيا.
اللافت أن تاريخ تأسيس الشركة لم يذكر؛ وذكر عنوانها الرئيسي في عقد بين الشركة وأحد المجندين في صلالة بمحافظة ظفار، غير أنه في عقد آخر ذكر أن مقرها الرئيسي مسقط، تعزز هذا الظن شهادة مواطن يمني مقيم في مسقط بأن شركة الجابري لم يكن لديها أصلاً مقر رسمي.
الجابري هو عضو مجلس نواب وقائد اللواء 115 مشاة، مناصر لجماعة الحوثي وساعدهم على دخول محافظة تعز (جنوب العاصمة صنعاء) وشاركهم بقصفها، ومتهم بالكثير من الجرائم مع شريكه محمد العلياني الذي سُجن بداية الحرب في مدنية تعز بتهم عدة، منها تهريب الأدوية والقتال الى جانب الحوثيين.
وكانت المحكمة العسكرية في مأرب التابعة للحكومة (المعترف بها دولياً) أصدرت حكماً في آب/ أغسطس 2021 قضى بإعدام 174 شخصاً من قادة الانقلاب ومعاونيهم، بينهم عبد الولي الجابري، وذكرت تقارير إعلامية إن الشركة كانت تهرب السلاح للحوثيين وتحوّل نشاطها لاحقاً إلى تجنيد مرتزقة لروسيا.
لدى الجابري سماسرة ينشطون في دول الخليج واليمن، بينهم شقيقه (عبد الواحد الجابري) في تعز ونجل شقيقه في صنعاء صدام الجابري ولديهم سماسرة محليين في المدن والأرياف، منهم هاشم الغرباني الذي تم تداول اسمه حديثاً بين المجندين، وأفاد المجند (أكرم) بأن الغرباني أخذ جوازات سفر أربعة أشخاص في عُمان لاستخراج تأشيرات سفر لهم إلى روسيا. تواصلنا بالغرباني عبر تطبيق واتسآب مدّعين رغبتنا في السفر إلى روسيا، لكنه بدا حذراً، ورفض الإدلاء بأية معلومات عن التجنيد ومكان وجوده.
وعلى الرغم أن العقود بين شركة الجابري وبين المجندين توضح أن غرض السفر هو البحث عن وظائف وليس العمل كمجندين، دافع الجابري عن نفسه في تصريح إعلامي لمؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد (occrp)، قائلاً: “كل المجندين كانوا يعلمون أنهم ذاهبون الى القتال”.
طبقاً للقوانين الدولية والمادة الثانية من اتفاقية مناهضة تجنيد المرتزقة، يعد الجابري “مجرماً”، إذ تنص المادة على أن “كل شخص يجند أو يستخدم أو يمول أو يدرب المرتزقة، وفقاً لتعريفهم الوارد في المادة (1) الاتفاقية، يرتكب جريمة بحكم هذه الاتفاقية”.
لا توجد قوانين وطنية تجرّم الإتجار بالبشر، لكن اليمن مصادق على الاتفاقيات الدولية، وتؤكد المادة السادسة من الدستور “العمل بميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وميثاق جامعة الدول العربية وقواعد القانون الدولي المعترف بها بصورة عامة”.
هؤلاء اليمنيون كانوا يحلمون بعمل ومستقبل أفضل إثر وعدهم بالمال والجنسية الروسيّة، بيد أنهم علقوا في قلب معركةٍ ليست معركتهم وعلى أرضٍ ليست أرضهم، ولم تبقَ لهم أمنية سوى العودة إلى اليمن.
•رجل الظل الروسي
في تموز/ يوليو، وصل إلى روسيا (31) مجنداً، كأول دفعة تصل عبر شركة الجابري برفقة ديمتري، وبحسب بعض المجندين الذين تحدثوا إلى “درج”، يمثل ديمتري شركة عسكرية خاصة في رستوف لم يتسنّ لهم معرفة اسمها، لكن يبدو أنها ضمن شركات خاصة عدة تقدم خدمات لوزارة الدفاع الروسية.
يحتفظ المجندون برقم ديمتري لكنهم لا يعرفون شيئاً عنه، وأرسلوا لنا صورة له يضعها بروفايل على الواتسآب، وحين بحثنا عن معلومات من خلال الصورة لم نجد، لذا قمنا بترجمة اسمه إلى الروسية، وبحثنا في محركات البحث من خلال الإسم والصورة، فوجدنا معلومات وصوراً أرسلناها إلى أربعة من المجندين الذين التقوا به في عُمان، وبعضهم التقوا به في مطار دبي وأخبرهم بأنه سيرافقهم إلى موسكو، وهو أيضاً من سهل لهم إجراءات دخولهم من مطار(دوموديدوفو)، إذ أكدوا جميعاً أنه ديمتري.
يؤكد سليم – اسم مستعار- 30 عاماً، “كنت ضمن المجموعة التي التقت بديمتري في مطار دبي، وأنا من ترجم له، وأخبرنا أنه سيرافقنا في هذه الرحلة”، سليم متزوج وكان يعمل في مسقط محاسباً في إحدى الشركات، يجيد اللغة الإنكليزية، دخل مطلع تموز/ يوليو عبر شركة الجابري إلى روسيا وهو اليوم يقود إحدى الكتائب في الجبهة بأوكرانيا.
“ستاروستين ديمتري سيرجيفتش” حسب المعلومات المذكورة في الموقع الحكومي، تدّرج في عدد من المناصب المهمة بوزارة الخارجية، ومنذ أشهر عُيّن نائباً لرئيس حكومة منطقة (نيجني نوفغورود)، ووفق شهادة أحد أصدقاء العلياني، زار ديمتري مسقط ثلاث مرات التقى خلالها بعدد من المجندين ورافق ثلاث دفع مختلفة إلى موسكو.
في تموز/ يوليو، مر ستاروستين بصحبة الجابري والعلياني على مساكن كل المجندين المقيمين في مسقط والقادمين الجدد من اليمن، لمطابقة صورهم مع جوازات السفر، فمهمة ستاروستين لوجستية، وهي التنسيق وتسهيل الحصول على التأشيرة، ومرافقة المجندين الى موسكو وتسليمهم لهاني الزريقي.
راسلنا ستاروستين عبر تطبيق “واتسآب” واستلم الرسالة، إلا أننا لم نلقَ إجابة.
•الوقوع في الفخ
يستقبل هاني الزريقي، مندوب شركة الجابري في موسكو، المجندين، ويخبرهم أنّهم سيقبضون عشرة آلاف دولار، وكل شخص سيدفع فقط ثلاثة آلاف دولار للشركة لمتابعة الجنسية والبحث عن عمل، ثم تؤخذ بصماتهم وتجرى لهم فحوصات طبية ويوضعون تحت المراقبة.
يروي المجند عادل الموجود حالياً في بيرديانسك الأوكرانية :”أخذونا بحافلة وقالوا إننا لن نذهب الى الجبهة لأننا غير مقاتلين ولا نجيد اللغة، وسنذهب الى منطقة الاستقبال، ومنها نبدأ العمل، وفجأة وجدنا أنفسنا في معسكر بـ(روستوف) ثم نقلنا الى (بيرديانسك) الأوكرانية، تلقينا تدريبات عسكرية لمدة شهر واقتادونا بالقوة إلى الجبهة، ومن رفض القتال طلب منه هاني ألف دولار بزعم أنّها رسوم معاملة الجنسية!”.
يضيف عادل الذي كان يعمل في عمان بوظيفة وسيط تجاري: “استقبلتنا في روسيا مطلع آب/ أغسطس 2024 مجموعة مسلحة من وزارة الدفاع يرتدي أفرادها الملابس العسكرية، وأخذونا إلى موقع استقبال في العاصمة موسكو، حيث وقّعنا على عقود باللغة الروسية، من دون ترجمة، عبر هاني الزريقي، ومن ثم تحركنا من موسكو إلى منطقة تبعد منها مسافة 26 ساعة، وهناك أعطونا السلاح والبدلات العسكرية؛ ونحن الآن في المعسكرات”.
استغلّ الزريقي قلة خبرة الشباب وعدم معرفتهم باللغة الروسية، وطلب منهم التوقيع على عقود لا يعلمون مضمونها، يقول عادل: “وقعت، لا أعلم على ماذا، فأنا لا أجيد اللغة الروسية، ورفض إعطاءنا نسخة من العقود أو حتى تصويرها”، أخبرهم هاني إنها عقود عمل لمدة عام يساعدون بموجبها “إخوتهم الروس” بأشغال يدوية ولوجستية!
في عقد بين مجند وشركة الجابري، بند يُوكل المجند بموجبه الشركة بالنيابة عنه أمّام كل الجهات الرسمية الروسية، الأمر الذي سهل على الشركة ومندوبها الزريقي الاستيلاء على أموال المجندين، كما أنّ العقود التي وقعوا عليها من دون علم بمضمونها أعطت هاني الحق بأخذ ستة آلاف دولار، وبدل أن يصلهم مبلغ عشرة آلاف دولار، وصلهم فقط 4000 دولار؛ ليتضح لاحقاً أنهم تعرضوا لعملية نصب.
•ضحايا أم مرتزقة؟
“إما أن تذهبوا إلى القتال أو سنقتلكم هنا، وسنرمي جثثكم في النفايات”، بهذه العبارة هدّد الروس من رفضوا الذهاب الى الجبهة، بينهم (أيمن) 24 عاماً اسم مستعار، هو طالب أمن سيبراني سنة ثالثة كان مقيماً في ماليزيا.
عاش أيمن من محافظة إب (جنوب العاصمة صنعاء) في ماليزيا لإكمال تعليمه، من دون منحة، وظروفه المادية سيئة، وكان أحد أبناء قريته يعمل سمساراً مع شركة الجابري لاستقطاب الشباب، وهو على علم بظروف الشاب، يقول أيمن: “أنا طالب لم أحمل يوماً سلاحاً، تواصل معي هذا الشخص مقدماً لي عرض وظيفة في روسيا وجنسية، وجدتها فرصة لحل مشاكلي المادية فوافقت، وسافرت من ماليزيا إلى عمان، وبعد شهر حصلت على التأشيرة الى روسيا”.
أيمن الذي تعرض ورفاقه للضرب بعنف من الروس الى درجة أن بعضهم حاول الانتحار بقطع أوردته، ناشد السلطات اليمنية: “لا تتركونا هنا… أعيدونا الى بلادنا وعائلاتنا”.
لا توجد إحصاءات رسمية بعدد المجندين اليمنيين، ولا بعدد القتلى والمفقودين، تأكد لنا فقط مقتل ثلاثة أشخاص (يعقوب الجبري) من محافظة إب قُتل يوم 24 أيلول/ سبتمبر وأصيب ستة من رفاقه بقذيفة أوكرانية استهدفت دبابتهم.
كتب أحد أقربائه على فيسبوك: “ما أراد الله لنا الفرح بـ26 سبتمبر (عيد الثورة 1962) جاءتنا غصة، وخبر يعتصر القلب، موت الأخ يعقوب الجبري؛ وكتب ابن عمة يعقوب مؤكداً الخبر ومعزياً خاله وأولاد خاله.
كما قتل الشاب إسماعيل وجدي بمدينة (خاركيف) في السابع من أيلول/ سبتمبر الماضي أثناء مشاركته في القتال إلى جانب القوات الروسية. ومنذ أسابيع أُعلن عن مقتل شاب يدعى حمادة الجعفري ذي الـ17عاماً من أبناء محافظة إب، وأصيب آخران بهجوم مسيرة أوكرانية على مواقعهم.
يقول رشاد الجعفري والد حمادة: “إبني لا يزال صغيراً وهو أكبر إخوته، استخرجنا له جواز السفر بغرض الدخول إلى السعودية للعمل، وتفاجأنا عندما اتصل بوالدته يخبرها بأنه في روسيا مع إبن عمه، مؤكداً: “نحن لا نعلم من يقف وراء تجنيدهما”.
روى محمد العقيدة لــ”درج” قصة تجنيد ثلاثة شبان من جيرانه في محافظة إب قائلاً: “ليست لدي أدنى فكرة عن السماسرة، ما سمعته أن استقطابهم تم عبر الإنترنت، أحدهم أرسل إلى العسيري يخبره أنه في روسيا وعرض عليه اللحاق به”.
أشار العقيدة إلى أن إجراءات السفر والتأشيرة لم تكن عبر مكاتب، إنما بتوصيات بين السماسرة، الذين يرسلون إلى بعضهم الضحايا وجوازات سفرهم من دون أن تكشف هوياتهم للضحايا ولا الجهة التي يتبعونها.
يضيف العقيدة: “صيف هذا العام جاء أحد السماسرة من تعز إلى إب لأخذ جوازي سفر محمد جمال وحمادة الجعفري لاستكمال إجراءات السفر، وبعد أيام اتصل بهما طالباً منهما الاستعداد للسفر إلى المهرة، وسيكون في استقبالهما شخص سيوصلهما إلى أحد فنادق المهرة”، وبعد إقامتهما لمدة أسبوع في الفندق أُبلغا أن شخصاً سيقلهما بسيارته إلى سلطنة عمان.
تابع العقيدة: “بعث لي العسيري عبر واتسآب وهو في المنفذ، صورة من تصريح دخوله عمان؛ سألته ماذا تفعل في عمان؟ أجاب: زيارة قصيرة لصديق وسأعود الى اليمن”.
التحق بهما جمال الجعفري، وخلال يومين كان كل شي جاهزاً للسفر الى روسيا (التأشيرات وتذاكر السفر). وأوضح ألا أحد كان يعلم أنهم في روسيا، ولاحقاً اتصلوا بعائلاتهم يخبرونهم أنهم في روسيا، وحتى لا يخيفوهم أخفوا عنهم أنهم في الجبهات مدعين أنهم فقط يعملون في الحراسة الأمنية.
اختفت أخبارهم خمسة عشر يوماً، بعدها اتصلوا بالعقيدة وأخبروه أنهم في الغابة يقومون بتدريبات عسكرية، ومنها أخذهم الروس إلى الخنادق قائلين لهم: “هذا مكانكم احموا أنفسكم”.
وفقاً للمجند عادل، (27 عاماً، إسم مستعار)، فإن مائتي شاب لا يزيد عمر أكبرهم عن الـ30 عاماً، وصلوا في آب/ أغسطس إلى معسكرات الاستقبال بروسيا، وتم توزيعهم في مجموعات على معسكرات بإحدى الغابات الروسية، ثم نقلوا إلى قاعدة تدريب روسية في (بيرديانسك) الأوكرانية.
يقول عادل: “لا يزال عدد من المجندين مفقودين، منهم إدريس المالكي ونجم الدين العماري اللذان اختفيا في ظروف غامضة، كما فُقد آخرون مع عربتهم في أوكرانيا أثناء حصارهم، ولا نعرف شيئاً عنهم، من بينهم (سفير، حسين المحيا، ومهند، وخليل، وإياد)”.
أكرم، 27 عاماً من محافظة تعز، يعمل في أحد المطاعم في مسقط منذ 2021، كان ضمن الدفعة التي دخلت إلى روسيا في آب/ أغسطس، يتهم الجابري والزريقي والعلياني بالتغرير بهم وبأنهم المتسبب الأول في مأساتهم،”استغلوا ظروفنا المادية السيئة وقدموا لنا عرضاً مغرياً، لكني الآن في الجبهة بأوكرانيا من دون إرادتي، والروس يعاملوننا بوحشية، يضعوننا نحن والسوريين والأفارقة والهنود في المقدمة ، أريد العودة الى اليمن ولكن كيف ونحن موقعون على عقود؟!”.
•السلطات اليمنية تواطؤ أم تخاذل؟
قبل أشهر، ألقي القبض على مجموعة في المهرة كانوا متجهين إلى عمان، يؤكد ضابط في أمن محافظة المهرة أنه “في شهر آب/ أغسطس تم ضبط 25 شخصاً بمنفذ (صرفيت) الحدودي مع عمان، كانت وجهتهم روسيا، ولاحقاً أطلق سراحهم”.
ضابط في المخابرات اليمنية أخبرنا أنّهم أحيلوا إلى سجن (المخابرات) في المهرة ثم جاءتهم توجيهات من أحد قادة المجلس الرئاسي (نتحفظ عن ذكر اسمه حماية للمصدر) بإطلاق سراحهم.
يؤكد (ي.م) يمني كان في زيارة إلى مسقط، أنه أبلغ السفارة عن عمليات تجنيد واسعة تنفذها شركة الجابري، تجاهلت السفارة الشكاوى، بل إن أحد موظفيها حذره: “توقف، أنت تعرّض حياتك للخطر”.
حول الشكاوى ينفي مسؤول في السفارة بمسقط (طلب عدم ذكر إسمه) لـ”درج” أنهم تلقوا بلاغات حول التجنيد إنما الشكاوى التي وصلتهم فقط كانت تطالب بإعادة رفاقهم العالقين في روسيا.
ما يشير إلى علم السفارة بنشاط الجابري قول المسؤول: “ما نعرفه أن عبد الولي الجابري هو رأس العصابة وكان يستأجر في مسقط غرفة للمجندين القادمين من اليمن”، مستدركا: “لكن عُمان مجرد دولة عبور للمجندين”، وحسب هذا المسؤول غادر الجابري والعلياني عمان.
حاولنا التأكد من مغادرتهما عمان فلم نجد ما ينفيها أو يؤكدها، وتضاربت المعلومات حول مكان وجودهما، في سجن بعمان أم هربا إلى القاهرة؟ مسؤول في السفارة اليمنية بالقاهرة نفى أن يكونا في مصر .
في آب/ أغسطس، كان الجابري والعلياني في القاهرة والتقيا بأحد مسؤولي السلطات اليمنية (المعترف بها دولياً)! وقبل أيام طمأن الجابري برسالة صوتية أرسلت عبر هاتف الزريقي الى المجندين:” أنا بخير وان شاء الله تعودون سالمين”.
يعتقد بعض المجندين أن الهدف إرسال الرسالة من هاتف الزريقي إيهامهم بأنه في روسيا بينما المعلومات تقول إنه في تركيا، فيما تم التأكد من أن العلياني عاد الى اليمن.
طلبنا من أحد مسؤولي السفارة اليمنية في مسقط نسخة عن الشكاوى التي وصلتهم من المواطنين المقيمين في عمان، فأجاب بأنه لا يعلم شيئاً، والمعلومات كلها لدى السفير (تواصلنا مع السفير اليمني في مسقط خالد شطيف لكنه رفض التجاوب).
بهذا الخصوص يشير أحد موظفي الخارجية اليمنية إلى أن التقارير الإعلامية التي نشرت حول التجنيد من على الأراضي العمانية أحرج السلطات العمانية والمسؤولين اليمنيين، وهذا ربما يفسر خوف موظفي السفارة في مسقط من التصريح حول القضية ومصير الجابري والعلياني.
اتهم العالقون في المعسكرات الروسية السفارة اليمنية في موسكو بتجاهل مناشداتهم، لافتين الى أنه لا يوجد أي تحرك جدي لإنقاذهم.
واجهنا السفير اليمني في موسكو (أحمد الوحيشي) بشكاوي المجندين واتهام السفارة بأن التجنيد تم بعلمها، لم يجب بالنفي أو التأكيد، وأحالنا إلى الملحق العسكري، متحججاً بأنه في مهمة رسمية خارج موسكو، والملحق بدوره أيضاً لم يجب.
مصدر في الحكومة (المعترف بها دولياً) تحدث إلينا مؤكداً أن الحكومة تفاهمت مع الجانب الروسي لإعادة جميع المجندين، وتم تكليف الخارجية بتسهيل سفرهم، وبموجب هذا التفاهم عاد منذ أسابيع 11 مجّنداً من الذين كانوا لا يزالون في معسكرات الاستقبال.
تواصلنا مرة أخرى بالسفير في موسكو للاستفسار عن الترتيبات التي قامت بها السفارة لتسهيل سفرهم، فاكتفى بالرد: “السفارة تتابع باهتمام الموضوع مع الجانب الروسي، وتم الإحالة إلى المختص”.
المختص الذي أحالنا إليه السفير وأعطانا رقمه، لا نعلم من هو وما وظيفته في السفارة، وعند التواصل به سأل منفعلاً: “لماذا تبحثون عن هذا الموضوع؟ من أنتم ولصالح من تعملون؟”، وأردف: “لقد أعدنا جميع المجندين”. أجبناه بأن ذلك ليس صحيحاً، وعدم التجاوب يضع الكثير من علامات الاستفهام حول دور السفارة في التجنيد!، اشتاط غضباً وأرسل تهديداً بالقتل إن لم نتوقف عن ذكر السفارة في التحقيق الذي وصفه بـ”التافه”.
استعنا بمواطنين يمنيين في روسيا لمعرفة هويته، أعطيناهم الرقم واستخدمنا تطبيق كاشف الأرقام، اتضح أنه عميد طيار (توفيق أحمد عبدربه)، موظف محلي بالسفارة في موسكو!
تداول المجندون منذ أيام في مجموعة (العالقين بروسيا )على تطبيق واتسآب، أوراقاً مكتوبة باللغة الروسية قالوا إنها أوراق فصل للمجندين الراغبين في العودة إلى اليمن، وإنه سيتم التوقيع والتنفيذ خلال عشرين يوماً.
من جهته وفي تسجيل صوتي آخر، يقسم هاني الزريقي بألا أحد يستطيع إعادة المجندين حتى سفير اليمن في روسيا متحدياً: “إذا هناك من يستطيع فعل شيء لكم سأجمع الـ180 مجنداً ويبصقون على وجهي في أرض المطار إذا تم ترحيلهم والأيام بيننا”!
اللافت أن الأوراق غير رسمية وعندما سألنا بعض المجندين حول ذلك، أجابوا بأن أوراق التجنيد كلها التي وقعوا عليها غير رسمية!
تجدر الإشارة إلى أنه وأثناء كتابة هذا التحقيق، قال لنا مجندون سابقون في معسكرات التدريب إن دفعتين جديدتين وصلتا إلى روسيا، ما يعني أن التجنيد ما زال مستمراً.