للتصعيد العسكري بين الولايات المتحدة وجماعة الحوثي المدعومة من إيران انعكاسات كبيرة على مستقبل اليمن.
فمع استمرار الحوثيين في تعزيز سيطرتهم على العاصمة صنعاء، فإن التدخل الأمريكي سوف يلعب دوراً حاسماً في المسار السياسي والعسكري لليمن.
اما بالنسبة لإدارة ترامب القادمة، فإن التحديات التي تفرضها اليمن تلوح في الأفق بشكل كبير، مما يمثل مجموعة معقدة من المخاطر الجيوسياسية ذات الآثار المباشرة على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة.
لكن الطريق إلى الأمام يجب أن يكون واضحاً: حيث لا ينبغي للبيت الأبيض أن يتمسك بنهج بايدن الفاشل تجاه اليمن.
•التحدي الحوثي
بلإشارة إلى الدعم لفلسطين، فإن الحوثيين بدؤوا بمهاجمة السفن البحرية في البحر الأحمر وخليج عدن بعد أقل من أسبوعين من بدء إسرائيل هجومها على غزة في أكتوبر 2023، مستهدفين السفن الأمريكية والدولية التي يُفترض أنها مرتبطة بإسرائيل، وأطلقوا الضربات على إسرائيل نفسها.
وبعيداً عن لفتات الدعم الرمزية للفلسطينيين، فإن هذه التصرفات عرضت التجارة العالمية للخطر، حيث أصبح البحر الأحمر ــ شريان الحياة الحيوي للتجارة الدولية ــ ساحة معركة خطيرة، ويهدد بتوسيع حرب إسرائيل على غزة.
ولم تكن تحركات الحوثيين مجرد بيان سياسي للولايات المتحدة، بل إنها تحدت مصالحها الاستراتيجية.
ومع تعرض استقرار الطرق البحرية للخطر، تحول الوضع في اليمن فجأة إلى أزمة عالمية بعيدة المدى، ويبدو الآن أن مستقبل اليمن ومستقبل التجارة الدولية مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بأفعال الحوثيين ورد الفعل الدولي.
ونظراً لتصميمها على وقف التهديد المتزايد، ردت الولايات المتحدة باستخدام القوة.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بدأ الجيشان الأمريكي والبريطاني عمليات عسكرية ضد مواقع الحوثيين الرئيسية في جميع أنحاء اليمن، ونفذا العديد من الهجمات المماثلة الأخرى منذ ذلك الحين.
ولكن على الرغم من الجهود الهائلة، فإن النتائج لم تكن حاسمة على الإطلاق، ولا يزال الحوثيون يشكلون مصدر قلق للولايات المتحدة وحلفائها.
وفي الواقع، فشلت السياسات الأمريكية في كبح قوة الحوثيين وأنشطتهم في البحر الأحمر وداخلياً. وبدلاً من ذلك، ساهمت الجهود الأمريكية في استمرار الصراع في اليمن وتفاقم معاناة المدنيين في البلاد.
إن اليمن تعاني من واحدة من أخطر الأزمات الإنسانية في العالم، والتي تفاقمت بسبب الشلل السياسي الداخلي والتدخلات الخارجية التي فشلت في معالجة الأسباب الكامنة وراء الحرب. وتشمل هذه الأسباب مظالم سياسية طويلة الأمد، لا سيما التهميش التاريخي لمجموعات معينة (مثل الحوثيين، تاريخياً، وشعب الجنوب).
وقد تفاقمت الفوارق الاجتماعية والاقتصادية العميقة بسبب ارتفاع مستويات البطالة والفقر والفساد، فضلا عن الصراع الإقليمي على السلطة بين المملكة العربية السعودية وإيران والذي أدى إلى تأجيج الحروب بالوكالة في اليمن.
علاوة على ذلك، فإن الفشل في تنفيذ نتائج محادثات السلام السابقة -بما في ذلك مبادرة مجلس التعاون الخليجي والمحادثات التي تقودها الأمم المتحدة- ترك فراغاً لم يؤد إلا إلى تفاقم أعمال العنف.
لقد أدى التحالف اليمني المناهض للحوثيين، والمجزأ بسبب المصالح السعودية والإماراتية المتنافسة، إلى تقويض قدرة الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً على تحدي تمرد الحوثيين. وكل هذا مكن الحوثيين من تعزيز سيطرتهم، مما أدى إلى تعميق الأزمة.
•سياسة بايدن في اليمن
اتسمت سياسة إدارة بايدن في اليمن بعدم الاتساق: فقد ركزت في البداية على الإغاثة الإنسانية والدبلوماسية، ثم أعطت الأولوية للمشاركة العسكرية والعقوبات.
في البداية، تحولت من السياسة المتشددة لإدارة ترامب الأولى من خلال إنهاء الدعم الأمريكي للعمليات العسكرية الهجومية التي يشنها التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن.
وكانت المخاطر كبيرة، وكان الرئيس جو بايدن يدرك ذلك، ولتوجيه الولايات المتحدة خلال التغيير، عين مبعوثاً أمريكياً خاصاً لليمن يُدعى (تيم ليندركينج)، وكلفه بالعمل مع الأمم المتحدة لإنهاء الحرب وتحسين الوضع الإنساني.
كما ألغت إدارة بايدن تصنيف ترامب للحوثيين باعتبارهم "منظمة إرهابية أجنبية" وكإرهابيين عالميين محددين بشكل خاص (SDGT).
حيث كان هدف بايدن واضحاً وهو: إعادة ضبط الأولويات الأمريكية، وتوجيه المسار نحو نهج دبلوماسي أكثر توازنا للصراع المدمر في اليمن.
وعلى الرغم من هذه الجهود، ظل الحوثيون غير متعاونين، ورفضوا تقديم تنازلات.
لقد فاجأ تصعيد الحوثيين في أكتوبر 2023 من خلال هجمات الشحن البحري في البحر الأحمر إدارة بايدن وأجبرها على إعادة النظر في نهجها.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، أعلنت الولايات المتحدة عن إنشاء تحالف دولي – عملية حارس الرخاء – لعرقلة الهجمات البحرية للحوثيين.
ثم شنت القوات الأمريكية والجيوش المتحالفة معها غارات جوية على أهداف عسكرية رئيسية للحوثيين، بهدف شل قدرتهم على تنفيذ الهجمات.
وفي يناير/كانون الثاني 2024، اتخذت الإدارة خطوة مهمة أخرى وأعادت تصنيف الحوثيين رسمياً على أنهم "إرهابيون".
ووسعت وزارة الخزانة عقوباتها لتستهدف الأفراد والكيانات المرتبطة بشبكات المشتريات والتهريب التابعة للحوثيين.
وهكذا، حولت إدارة بايدن نهجها نحو تبني المشاركة العسكرية. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2024، أعلن وزير الدفاع الأميركي (لويد جيه أوستن ) عن استراتيجية جديدة قوامها "الردع والإضعاف"، وكانت الرسالة واضحة، حيث تركز الولايات المتحدة الآن على تفكيك القدرات العسكرية للحوثيين.
وكانت الخطوة الأولى عبارة عن سلسلة من الضربات المستهدفة على منشآت الأسلحة تحت الأرض التي يسيطر عليها الحوثيون.
تحتاج إدارة ترامب الثانية إلى استراتيجية لمعالجة القضايا الأعمق وتوفير أساس مستقر لمصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
لكن من المرجح أن تواجه الإدارة الجديدة تحدياً في الموازنة بين الحاجة إلى تأمين حرية الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن ومعالجة الأزمة الإنسانية وعدم الاستقرار السياسي في اليمن.
وقد تعقد هذا التحدي، الذي تواجهه الولايات المتحدة في اليمن منذ عام 2011، بسبب هجمات الحوثيين في البحر الأحمر.
لكن إعطاء الأولوية للحلول العسكرية يهدد بتفاقم الأزمة الإنسانية وتعميق عدم الاستقرار الإقليمي، وهذا يتطلب استراتيجية دبلوماسية لمعالجة قوة الحوثيين مع تجنب المزيد من زعزعة الاستقرار.
•الانتقادات للسياسة الأمريكية
لم تفشل العسكرة الأمريكية للبحر الأحمر في الحد من قدرات الحوثيين فحسب، بل شجعتهم عن غير قصد، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2024، أفاد فريق خبراء الأمم المتحدة المعني باليمن أن الحوثيين شنوا ما لا يقل عن 134 هجوماً من المناطق الخاضعة لسيطرتهم على سفن تجارية من العديد من البلدان، زاعمين أن السفن كانت متجهة نحو إسرائيل أو مرتبطة بها، وكذلك ضد الولايات المتحدة، والسفن الحربية البريطانية.
لم تكن هذه مناوشات بسيطة، فقد استخدمت بعض الهجمات صواريخ جديدة ومتطورة للغاية، مما يمثل تقدماً مذهلاً في القدرات العسكرية للحوثيين.
وكشف تقرير الأمم المتحدة أيضاً أن الحوثيين بدأوا في فرض رسوم غير قانونية على وكالات الشحن.
ويزعم أن هذه الرسوم تم تنسيقها من خلال شركة مرتبطة بأحد كبار قادة الحوثيين، وسمحت للسفن بالمرور عبر البحر الأحمر وخليج عدن دون التعرض للهجوم.
وبهذه الطريقة، حول الحوثيون الممرات المائية إلى مشروع مربح، حيث يجمعون ما يقدر بنحو 180 مليون دولار شهرياً من رسومهم غير القانونية.
وفي حين لم تتمكن الأمم المتحدة من التحقق بشكل مستقل من هذه الأرباح، فقد قدم تقريرها اقتراحاً مثيراً للقلق حول كيفية إيجاد الحوثيين لطرق للاستفادة من الصراع ذاته الذي شرعت الولايات المتحدة في احتوائه.
ومع تزايد التزام الجيش الأمريكي ضد الحوثيين في اليمن، أصبح من الواضح أن التركيز الأساسي كان على حماية المصالح الأمنية الإسرائيلية.
ولكن مع مرور الأشهر، أصبح من الواضح بشكل كبير أن هذا النهج العسكري كان له ثمنه.
فقد تم إهمال القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتجذرة في اليمن لصالح أهداف عسكرية قصيرة المدى.
وبدلاً من تخفيف المعاناة أو جلب الفصائل المتحاربة إلى طاولة المفاوضات، أدى الوجود العسكري الأمريكي إلى تغذية دائرة من العنف.
ويبدو أن الضربات الجوية والتدخلات العسكرية، رغم أنها كانت تهدف إلى حماية المصالح الاستراتيجية، الا انها تتجاهل المبادئ الإنسانية التي دافعت عنها الولايات المتحدة في السابق.
وفي النهاية، لم تقدم الاستراتيجية أي طريق واضح للسلام.
•تحديات الإستراتيجية الأمريكية في اليمن
كان الحوثيون يُعدوا قوة متنامية في اليمن لسنوات، ولكن في عام 2024، وصلت قدراتهم العسكرية إلى آفاق جديدة، ولم يعودوا معزولين، بل شكلوا تحالفات جديدة قوية.
إن اتصالاتهم العميقة مع روسيا ملحوظة بشكل خاص: فقد بدأت موسكو في تقديم المعلومات الاستخبارية العسكرية وبيانات الأقمار الصناعية إلى الحوثيين، وشملت المناقشات أيضاً عمليات نقل أسلحة روسية محتملة، بما في ذلك الصواريخ المضادة للسفن. لكن الحوثيين لم يتوقفوا عند موسكو، وتوسعت تحالفاتهم لتشمل الجماعات المسلحة العراقية مثل المقاومة الإسلامية في العراق، بل ووصلت إلى جماعات مثل حركة الشباب في الصومال. ولم تكن هذه الروابط تتعلق بالأسلحة فحسب: بل كانت تتعلق بالمصالح المشتركة والجهود المنسقة لتحدي القوى الإقليمية.
•التوجهات السياسية لإدارة ترامب القادمة
نظراً للقيود المفروضة على العمل العسكري الأمريكي -بسبب افتقار الرأي العام الأمريكي إلى الرغبة في المزيد من الصراعات وضعف حالة الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، واحتمال شن حملة عسكرية لتعزيز الحوثيين عن غير قصد- يجب على إدارة ترامب التركيز على الدبلوماسية والتفاوض والحلول السياسية باعتبارها الوسيلة الوحيدة القابلة للتطبيق لحل أزمة البحر الأحمر وتحقيق الاستقرار في اليمن.
ولمواجهة التحديات بشكل فعال، يجب على الولايات المتحدة أن تتبنى استراتيجية تتجاوز الإجراءات العسكرية الضيقة ضد البنية التحتية للحوثيين.
ويكمن العمل الحقيقي في معالجة الأسباب الأوسع التي تغذي العنف، وستكون الخطوة الحاسمة الأولى في غزة، حيث أن وقف إطلاق النار هناك من شأنه أن يقلل من الأعمال التي تؤجج التوترات.
بعد ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تتبنى نهجا جديدا في اليمن لمعالجة جذور قوة الحوثيين.
كانت إيران وروسيا وحركة الشباب والميليشيات العراقية تلعب جميعها دوراً في تعزيز التمرد الحوثي.
لكن ينبغي على إدارة ترامب ممارسة ضغوط دبلوماسية واقتصادية على هذه الجهات الخارجية لوقف دعمها العسكري والمالي للحوثيين.
وبالرغم من ذلك فإنه لن يكون كافيا، حيث يجب على الولايات المتحدة أن تدرك مدى إلحاح قطع خطوط إمداد الحوثيين بالأسلحة التي تعتمد على التهريب.
ويجب أن تركز على طرق التهريب الرئيسية في البحر الأحمر وخليج عدن، حيث تتسلل الأسلحة عبرها.
ويجب تكثيف عمليات الاعتراض البحرية والبرية، مما يزيد من صعوبة استمرار الحوثيين في تلقي الموارد العسكرية.
إن معالجة الانقسامات الداخلية في اليمن أمر بالغ الأهمية بنفس القدر، حيث يجب على الولايات المتحدة التركيز على نهج متكامل يوازن بين التدابير المناهضة للحوثيين والجهود المبذولة لمساعدة اليمن على إعادة بناء حكمه والمصالحة بين الفصائل المتنافسة. وهذا ضروري لتجنب تفاقم تجزئة البلاد.
وبخلاف ذلك، فإن اليمن يخاطر بأن يصبح راسخاً بشكل دائم كساحة معركة بالوكالة، عالقاً بين القوى الخارجية مع عدم وجود أمل في التوصل إلى حل داخلي.
و ينبغي على الولايات المتحدة أن تدعم الاستقرار السياسي والاقتصادي في اليمن، والذي بدوره يمكن أن يضمن الأساس لتعافي اليمن مع تعزيز الأمن الإقليمي.
اما بالنسبة لإدارة ترامب المقبلة، فإن الدروس المستفادة من الماضي واضحة.
حيث لا ينبغي للولايات المتحدة أن تعتمد بعد الآن على استراتيجيات مجزأة تعالج فقط أعراض الأزمة اليمنية. ومن أجل تغيير المسار في اليمن بشكل حقيقي، تحتاج الولايات المتحدة إلى معالجة القوى الأعمق التي تقف وراء الصراع.
إن مفتاح النجاح هو التعاون، حيث ينبغي على الولايات المتحدة أن تعمل جنباً إلى جنب مع الشركاء الدوليين والإقليميين لتطوير إطار موحد للسلام، إطار شامل ومستجيب لاحتياجات جميع الفصائل اليمنية.
وهذا يعني ضمان ألا تكون الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً حكومة صورية، بل سلطة فعالة وقادرة ولديها تفويض للقيادة. ويجب على الولايات المتحدة أيضاً الضغط على الجهات الإقليمية الرئيسية، وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لمواءمة جهودها في اليمن.
ولطالما كان التنافس بينهما عائقاً رئيسياً أمام أي وحدة ذات معنى في اليمن، ولن يتسنى لهم المساعدة في استقرار البلاد إلا من خلال وضع خلافاتهم جانبا وتنسيق جهودهم.
ومن خلال النفوذ الدبلوماسي الأمريكي، يمكن لهذه الجهات الفاعلة تشكيل إطار تعاوني يعالج التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي يواجهها اليمن.