الشرق الأوسط منطقة لا يمكن تجاهلها دون مخاطرة كبيرة.
وكما تم تهميش الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي من قِبَل المجتمع الدولي حتى أعادته مأساة 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى دائرة الضوء، كذلك الصراع السوري الذي شهد تجاهلاً لأربع سنوات قبل أن تعود الأضواء إليه أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني، عندما بدأت الجماعات المسلحة المعارضة بالتقدم من الشمال الغربي، مستولية على حلب ومستمرة نحو الجنوب.
و التطورات العسكرية في سوريا تهدد مصالح إيران، التي ترى نفسها الركيزة الرئيسية لإنقاذ الحكومة السورية. و تعتبر إيران أن اتفاق أستانا عزز سيطرة النظام على معظم البلاد، لكن تقدم المعارضة يعيد تشكيل خريطة السيطرة بشكل يومي.
و اتفاق أستانا بين تركيا وروسيا وإيران أسفر عن تقسيم فعلي لسوريا إلى مناطق نفوذ: ثلثا البلاد تحت سيطرة النظام، والشمال الشرقي تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، والشمال الغربي تحت سيطرة المعارضة المدعومة من تركيا. رغم ذلك، لم يستطع أي طرف السيطرة المطلقة، لكن إيران اعتبرت الوضع القائم مكسباً يضمن نفوذها على المدى الطويل نظير دعمها لحكومة الأسد.
و رأى المجتمع الدولي أن الصراع السوري يشهد حالة من الجمود، مدعومة بتراجع حدة القتال خلال السنوات الأربع الماضية. بعد نحو عقد من المعارك العنيفة بين قوات الحكومة والمعارضة، و خفت وتيرة العنف دون أن تتوقف تمامًا، حيث استمرت الضربات الجوية الروسية والسورية على إدلب، معقل المعارضة، في قتل ما يصل إلى 200 شخص شهريًا، بمن فيهم مدنيون، دون جذب انتباه عالمي يُذكر.
و تجاهل المجتمع الدولي وسائط الإعلام للوضع في سوريا، وثقة إيران بموقفها هناك، جعل الحملة العسكرية الحالية للمعارضة ضد قوات النظام والمجموعات المدعومة من إيران مفاجئة للجميع. ولكن هذه الحملة لم تكن وليدة اللحظة.
و رأت جماعات المعارضة تزايد نفوذ الميليشيات المدعومة من إيران، مثل استغلال حزب الله لمركز الدراسات والأبحاث العلمية في حلب لإنتاج الأسلحة. ومعظم جماعات المعارضة ذات الأغلبية السنية اعتبرت هذا التوسع الإيراني ومساعيه لتعزيز النفوذ الشيعي أمرًا غير مقبول على المدى البعيد.
كما تأثرت نظرة إيران للوضع الراهن بالعقوبات الأمريكية والأممية على جماعات معارضة شمال غرب سوريا مثل هيئة تحرير الشام، مما استبعد هذه الجماعات من محادثات الحل السياسي التي تقودها الأمم المتحدة. و افترضت إيران أن هذا سيحد من نفوذ تلك الجماعات سياسيًا إلى الأبد، لكن الحملة العسكرية الحالية تهدف إلى إعادة النظر في هذه العقوبات وفتح المجال لهذه الجماعات في المفاوضات المستقبلية.
ورغم أن بعض هذه الجماعات بدأت كحركاتٍ متطرفة دينية، إلا أنها تطورت لتسعى إلى تحقيق طموحات سياسية على المستوى الوطني.
و هيئة تحرير الشام تحولت من جماعة تابعة لتنظيم القاعدة تتنافس مع داعش على تمثيل نهج أسامة بن لادن، إلى كيان يتسم ببراغماتية سياسية وعسكرية. و أصبحت الهيئة تشكل سلطة فعلية في إدلب تحت اسم حكومة الإنقاذ. ورغم ذلك، لم تنجح هذه التحولات في إقناع المجتمع الدولي بشرعيتها كممثلٍ سياسي للشعب السوري، إلا أن الهيئة لا تزال تسعى للحصول على اعتراف دولي.
و التغيرات الإقليمية خلال العام الماضي، بما في ذلك تراجع نفوذ إيران في الشرق الأوسط نتيجة المواجهات مع إسرائيل، وفرت فرصة للمعارضة السورية لتغيير موازين القوى في سوريا لصالحها. وقد ساعد تراجع قدرة إيران وحزب الله على إرسال التعزيزات إلى سوريا في تحقيق مكاسب عسكرية للمعارضة.
و هذه التطورات تؤكد أن الصراع السوري لم يكن يومًا بالجمود الذي بدا عليه، كما تُظهر كيف أن تعثر عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة، والتي رأت فيها إيران فرصة لاستمرار حكم الأسد، أتاح للمعارضة تعزيز قدراتها العسكرية. ومع تراجع قدرة الجيش السوري القتالية، تتجه العوامل المحلية والإقليمية ضد مصلحة إيران.
و التطورات الحالية في سوريا تؤكد أن أي وضع قائم ليس دائمًا، طالما أن النزاع الأساسي لم يُحل. وبينما لن تتخلى إيران بسهولة عن نفوذها في سوريا، فإنها ستواجه في النهاية واقعًا جديدًا ساهمت هي نفسهافي صنعه.