شهدت الساحة السورية تطوّرات متصاعدة ومتسارعة في الأيام الخمسة الماضية، أدّت إلى تغيير واسع في خرائط السيطرة العسكرية والسياسية، قد يُسهم في كسر الجمود السياسي الذي ظلّ يهيمن على الملف السوري طوال 13 عامًا ونيف، ويعيد الأزمة السورية إلى دائرة الاهتمام الإقليمي والدولي. وتتسم هذه التطورات بطابعها المعقّد، حيث تداخلت المصالح الإقليمية والدولية مع التحركات الميدانية. وبالنظر إلى الأبعاد المختلفة لهذه التطورات، يظهر أن هذه الأحداث تحمل في طياتها فرصًا وتحديات قد تعيد تشكيل المشهد السوري بأسره، غير أنها في الوقت ذاته قد تفتح المجال أمام مزيد من التعقيد والتصعيد، في ظل غياب رؤية واضحة وإرادة للحل السياسي.
المناخ الإقليمي والدولي الذي شكل شرطًا مناسبًا لانطلاقة العملية
بدأت التطورات الأخيرة مفاجئة للبعض، رغم أنها لم تكن كذلك، إذ إن الحديث عنها كان يدور منذ أسابيع وشهور، وقد تجمّعت مجموعة من الظروف والشروط المحلية والدولية التي شكلت بمجموعها مناخًا مناسبًا لانطلاقها، من بعد جمود الوضع السوري المستمرّ على نحو خاص منذ العام 2020، وفشل آستانة وسوتشي واللجنة الدستورية في الوصول إلى أي حل للمسألة السورية، واستمرار قوات النظام وروسيا وميليشيات إيران و(قسد) في استهداف مناطق سيطرة الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام، واستمرار أزمة اللاجئين، ووجود رغبة تركية قوية في توسيع مناطق سيطرة فصائل المعارضة، كي يتمكن عدة مئات آلاف السوريين اللاجئين إلى تركيا من العودة إلى بيوتهم في محافظات حلب وحماة وإدلب. وقد التقت هذه الأمور مع رغبة فصائل الجيش الوطني ورغبة هيئة تحرير الشام في استعادة سيطرتهم على مناطق كانوا يسيطرون عليها قبل أن تطردهم منها قوات النظام المدعومة بقوات إيرانية وطيران روسي قبل بضع سنوات. ويشكل استمرار سيطرة البي واي دي، وهو فرع لحزب البي كي كي التركي المصنف إرهابيًا، على شرق الفرات وإقامة كيان شبه مستقل تعده تركيًا تهديد لأمنها القومي، يشكّل مصلحة لتركيا في استعادة فصائل الجيش الحر وهيئة تحرير الشام السيطرة على مناطق أوسع من الأرض السورية، مما يشكل ضغطًا على الأسد ونظامه، ويدفعه من جهة أخرى إلى تطبيع العلاقات مع تركيا، بعد أن أبدى الأسد على مدى عامين تقريبًا موقفًا متعنتًا من مسألة التطبيع هذه، على الرغم من ضغوط بوتين على الأسد، حيث خلق ذلك حالةً من التوتر بين موسكو والنظام السوري، إذ ترى موسكو أن النظام يعقّد الأوضاع بتحالفه المتزايد مع إيران التي لا يسرّها تطبيع الأسد مع تركيا، وعدم إبداء أي مرونة تجاه أي حل سياسي.
من جهة أخرى، كانت هذه العمليات الأخيرة، على نحو ما، إحدى منتجات عملية طوفان الأقصى وما نتج عنها من تغييرات في المنطقة، من حيث توجّه إسرائيل وأميركا لتحجيم نفوذ إيران في المنطقة وتدمير ميليشيا حزب الله وتوجيه ضربات موجعة لأذرع إيران العسكرية في سورية ولبنان، ما أدى إلى تراجع قدرتها على التأثير في المشهد السوري كما كان في السابق.
أما على الصعيد الدولي، فإن روسيا حليف النظام مشغولة بحربها على أوكرانيا، وثمة شبه فراغ في الرئاسة الأميركية، بين رئيس ذاهب غير قادر على اتخاذ قرارات صعبة، ورئيس قادم لم يتسلّم مقاليد الأمور بعد. وقد اجتمعت كل هذه الظروف لتخلق مناخًا مناسبًا لقيام هذه العملية التي يجري التحضير لها منذ عدة أشهر، وهي فرصة لم تكن لتفوّتها الفصائل المعارضة للنظام، ولا تركيا التي غدَت اللاعب الرئيس في المسألة السورية.
مجرى العمليات العسكرية الخاطف:
انطلقت غرفة عمليات “ردع العدوان”، بقيادة “هيئة تحرير الشام”، وهي تضمّ كلًّا من الجبهة الوطنية للتحرير، وحركة نور الدين زنكي، وجيش العزة، وغيرها، كما انطلقت غرفة عمليات “فجر الحرية” بمشاركة فصائل من الجيش الوطني، مثل فرقة السلطان سليمان شاه، وفرقة السلطان مراد، وجبهة البناء والتحرير وغيرها. وقد تأخّرت عملية “فجر الحرية” لتجنب الاحتكاك مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ولتفادي استفزاز روسيا، على الرغم من أن الجاهزية على جبهتي تل رفعت ومنبج كانت مرتفعة، ولم تبدأ العمليات حتى بادرت (قسد) بالسيطرة على مناطق واسعة، بعد أن أخلتها قوات الأسد في ريف حلب الشرقي وصولًا إلى مطار حلب الدولي، وهذا ما استفزّ تركيا، فأرادت لفصائل الجيش الوطني التقدّم من تادف.
كانت الوجهة الأولى للفصائل مدينة حلب التي سيطروا عليها بسرعة وسهولة، وهو أمرٌ لم يكن أحد يتخيله قبل أسبوع واحد فقط. وقد اتسمت العمليات بالسرعة، فقد انسحبت قوات النظام والميليشيات الإيرانية من مدينة حلب وريفها الغربي والشرقي وريف إدلب الجنوبي، وبدت قواتها فاقدة لإرادة القتال، وتجنبت المواجهة، وتركت خلفها كميات كبيرة من العتاد العسكري. وقد اتضح أن النظام بعد أن أدرك ضعفه في تلك المناطق البعيدة، قرر الانسحاب دون قتال، والتمترس في خطوط الاحتكاك السابقة شمال حماة، وهو يعزز استحكاماته وقواته في تلك المناطق.
واتسمت عمليات الفصائل بتطور نوعي، وأظهرت تحولًا نوعيًا في سير المعارك، وتفوقًا استراتيجيًا وتنظيمًا واضحًا، مقارنة بأدائها قبل سنوات سابقة، في مقابل ارتباك وتراجع كبيرين لقوات النظام. وقد استغلت الفصائل حالة الانهيار التي أصابت قوات النظام لتحقيق تقدّم سريع. وقد أخلت روسيا مواقعها الواقعة في هذه المناطق، ولم تقدّم إسنادًا جويًا كبيرًا لإعاقة تقدّم فصائل المعارضة المهاجمة، رغم أنها شنت بعض الغارات التي لم تؤدِ إلى تعطيل التقدم العسكري للفصائل.
تجنّبت فصائل المعارضة مهاجمة قوات الأسد وميليشيات إيران المنسحبة، ولم تسعَ للاشتباك معها ما دامت تغادر من دون قتال، ملتزمة بقاعدة “أقل قدر من الدماء”، مثلًا أتاحت الفصائل المعارضة لرتل من قوات النظام الانسحاب بسلام من منطقة الشيخ نجار، وسمحت بانسحاب مئات العسكريين الذين كانوا محاصرين في الأكاديمية العسكرية بحلب، وهذا ما جعل أعداد القتلى في الحدّ الأدنى.
أتاحت العمليات لفصائل هيئة تحرير الشام والجيش الوطني تقدّمًا سريعًا، استطاعت بموجبه السيطرة على مساحات شاسعة من محافظات حلب وحماة وإدلب، وهي تشمل نقاطًا عسكرية مهمة ومطارات عدة منها مطار كويريس ومطار حلب ومطار أبو ظهور. وعادت لخطوط التماس التي كانت قبل 2017، وتجاوزتها في بعض المناطق، إضافة إلى السيطرة على كامل حلب، ولم تكن قبل 2017 تسيطر في حلب إلا على الجانب الشرقيّ منها.
شبّه بعض المحللين ما جرى خلال الأيام الخمسة الماضية بأنه أقرب للسيناريو المسبق الصنع، وافتراض وجود تفاهم تركي روسي وموافقة أميركية على ما يجري. وكأن الاتفاق ينصّ على الوصول إلى خطوط التماس السابقة، قبل التدخل العسكري الروسي مع اختفاء تنظيم (داعش)، وذهبت بعض التحليلات إلى أن بوتين المزعوج من ولاء الأسد لإيران أراد أن يوجّه صفعة للأسد علّه يستفيق من الحلم الإيراني ويبدأ حلمًا روسيًا، وكأنه يقول للأسد: “أنت كنت هنا على خطوط التماس هذه، ونحن مكنّاك من مساحات واسعة، والآن نعيدك إلى ما كنت عليه مع سحب مدينة حلب من يديك، كي تعيد حساباتك من جديد”.
المواقف الإقليمية والدولية:
تباينَت مواقف الدول الإقليمية والدولية تجاه التطورات الأخيرة في سورية. فمن جهة تركيا، وقد باتت اللاعب الرئيس في المسألة السورية، بغض النظر عن تحليلات البعض بأن ما يجري هو نتيجة تفاهمات تركية روسية، فإن تركيا تقدّم دعمًا سياسيًا وإعلاميًا كبيرًا، ولها دور مباشر في تدريب فصائل الجيش الوطني وتقديم المشورة لها، وقد وصلت طلائع مؤسسات تابعة للحكومة التركية، مثل منظمة الإغاثة الإنسانية IHH و وقف الديانة التركي، إلى مدينة حلب، لتقديم المساعدات للسكّان، وظهر خبراء أتراك في مدينة حلب مباشرة بعد السيطرة عليها.
أما إيران فقد أقلقتها التطورات الأخيرة، واعتبرتها “جزءًا من مخططٍ إسرائيلي”، وتبذل قصارى جهدها للوصول إلى تهدئة تُوقف الفصائل عن التقدم، وقد سارع وزير خارجيتها إلى زيارة دمشق، ثم انتقل إلى أنقرة، غير أنه قد عاد بخُفّي حُنين، كما يبدو، وقد سعَت إيران لإرسال قوات من العراق لدعم الأسد، ولكن هذا الرتل تعرّض لقصف جوي من طائرات مجهولة يُعتقد أنها تعود للتحالف الدولي. وبالمقابل، كانت ردة فعل رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني (المحسوب على الولايات المتحدة)، على طلب الأسد الدعم من العراق، هي إغلاق حدود العراق مع سورية عسكريًا ومدنيًا بشكل تام.
يشير سلوك روسيا تجاه ما يجري إلى أن هناك حالة من الموافقة على ما يجري، خاصة أنها لم تزد من الدعم الجوي للنظام، وليس هناك موقف روسي قوي وواضح يدين ما يجري، وقد قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن موسكو تعتبر الهجوم انتهاكًا لسيادة سورية، وتريد من السلطات سرعة التحرك لاستعادة السيطرة هناك، ولكن من جهة أخرى يقوم الطيران الروسي بقصف مناطق سيطرة الفصائل المعارضة في حلب وإدلب.
تسعى الولايات المتحدة لتعزيز موقف المعارضة، عبر زيارات دبلوماسية وصحفية لمناطقها، وقد رفضت واشنطن السماح بوصول المساعدات للنظام عبر العراق، حيث قامت بقصف رتل عسكري كان يتجه نحو العمق السوري. أما بيان البيت الأبيض، فقد اعتبر أن نظام الأسد، الذي يرفض المشاركة في العملية السياسية الموضحة في قرار مجلس الأمن رقم 2254، يتحمّل المسؤولية عن التطورات الأخيرة، وفي الوقت ذاته، أشار البيان إلى أن “هيئة تحرير الشام” التي تقود هذا الهجوم هي منظمة مصنفة إرهابية.
قال وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، إنه “لا يوجد طرف جيد” في الصراع المتطور بشكل سريع داخل سورية. وقد عُقد اجتماع للجنة الوزارية الأمنية، وقدّم الشاباك تقريرًا عن الأوضاع في سورية، وعكس قلق إسرائيل من سقوط النظام السوري في هذه المرحلة، بما يعكس قلقها من تسارع هذه التطورات العسكرية على الأرض، وقد حذّرت إسرائيل الأسد من اللعب بالنار، ودعم وجود إيران وأذرعها في سورية.
أعربت معظم التصريحات الأوروبية عن قلق دول الاتحاد من توسّع المعارك الحالية، دون إدانة العمليات، وشددت كالعادة على ضرورة احترام حقوق الإنسان وحماية المدنيين.
وبينما أعرب أحمد أبو الغيط، الأمين العام للجامعة العربية، عن انزعاجه من التطورات المتلاحقة التي تشهدها سورية، اعتبر غير بيدرسون أنّ “ما نراه في سورية اليوم هو دليلٌ على الفشل الجماعي في تحقيق ما كان مطلوبًا بوضوح منذ سنوات عديدة، وهو عملية سياسية حقيقية لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015)، وهناك حاجة إلى انخراط الأطراف السورية والأطراف الدولية الرئيسية بجدية في مفاوضات حقيقية وجوهرية لإيجاد مخرج من الصراع. بدون ذلك، ستكون سورية معرضة لخطر المزيد من الانقسام والتدهور والدمار”.
في كل هذا المعمعة، يغيب الأسد عن المشهد، وكأن ما يجري يحدث في بلد آخر، واكتفى النظام ببيانات تصديه لما يسميه “المجموعات الإرهابية”، وإيقاعه خسائر بهم، وقد نشرت رئاسة الجمهورية في النظام السوري خبرين عن اتصالاتٍ أجراها بشار الأسد مع الرئيس العراقي ومع الرئيس الإماراتي، ولم يكن هناك تصريح واضح من البلدَين عن طبيعة الدعم للنظام في هذا المأزق. ويبدو أن الأسد قد بات يخشى ألاّ يخرج سالمًا من المواجهة الإسرائيلية الإيرانية، وكان يظن أنه نجح، وقد بات يخشى أن يُرغم على قبول تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015، بعد تسع سنوات من صدوره، والقبول بانتقال سياسي، وتتعاظم مخاوفه بعد أن رأى “حزب الله” يستسلم ويقبل تنفيذ ما هو أكثر من القرار 1701 لعام 2006، بعد 18 عامًا من إصداره.
غياب من يمثّل المعارضة السياسية:
تفتقر القوى المعارضة السياسية للأسد إلى ممثل فاعل مسموع الرأي، فالائتلاف مع حكومته المؤقتة قد غدا هامشي التأثير ويفتقر إلى الإمكانات والقدرات، وتفتقر جميع القوى التي تحارب الأسد ونظامه إلى برنامج سياسي يحدد توجههم وهويتهم بعيدًا عن العصبوية المادون وطنية، وفصائل الجيش الوطني متعددة ومشرذمة، وتفتقر إلى القيادة الموحدة والعمل الموحد، وتفتقر إلى البرنامج المعلن لسورية القادمة، والقوى الديمقراطية مشتتة وغائبة، ولا دور ولا كلمة موحدة لها وليس هناك من يمثلها أو ينطق باسمها.
في هذا الواقع، تبرز كل من هيئة تحرير الشام والبي واي دى والنظام، كثلاثة أطراف مركزية لديهم قوى عسكرية وقيادة مركزية موحدة، مما يعني توجه القوى الدولية إلى اعتبار هذه الأطراف هي القادرة على الجلوس على الطاولة لمناقشة مصير سورية وشعبها، في حين تغيب القوى الديمقراطية عن المشهد.
ردة الفعل المجتمعية:
أثارت السيطرة السريعة والمفاجئة لمناطق واسعة في الشمال السوري وصولًا إلى قرب مدينة حماة، ردود فعل مجتمعية واسعة متباينة، فقد نشرت الفرح بين قطاعات واسعة من السوريين، وخاصة أولئك الذين نزحوا عن بيوتهم نحو الشمال، أو لجؤوا إلى دول الجوار، أو إلى دول بعيدة، وجددت الأمل بين النخب السورية بأن مسار الثورة السورية يُستعاد، وأن نهاية النظام باتت قريبة، أو أن الحل السياسي لن يكون بعيدًا، بينما أثارت من جهة أخرى قلقًا أو حذرًا في أوساط أخرى، وخاصة بسبب الخلفيات الأيديولوجية والعصبية، سواء لهيئة تحرير الشام أو حتى لفصائل الجيش الوطني، ولا سيما أن هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ التابعة لها تتصرف كحاكم لمدينة حلب، وتطرح نفسها لتولي إدارتها، بينما ترى هذه الأوساط النموذج المتشدد الذي طُبّق في إدلب أو الفوضى التي اتسمت بها مناطق سيطرة فصائل المعارضة غير صالح للتطبيق في سورية القادمة.
غير أن سلوك فصائل غرفتي العمليات في المناطق التي سيطروا عليها مجددًا، اتسم بالانضباط والحرص على ضبط الأوضاع وتجنب الانتهاكات وحماية المدنيين، والحرص على تأمين الاستقرار والعمل على تأمين الخدمات، وبرز هذا في حلب خاصة، وهي المدينة الثانية في سورية وعاصمتها الاقتصادية، وهي تضم العرب السنة والمسيحيين العرب والكرد والتركمان والأرمن والسريان والشيعة والعلويين، وساعد في ذلك أن العناصر التي دخلت حلب كان معظمهم من أبناء حلب، إذ أسهم ذلك في تعزيز الثقة بين الفصائل والأهالي. وبدا من الواضح أن عناصر الفصائل تلقّت أوامر صارمة بالحرص على سلامة السكان وتأمين خدماتهم. وقدّمت الفصائل تطمينات لمختلف مكونات المجتمع الحلبي، وكذلك لسكّان بلدتي نبل والزهراء.
يشير سلوك الفصائل المنضبط إلى أن جميع الفصائل تعي أن المجتمع الدولي يراقب ويقيم سلوكها في المناطق التي يسيطرون عليها، وأن سلوكها هذا سيُحدد موقف المجتمع الدولي منها، ولا سيما هيئة تحرير الشام، بقيادة أبو محمد الجولاني، الذي تسعى دوائر الغرب منذ بضع سنوات لدفعه نحو تغيير سلوكه ونهجه باتجاه أقل تشددًا، وبات من الواضح أن الجولاني يدرك ذلك جيدًا، وهو يدرك مصير النهج المتشدد، وقد رأى مصير حزب الله والقاعدة وداعش وغيرها. ويريد أن يرسم لنفسه مستقبلًا في سورية القادمة، ويعلم أن هذا لن يكون ما لم يقبله الغرب. غير أن مساعيه للتحوّل نحو الوسطية تصطدم بأساس عقيدته التي بنى عليها تنظيمه، وما زالت العقيدة المتشددة تشكل أساس لحمة تنظميه، وقد اعترضت بعض المجموعات المتحالفة معه وبعض قياداته على مساعيه نحو تخفيف التشدد، واصطدمت معه مما اضطره إلى استبعادها.
تختلف الصورة في المجتمعات الأخرى التي لا تشملها سيطرة الفصائل المعارضة، حيث تسود أجواء بين القبول والأمل بقرب نهاية الأزمة، وبين القلق والحذر، والخوف أحيانًا. وسكان الساحل، على سبيل المثال، يشعرون بالخوف من ضعف قدرة النظام، مما دفع بعضهم إلى تشكيل ميليشيات محلية، وأرسل العديد من الضباط العلويين عائلاتهم من دمشق إلى الساحل. وفي دمشق، تسود حالة من الترقب، حيث يعبّر بعض السكان عن تفاؤل بإمكانية التغيير لتحسين الأوضاع المعيشية المتدهورة، فيما تبدو الأمور طبيعية في الظاهر دون أي تغيير ملموس. ومما يثير خشية أوساط واسعة من السوريين، سيادة لغة الجهاد والمجاهدين في أوساط الفصائل المعارضة، وسيادة الخطب الدينية التي يتم تداولها على نحو واسع على وسائل التواصل.
تحدي بناء نموذج حوكمي:
يترافق توسّع سيطرة الفصائل المعارضة على مناطق جديدة واسعة في سورية، مع فقدان معظم السوريين الثقة بنظام الأسد وقدرته على إبداء أي مرونة للوصول الى حل سياسي، وفشله في تأمين أدنى شروط العيش بكرامة للسوريين الذين بقوا في مناطق سيطرته، ويتطلع معظمهم إلى التغيير، ويأمل أن تفتح الأحداث الأخيرة أبواب التغيير القريب. وهذا يضع تحديًا صعبًا على الفصائل المعارضة، في إقامة حوكمة رشيدة في المناطق التي يسيطرون عليها الآن، وهو ما سيعدّ نموذجًا للحوكمة التي سيقيمونها في مناطق سيطرتهم السابقة واللاحقة. وثمة قلق خفيّ لم يعبّر عنه بعد، فمن جهة لم تقدّم الفصائل المعارضة برنامج عمل وطني واضح ومحدد وشامل يمكن قبوله من معظم السوريين. ومن جهة أخرى، فإن النموذج الذي تقيمه هيئة تحرير الشام في إدلب منذ سنوات لا يعدّ نموذجًا مقبولًا لدى معظم السوريين. كما أن فصائل الجيش الوطني أو الجيش الحر من قبل فشلت في إقامة تجربة إدارة ناجحة، تصلح لأن تكون نموذجًا لإدارة سورية الجديدة.
لذا، تعدّ إدارة مدينة حلب بعد السيطرة عليها تحديًا أمام فصائل المعارضة، واختبارًا في كيفية إدارة المدينة، وسينظر إلى ذلك كنموذج لهويتها الحوكمية القادمة، بالنظر إلى التنوع العرقي والديني الكبير في المدينة، ولا سيما أن هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ التابعة لها تتصرف كحاكم لمدينة حلب، وسيطرت على المرافق الأساسية في المدينة وعلى المدارس العسكرية وعلى المؤسسات العامة، وكأنها الحكومة الواقعية لكافة المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المعارضة، وتصدر حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام القرارات والبيانات، وترسل رسالة إلى الرئيس العراقي، بينما الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف غائبة عن الأحداث.
تتطلب هذه المرحلة الجديدة سياسة وطنية جامعة، وإقامة نموذج حوكمة مدني يقوم على إرادة السكان الحرة بانتخابات حرة دون إكراه بذرائع دينية أو مذهبية أو إثنية أو إيديولوجية، سواء في حلب أو في بقية المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المعارضة، نموذج حوكمة رشيد يقوم على الحريات العامة في التعبير والتنظيم وقيم المواطنية المتساوية، ويسمو على العصبيات المادون وطنية التي نمت خلال العقود السابقة، بسبب سياسات النظام التمييزية منذ 1963، التي تصاعدت بعد 2011 بسبب سياسات النظام وجرائمه، وبسبب ردة فعل عصبوية مشابهة غير واعية، وتغذيته من قبل متطرفين جاؤوا إلى سورية من كل حدب وصوب، مما يجعل مهمة إقامة حوكمة وطنية سورية جامعة أمرًا في غاية الأهمية، رغم أنه سيواجه تحديات كبيرة.
تصلح حلب اليوم لإقامة هذا النموذج الحوكمي، كاختبار يُبنى عليه، ويمكن البدء بتشكيل مجلس يمثل المجتمع الحلبي، مستعينين بممثلين عن النقابات وغرف التجارة والصناعة وممثلين عن كافة مكونات سكان حلب، وأن يكون ذلك المجلس صاحب السلطة الفعلية على الحياة المدنية، مع إشراك موظفي الدولة السابقين في عملية الحوكمة، بدلًا من اعتبارهم خصومًا، وبناء مؤسسات أمنية وقضائية خاضعة للمساءلة، وأن يكون الجميع خاضعًا للمساءلة، وتملك حلب من الكفاءات ما يزيد عن حاجتها لبناء إدارة مدنية تمثل بحق سكان حلب. وأن تتولى الفصائل الجانب العسكري وتحقيق الأمن والاستقرار. ويمكن للجانب التركي تقديم مساعدة ثمينة في إقامة هذه الحوكمة الرشيدة، كما يتطلب هذا تعاونًا استراتيجيًا مع الجهات الدولية الأوروبية والأميركية خاصة.
إن نجاح المعارضة في بناء هذه الهياكل يمكن أن يكون خطوة حاسمة نحو ضمان استقرار المنطقة، وتعزيز شرعية سلطة المعارضة في مناطق سيطرتها، والحصول على اعتراف دولي واقعي بسلطتها، واستبعاد مناطقها من العقوبات الدولية، مما يسهم في تحسين مستويات الحياة في هذه المناطق بشكل كبير.
آفاق تطور الأوضاع في سورية:
ما زالت التطورات جارية الآن على الأرض، ويصعب وضع تصوّر محدد الآن، يبيّن إلى أين تمضي الأمور وكيف ستستقر. وتبدو الملامح الأولى وكأن ثمة توافقًا للعودة إلى خطوط تماس ما قبل 2017، وهو أمر مرجّح، إذا ما توقفت المعارك عند الوضع الحالي، ومن دون أن تدخل الفصائل المعارضة مدينة حماة، وقد يكون هذا بداية لجمود آخر يستمر بضع سنوات أخرى، أو لعلّه يكون حالة جديدة ضمن مناخات الصراع الإقليمية الجديدة، وضعف إيران وانشغال روسيا في أوكرانيا، مما قد يفتح الباب لتوافق إقليمي دولي، يؤدي إلى إنجاز حل سياسي يقوم على انتقال سياسي يعيد وحدة سورية، ويفتح أبواب مستقبل جديد. ويرجح هذا الاحتمال في استمرار الروس في الاعتماد على تركيا في سورية أكثر من إيران التي يبدو أنها لن تستسلم بسهولة.
من جانب آخر، ثمة مخاوف إقليمية ودولية وسورية من انهيار النظام، الذي قد ينجم عن استمرار الضغط العسكري والمعنوي عليه، ما يفتح المجال أمام تطورات سياسية غير متوقعة. وستوضح معارك الأيام القليلة القادمة إلى أين تمضي الأحداث، غير أن السيناريو الممكن لن يتوضح قبل أن يتسنّم ترامب الرئاسة الأميركية.