أعلن زعيم الحوثيين في اليمن عبدالملك الحوثي في خطاب ألقاه بعد أيام من الانتخابات الرئاسية الأمريكية، أن هجمات الجماعة على الشحن في البحر الأحمر وضد إسرائيل ستستمر حتى يتم تأكيد وقف إطلاق النار في غزة ولبنان.
وقال: "لن يتمكن ترامب ولا بايدن ولا أي مجرم في هذا العالم من إبعادنا عن مبدأنا وموقفنا الثابت".
ورغم أن الخطاب لم يكن مفاجئاً، إلا أنه كان بمثابة تذكير بالحقائق في اليمن التي تنتظر (كامالا هاريس) أو (دونالد ترامب) في البيت الأبيض. ومع عودة ترامب إلى السلطة، فإن احتمالات تبني نهج أميركي أفضل في التعامل مع اليمن قد تضيع.
فإن ما يحتاج إليه اليمن حقاً هو استراتيجية تتجاوز صراعات القوة المتنافسة، أي (دعوة إلى شراكة حقيقية في السعي إلى تحقيق السلام والاستقرار ).
لفترة طويلة جداً، بدءاً من رئاسة باراك أوباما وحتى فترة ولاية ترامب الأولى وإدارة جو بايدن، كانت الولايات المتحدة تقريباً ترى اليمن من خلال عدسة المصالح الأمنية للمملكة العربية السعودية. وقد سمح هذا المنظور الضيق للمملكة العربية السعودية بتشكيل المسار السياسي لليمن بشكل فعال بعد الربيع العربي في عام 2011، من خلال مبادرة مجلس التعاون الخليجي للانتقال السياسي بعد سقوط الرئيس علي عبد الله صالح الذي حكم البلاد لفترة طويلة. وبفضل وجهة نظر السعودية تجاه اليمن، تمكنت واشنطن لاحقًا من التدخل العسكري بقيادة السعودية في اليمن في عام 2015.
عندما اندلعت هجمات الحوثيين على سفن الشحن في البحر الأحمر العام الماضي رداً على الحرب الإسرائيلية القاسية في غزة، اتخذت الولايات المتحدة موقفاً كَ رد الفعل، واستهدفت بشكل ضئيل المصالح العسكرية الحوثية بدلاً من معالجة القضايا الأوسع نطاقاً والأساسية، مثل الحاجة إلى وقف إطلاق النار في غزة للحد من التوترات في جميع أنحاء المنطقة وحل التفتت السياسي المتعمق في اليمن.
فلا ينبغي لواشنطن أن تستمر في تهميش الحقائق السياسية والاقتصادية الفريدة في اليمن، ولكن هناك القليل من الأمل في أن تغير إدارة ترامب الجديدة أي شيء.
بعد سنوات من السياسات المتناقضة في بعض الأحيان - بما في ذلك النهج المتناقض لعملية السلام المتوقفة منذ فترة طويلة في اليمن والمشاركة في العمليات العسكرية التصعيدية في إطار مبادرات مثل عملية حارس الرخاء، والتحالف البحري بقيادة الولايات المتحدة في البحر الأحمر - لقد أضعفت الولايات المتحدة مكانتها في اليمن بشدة.
فوسط دعم الولايات المتحدة لحرب إسرائيل في غزة، حيث تساهم الأسلحة المصنوعة في أمريكا في إبادة جماعية محتملة، لا يرى اليمنيون سوى القليل من الأسباب للثقة في نوايا الولايات المتحدة.
إن هذا التصور لتواطؤ الولايات المتحدة في العنف لا يؤدي إلا إلى تأجيج المشاعر المعادية لأمريكا، مما يلعب بشكل مباشر في أيدي جماعات مثل الحوثيين والقاعدة في اليمن، والتي تستغل انعدام الثقة هذا لتجنيد ونشر رواياتها الخاصة عن العدوان الأمريكي.
فقد كانت الولايات المتحدة ستكافح لاستعادة مصداقيتها في اليمن تحت إدارة (هاريس)، وستكون الفرص أقل في عهد ترامب.
إن السياسة الأميركية في اليمن لابد وأن تتجاوز القوة العسكرية.
فقد كافح الرؤساء الأميركيون منذ عهد أوباما من أجل تحقيق التوازن بين المصالح الأميركية في اليمن والحاجة إلى الاعتراف بسيادة اليمن وإعطاء الأولوية للاستقرار للأمد البعيد.
ولقد ركزت واشنطن بشكل كبير على الأهداف الأمنية القصيرة الأجل ــ والتي تشكلها في كثير من الأحيان مصالح المملكة العربية السعودية ذاتها ــ على حساب رؤية أطول أمداً تعالج الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار وتحاول بناء شراكة أكثر استدامة مع الأطراف اليمنية.
تشكل هجمات الحوثيين المستمرة في البحر الأحمر مخاطر كبيرة على المصالح الأمريكية والاستقرار الإقليمي والبحرية الأمريكية نفسها. حيث تهدد هذه الهجمات الأمن البحري من خلال تعريض حرية الملاحة عبر مضيق باب المندب للخطر، وهو نقطة حاسمة للتجارة الدولية وطُرق إمدادات الطاقة، ومعها مصالح الولايات المتحدة في ممرات الشحن الآمنة.
وأدت الهجمات إلى زيادة تكاليف الشحن وأوقات عبور أطول، مما أدى إلى تعطيل ليس فقط الشركات الأمريكية ولكن حتى لسلاسل التوريد العالمية، مع تداعيات اقتصادية أوسع نطاقا في جميع أنحاء العالم.
ومع هجمات الحوثيين شبه اليومية، تحولت مهمة البحرية الأمريكية في البحر الأحمر إلى " المعركة البحرية الأكثر كثافة التي واجهتها البحرية منذ الحرب العالمية الثانية"، فكما قال قادة البحرية والخبراء لوكالة (أسوشيتد برس). إن التهديد الذي تتعرض له القوات الأمريكية شديد بشكل خاص بالنظر إلى ترسانة الحوثيين المتزايدة من الصواريخ والطائرات بدون طيار، كما يتضح من الاشتباكات واسعة النطاق مثل هجوم الحوثيين على السفينة الأمريكية (يو إس إس لابون (USS Laboon)) في يناير الماضي.
وتزعم قوات الحوثيين أن جميع القواعد والأساطيل البحرية الأمريكية في المنطقة أصبحت الآن في مرمى صواريخها.
وتتزايد تكاليف الجهود العسكرية الأمريكية لردع هذه الهجمات.
فمنذ 7 أكتوبر 2023، أنفقت الولايات المتحدة 4.86 مليار دولار على العمليات العسكرية في اليمن والمنطقة الأوسع في البحر الأحمر وخليج عدن. ولا تزال هجمات الحوثيين مستمرة؛ ولم يتم "ردعهم" كما خططت الولايات المتحدة للقيام به. وفي الوقت نفسه، فإن قدرة الحوثيين على تسهيل المرور الآمن للشحن في البحر الأحمر المتحالف مع الصين وروسيا، مع استهداف السفن من الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة، يمكن أن تؤدي إلى تحويل التحالفات الاقتصادية الإقليمية من خلال تقويض ركيزة أساسية من ركائز السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
أدت هجمات الحوثيين ضد إسرائيل بسبب الحرب في غزة إلى تضخيم نفوذهم في اليمن وخارجه، مما جعلهم متحالفين مع الحركات الإقليمية المناهضة للولايات المتحدة، والمشاعر المعادية لإسرائيل. ومن خلال مهاجمة السفن الأمريكية والبريطانية بشكل مباشر رداً على الحرب الإسرائيلية، عزز الحوثيون دورهم داخل ما يسمى بكتلة "المقاومة" المكونة من الميليشيات الإقليمية المدعومة بدرجات متفاوتة من إيران، مع احتمال أن يحل الحوثيون محل حزب الله. باختصار، وضع الحوثيون أنفسهم كلاعب مركزي ضد المصالح الإقليمية المتحالفة مع الولايات المتحدة.
ولمعالجة تهديدات الحوثيين وأمن البحر الأحمر، يجب على الولايات المتحدة بناء مصداقيتها في اليمن، والتي لا تتعلق ببساطة بالتراجع عن التدخلات العسكرية أو النأي بنفسها عن الصراعات؛ بل يتعلق الأمر أيضًا بفهم ودعم المشهد الاجتماعي والسياسي الداخلي في اليمن. ويتضمن النهج الجديد، الاستثمار في جهود بناء السلام المحلية، ودعم المبادرات التي يقودها اليمنيون، ومعالجة القضايا الاقتصادية التي تغذي الدعم لجماعات مثل الحوثيين وتنظيم القاعدة.
حيث يمكن للولايات المتحدة أن تستعيد بعض الثقة من خلال احترام الحكم الذاتي لليمن وتسهيل الحلول التي تعترف بالسياق التاريخي الغني والمعقد لليمن وقدرته على تقرير المصير. وللتعامل مع كل هذه القضايا، ستحتاج واشنطن إلى الانخراط في اليمن بتواضع، والاعتراف بضرر السياسات السابقة.
ويتطلب إصلاح هذه العلاقة الممزقة التزاماً صادقاً بتعزيز السلام وليس تعزيز الصراع، إذا كانت الولايات المتحدة تأمل في استعادة أي مظهر من مظاهر الاحترام أو النفوذ في اليمن والمنطقة الأوسع.
إذا كانت الولايات المتحدة تريد إظهار التزام صادق بتعزيز السلام، فيتعين عليها أن تطبق سياساتها بشكل موحد في جميع أنحاء المنطقة. ولهذا السبب فإن الخطوة الأولى ستكون دعم وقف إطلاق النار الذي طال انتظاره في غزة. ويتعين على الإدارة المقبلة أن تعترف بحدود القوة الأميركية؛ أما ما إذا كان ترامب سيفعل ذلك فهذه مسألة أخرى. لكن من الواضح في اليمن، أن الضربات الجوية الأمريكية وعمليات الانتشار البحري في البحر الأحمر "لردع" هجمات الحوثيين أثبتت عدم فعاليتها. ومن غير المرجح أن تأخذ إدارة ترامب القادمة هذه المشاكل الطويلة الأمد في الاعتبار في السياسة الأمريكية نظرا لأولوياتها الأخرى، فضلا عن احتمال أن يكون ترامب مدينا للمملكة العربية السعودية أكثر من أي رئيس أمريكي آخر.
سوف تعاني اليمن واليمنيون، فبدلاً من اتباع نهج أمريكي أكثر توازناً تجاه اليمن والذي يمكن أن يشمل دعم جهود بناء السلام التي يقودها اليمنيون ومعالجة الصعوبات الاقتصادية التي تغذي دعم الحوثيين، قد نشهد تورطا عسكرياً أمريكياً أعمق، ذلك نظراً لسجل ترامب خلال فترة ولايته الأولى، بما في ذلك استخدام حق النقض ضد قرار من الحزبين لإنهاء التدخل الأمريكي في الحرب التي تقودها السعودية في اليمن.
في ظل ولاية ترامب للمرة الثانية، هناك فرصة ضئيلة لأن تسعى الولايات المتحدة إلى استعادة مصداقيتها في اليمن وإعطاء الأولوية لسيادة اليمن على مصالح القوى الإقليمية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وكلاهما يبدو وكأنه يفضل (ترامب) على (بايدن) و (هاريس) بقوة. ولإعادة تحديد دورها في اليمن، يجب على الولايات المتحدة إعادة تحديد سياستها في اليمن، وهي سياسة تهدف إلى مسار مستدام للاستقرار، بدلاً من المزيد من التدخل العسكري الذي لا يؤدي إلا إلى تغذية المزيد من الاضطرابات والبؤس لليمنيين، لكن أي فرصة لتغيير سياسة الولايات المتحدة ربما يتعين عليها الانتظار أربع سنوات أخرى من الان.