[ موقع Alamy ]
مع فوز الرئيس دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية وعودته المرتقبة إلى البيت الأبيض، سَيتعيّن على واشنطن رسم مسار جديد للدفع من أجل إرساء السلام في اليمن وتصحيح سنوات من الحسابات الأمريكية الخاطئة.
قبل أربع سنوات تقريباً، أعلنت إدارة الرئيس جو بايدن – المنتخبة حديثا آنذاك – إنهاء الحرب في اليمن كأولوية ملحة، مُعيّنة تيم ليندركينغ – وهو دبلوماسي مخضرم وبارز في وزارة الخارجية الأمريكية – مبعوثاً خاصاً مُكلّفا بمتابعة جهود إحلال السلام في اليمن، ظناً منها بأنها سهلة المنال.
في بداية الصراع، دعمت الولايات المتحدة التحالف بقيادة السعودية بالأسلحة والمعلومات الاستخباراتية والدعم اللوجستي، قبل أن تُقلّص دعمها نسبياً مع تحوّل الحملة العسكرية ضد الحوثيين إلى مأزق امتد لسنوات عجاف، وتسبب في كارثة إنسانية في اليمن. بحلول أوائل عام 2021، بدأ الحوثيون في الزحف مرة أخرى إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة وفرضوا أنفسهم كتهديد للأمن القومي السعودي من خلال شن هجمات مستمرة عبر الحدود. ساهم الدعم الإيراني الاستراتيجي للجماعة، الذي صُمّم بإتقان وتنامى مع استمرار الحرب، في تحوّل الحوثيين من جماعة مسلحة معزولة إلى فاعل إقليمي قادر على استهداف الرياض.
بدا واضحا أن إدارة بايدن استهانت بالوضع والحسابات في اليمن، حيث فشلت الولايات المتحدة تحديداً في تقديرها لأحد التحديات الجوهرية التي تقف حجر عثرة أمام الصراع في اليمن – ألا وهو التنافس المحتدم في الساحة اليمنية بين حليفتيها الرئيسيين في منطقة الخليج – السعودية والإمارات – والذي حال دون توحيد قيادة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا، وقدرتها على تقديم نفسها كطرف قوي قادر على ردع الحوثيين.
بوجود حكومة ضعيفة، لم يكن لدى الحوثيين أي حافز للتفاوض معها، رُغم مساعي السلام المستمرة من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة ودول غربية أخرى، ومع استمرار تدهور الوضع في معسكر الحكومة، توقفت الولايات المتحدة في نهاية المطاف عن الحديث عن تسوية للصراع اليمني واكتفت بتصريحات وبيانات باهتة، تاركة الأمر للسعوديين للتعامل مع الملف على طريقتهم.
من جهتها، لم ترغب السعودية بحلّ عسكري للصراع، علماً بأن الرياض فشلت عدة مرات في توفير الأسلحة اللازمة لشركائها اليمنيين لتغيير ميزان القوى على الأرض. كان السعوديون قلقين جزئيا من أن تخرج الحكومة التي يهيمن عليها حزب الإصلاح بجيش قوي بعد انتهاء الحرب؛ ففي عام 2021، أسرّ لي قيادي في حزب الإصلاح أنهم حين طلبوا من السعوديين دبابات وناقلات جنود مدرعة، جاء الردّ السعودي: “لن نعطيكم أسلحة قد تستخدمونها ضدنا يوما ما”. عوضاً عن ذلك، تغيّرت مقاربة السعوديين، حيث سعوا إلى إبرام صفقة مع الحوثيين وتهيئة الحكومة للتفاوض مع الجماعة لإنهاء الصراع.
كجزء من الجهود المبذولة للتعامل مع عجز الحكومة وتهيئتها للدخول في محادثات السلام آخر المطاف، رتّبت الرياض استبدال الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي بمجلس قيادة رئاسي، إلاّ أن محاولة المملكة الالخرقاء لإصلاح القيادة السياسية للحكومة اليمنية كانت فاشلة.
كان مجلس القيادة الرئاسي – ولا يزال – كياناً هلاميا غير مُنظّم وبدون مهام واضحة ولا لوائح داخلية تحكم آلية عمله ولا توصيف وظيفي لأعضائه الثمانية. في غضون ذلك، رأت الإمارات أن مصالح أمنها القومي تتعزز ببقاء السعودية عالقة في المستنقع اليمني، وبالتالي دعمت المجلس الانتقالي الجنوبي والجماعات المسلحة الأخرى الرافضة للانضواء تحت مظلة قيادة موحدة. وفي الوقت الذي استفحلت فيه المشاحنات والخلافات بين مختلف الجماعات المنضوية تحت الحكومة المعترف بها دوليا وانشغالها بالتنافس مع بعضها البعض، واصل الحوثيون بناء قدراتهم العسكرية وإحكام قبضتهم على المؤسسات الوطنية.
بحلول عام 2022، ومع حرصهم على إيجاد وسيلة سريعة للخروج من المأزق اليمني، بدأ السعوديون بتقديم تنازل تلو الآخر للحوثيين، وتكلّل الأمر بزيارة رسمية لوفد سعودي إلى صنعاء في أبريل / نيسان 2023، لإجراء محادثات ثنائية مع الجماعة. وعلى الرغم من تمسك الحوثيين بمواقفهم المتعنتة، تمكنت السعودية في نهاية المطاف من التفاوض على الخطوط العريضة لاتفاق ينص على وقف الأعمال العدائية، وتقديم ضمانات أمنية للسعودية، وخارطة طريق لمفاوضات يمنية – يمنية مستقبلاً. في واقع الأمر، تحوّلت مساعي السعودية المتسرّعة لإغلاق ملف الحرب في اليمن إلى تنازلات قد تُسلّم اليمن للحوثيين.
تراجعت الولايات المتحدة عن المشهد طيلة هذه التطورات، ووفقا لمصادر دبلوماسية غربية، أبلغ السعوديون واشنطن أن بإمكانهم استقطاب الحوثيين، تماما كما فعلوا مع القادة العسكريين الجمهوريين وزعماء القبائل عقب انتصارهم على القوات الملكية المدعومة من السعودية في الحرب الأهلية شمال اليمن (1962-1970)، وأدرجوهم في قوائم الرواتب السعودية. لا يتضح بعد ما إذا كانت الولايات المتحدة قد صدّقت هذا الادعاء غير المعقول، لكن ردّة فعلها تشير إلى أن الإدارة الأمريكية كانت ترى أن سيطرة الحوثيين على اليمن يهمّ السعودية وحدها. من جهة أخرى، لعب العمانيون دور الوسيط بين الولايات المتحدة والحوثيين – وبشكل غير مباشر رعاتهم الإيرانيين – وسعوا إلى تبديد مخاوف واشنطن بشأن دور الحوثيين المستقبلي في اليمن والمنطقة.
تغيّرت كل المعادلة اثر التداعيات المدوّية لأحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. الحوثيون الذين كانوا قد انتزعوا تنازلات مهمة من السعوديين زادتهم جرأة قرروا إعلان الحرب على اسرائيل نصرة للمقاومة الفلسطينية في غزة ولم يترددوا في تعريض كل تلك المكاسب للخسارة. شن الحوثيون هجمات استهدفت سفن الشحن بهدف تعطيل حركة الملاحة عبر البحر الأحمر، ومن هنا، لم يعودوا مشكلة للسعودية فقط. وَجدت الولايات المتحدة نفسها في موقف صعب اضطرت معه إلى نشر سفن حربية في البحر الأحمر لحماية حركة الملاحة والتجارة عبر الممر المائي الحيوي.
تكبدت الولايات المتحدة تكلفة هائلة بلغت حوالي مليار دولار أمريكي، لعمليات البحر الأحمر وإطلاق وابل من الذخائر لردع صواريخ وطائرات مسيرة حوثية تُكلف الجماعة بضعة آلاف من الدولارات، ناهيك عن التأثير المحدود للغارات الانتقامية الأمريكية-البريطانية ضد الأهداف العسكرية للحوثيين في اليمن. أُجبرت الولايات المتحدة على إعادة النظر في استراتيجيتها بصورة عامة، فَبعد أن أدركت مدى تشدّد الحوثيين، رفعت الولايات المتحدة سقف الشروط التي ينبغي تحقيقها في اليمن، حيث لم يعد الهدف يتمثل في تقويض إمكانات الحوثيين على إطلاق الصواريخ فحسب (وفق تعبير المسؤولين الأمريكيين سرّا عند تناول موضوع هجمات الحوثيين في البحر الأحمر)، بل التأكد من أنهم لن يستطيعوا مجدداً تعطيل حركة الملاحة ومسارات الشحن في البحر الأحمر.
رسم مسار مستقبلي لليمن
خيارات الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في اليمن محدودة. فَشنّ حملة عسكرية واسعة غير وارد كَون الولايات المتحدة لا ترغب في تكرار تجربة أفغانستان. حتى لو حصل القادة العسكريون في معسكر الحكومة على ما يكفي من الدعم بالأسلحة، لن يستطيعوا تحقيق الكثير في ظل الانقسام الذي ينخر مُعسكرهم والفساد المستشري والافتقار إلى القدرة المؤسسية، وبالتالي، يُحتمل أن تؤدي أي حملة عسكرية فاشلة إلى نتائج عكسية وإقناع المجتمع الدولي بقبول الحوثيين كحُكام فعليين لليمن، تماما كما حدث مع طالبان في أفغانستان.
من هذا المنطلق، يبقى المسار السياسي هو الخيار الوحيد المُجدي والقابل للتطبيق، ويقوم على فرضية التوصل إلى اتفاق شامل لتقاسم السلطة بين جميع الجهات الفاعلة اليمنية – وِفق ترتيب يَكفل الحكم الذاتي المحلي بحيث لا يُضطر أي طرف (وخاصة الحوثيين) إلى التخلي عن جزء كبير من سيطرتهم على المناطق الواقعة تحت نفوذهم.
هذا وتُعتبر الجهود الدبلوماسية الأمريكية الأخيرة لتشكيل تكتل من الأحزاب السياسية اليمنية المعتدلة خطوة أولى إيجابية، ولكنها تبقى مجرد عنصر بسيط من نهج سياسي أكبر يحتاجه اليمن لإحداث فارق حقيقي. في النهاية، نشأت معظم الأحزاب السياسية اليمنية في عاصمة تبنّت نظاماً سياسياً مركزياً – وبالتالي لا تُمثل هذه الأحزاب ثلثي سكان البلاد الذين يعيشون في الريف. وبناء عليه، فما نحتاجه هو تمثيل أوسع يشمل السلطات المحلية من مختلف أنحاء اليمن، لكن حتى لو حدث ذلك، سيظل هناك حاجة لبذل المزيد من أجل وضع اليمن على مسار الاستقرار الدائم.
بادئ ذي بدء، يجب إقناع الحوثيين بخفض سقف تطلعاتهم، لا سيما وأنهم يطمحون حالياً إلى السيطرة على مناطق اليمن بشكل كامل من خلال خارطة الطريق التي يعرضها عليهم السعوديون. من جهة أخرى، تحتاج الحكومة إلى أن تصبح ثقل موزان يُعوّل عليه لردع الحوثيين، وأن تطالب باتفاق عادل لتقاسم السلطة وأن تحافظ عليه. هنا، يجب استيفاء شرطين أساسيين لتمهيد الطريق أمام حل سياسي للصراع في اليمن:
الشرط الأول هو تعزيز القدرات الدفاعية للقوات الحكومية، ومعالجة الاختلال الهائل في توازن القوى العسكري بين الحوثيين والحكومة. على الحوثيين أن يعوا بأن حقول النفط والغاز في مأرب وشبوة يجب أن تظل بعيدة عن قبضتهم. بعبارة أخرى، يجب اتباع سياسة العصا (أي ضمان وجود مثل هذا النوع من الردع، إلى جانب نظام عقوبات يستهدف الشركات الوهمية التابعة للحوثيين) والجزرة (توفير التمويل لجهود إعادة الإعمار والتنمية كجزء من اتفاق سلام).
أما الشرط الثاني فهو توحيد قيادة الحكومة المعترف بها دوليا وتحسين إدارتها وتعزيز رقابتها. سيكون إصلاح مجلس القيادة الرئاسي خطوة أولى جيدة في هذا الصدد، لكن التحدي الرئيسي يكمُن في تشكيل قيادة عسكرية موحدة وهو ما يستوجب تفاهما بين السعودية والإمارات المتنافستين على النفوذ في اليمن، لا سيما وأن الجماعات المسلحة التي تدعمانها لن تخضع أبدا لمثل هذا الهيكل.
الاستفادة من النفوذ الأمريكي
قد يبدو تحقيق هذين الشرطين الأساسيين صعباً، لكن بعض التطورات الأخيرة تُعتبر واعدة. في سبتمبر/أيلول، صنفت الولايات المتحدة الإمارات كشريك دفاعي رئيسي ورغم أن تفاصيل هذا التصنيف غير واضحة بعد، يمكن أن نستنتج من تجربة الدولة الأخرى التي تتمتع بهذا التصنيف – الهند – أنها تعزز التعاون بشكل أكبر في هذا المجال وتتيح الوصول إلى تكنولوجيا دفاعية متطورة. جاء هذا التصنيف في الوقت الذي تتفاوض فيه السعودية على عدد من بروتوكولات التعاون الأمني مع الولايات المتحدة لتعزيز الضمانات الأمنية الأمريكية التي تتمتع بها المملكة منذ اللقاء الذي جمع الملك عبدالعزيز بالرئيس روزفلت عام 1945.
هذه الترتيبات الأمنية مع كلتا الدولتين تمنح واشنطن نفوذا أكبر للضغط من أجل تعاون أكبر بينهما في توحيد القوات الحكومية تحت قيادة موحدة، وسَيسهل تحقيق ذلك من خلال تبني رؤية ليمن يتسم بدرجة عالية من اللامركزية في مرحلة ما بعد الصراع بحيث يقلّ الاحتكاك بين حلفاء الدولتين.
في هذه المرحلة، تعكس الضربات المدروسة المتبادلة مؤخراً بين إيران وإسرائيل وسعيهما لتجنب مواجهة أوسع نطاقا، إدراكهما للعواقب المدمرة لحرب إقليمية شاملة. بالتالي، من المرجح أن تضطر إيران إلى تقديم تنازلات كبيرة في أي ترتيبات قادمة لخفض التصعيد، وهو ما يمنح فرصة لأحد متطلبات المجتمع الدولي وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة بأن تتوقف إيران عن تزويد الحوثيين بتكنولوجيا الصواريخ والطائرات المسيرة المتقدمة – وهذا كان عنصر في الانفراجة بين الرياض وطهران بوساطة بكين عام 2023، لكنه لم يُنفّذ قط.
يظل تقديم إيران لمثل هذا التنازل أمراً وارداً؛ فَرغم الاداء المُدهش للحوثيين خلال الحرب الإسرائيلية على غزة، تظل الجماعة حليفاً أقل موثوقية بالنسبة لإيران مقارنة بنظرائها في لبنان والعراق، ويُعزى ذلك للفروق الطائفية حتى وإن كانوا من أتباع المذهب (الزيدي) الشيعي. مع احتمال تضاؤل الدعم الإيراني، قد يُصبح الحوثيون أكثر انفتاحاً لقبول صفقة مع اخوانهم اليمنيين – بما يضمن بقاءهم ومشاركتهم في السياسة الوطنية مستقبلاً.
أدنى الرابط لقراءة المقال من موقعه الأصلي: