في 26 سبتمبر 2023، خرجت مظاهرات في ثلاث مدن رئيسة في اليمن، هي صنعاء وإب والحديدة، تحتفل بذكرى الثورة المؤسسة للجمهورية، وتتحدى حكم جماعة الحوثي. فاجأت المظاهرات أنصار الحوثي، وبدلاً من الاستعانة بقوات الأمن، انتشر مسلحو الجماعة بلباسهم المدني في الشوارع، وأطلقوا الرصاص في الهواء محاولين تفريق المحتفلين، فتحوَّل الاحتفال بذكرى الثورة إلى مواجهة بين رصاص المسلحين وحجارة المتظاهرين.
كان خروج المواطنين عفوياً، بيد أنه لم يكن مفاجئاً. ولم يتبع المتظاهرون هيئة سياسية منظمة تنازع جماعة الحوثي الحكم وتحثّهم على التظاهر بل كانوا مواطنين خرجوا على اختلاف توجهاتهم للدفاع عن الجمهورية، بعدما رأوا في حكم جماعة الحوثي تهديداً لها، وذلك بسبب بروز الأفكار الدينية التي قامت عليها الجماعة والتي تناقض فكرة الجمهورية كما يرى معارضوها. وبسبب هذا التوجّس، بدأت معارضة الجماعة ومقاومة حكمها على نطاق ضيق، ثم زادت واتّسعت لتشمل قطاعات واسعة من المجتمع، ترفض حكم جماعة الحوثي، وتعلي من قيم الثورة والجمهورية.
كان تأسيس الجمهورية اليمنية في منتصف القرن العشرين غريباً تاريخيّاً وجغرافيّاً، إذ لم تكن العقود السابقة ولا المحيط الإقليمي والتضاريس المحلية تشي بقرب قيامها. أما التاريخ فلأن الأوضاع الاجتماعية والسياسية في اليمن عشية الثورة سنة 1962 لم تكن تبشر بإمكانية قيام الجمهورية. إذ كان نحو 90 بالمئة من اليمنيين يسكنون الريف، ويعملون في الزراعة والرعي والصيد، بينما كانت المدن مصطبغة بمظاهر العهود الإقطاعية كما تقول المؤرّخة الروسية إيلينا جولوبوفسكايا في كتابها "ثورة 26 سبتمبر في اليمن". وكان الصراع بين البنية القبلية ونظام الإمامة يحول دون نشأة نظام سياسي حديث.
قامت الثورة على المملكة المتوكلية التي أسسها الإمام يحيى حميد الدين المتوكل في شمال اليمن بعد خروج العثمانيين من البلاد سنةَ 1918، بينما كانت بريطانيا تفرض سيطرتها على جنوب اليمن منذ احتلالها عدن سنةَ 1839. كان الإمام في هذا النظام حاكماً فرداً، يحكم بلا دستور أو قانون يُقيد تصرفاته، فلم يكن ثمة ما يقيد هذه التصرفات نظرياً إلا الشريعة الإسلامية التي كان الإمام مفسرها. أما عملياً فتقيدت سلطة الإمام من طرفين، أولهما شيوخ القبائل الرافضين تجنيد أبناء قبائلهم، والمعارضين مساعي الإمام لجباية الضرائب، كما تقول جولوبوفسكايا. أما الطرف الثاني فهم الأحرار الدستوريون، المعارضون التقليديون للإمام يحيى، الذين حاولوا إرغامه على إدخال إصلاحات تحدّ من صلاحياتها. ومع فشل مساعيهم السلمية، لجأوا في 17 فبراير 1948 إلى اغتيال الإمام، بالتعاون مع إحدى الأسر الهاشمية، واستولوا على العاصمة صنعاء بضعة أيام، أعلنوا فيها عبد الله الوزير إماماً دستورياً، قبل أن يتمكَّن أحمد يحيى من استعادة سلطة والده بمعاونة قيادات قبلية، ويعدم بعدها العشرات ممَّن قادوا الثورة.
أبقى النظام الملكي الإمامي غالبية اليمنيين خارج إطار الرعاية من الدولة، التي كادت خدماتها تقتصر على طبقة الهاشميين، الذين تقلدوا أرفع المناصب، وجاء بعدهم القضاة ثم المشايخ الإقطاعيون. أما سائر الشعب فلم يحظ بأي اهتمام يذكر. ففي القطاع الصحي، مثلاً، أورد أحمد عبيد بن دغر في كتابه "اليمن تحت حكم الإمام أحمد" أن وزارة الصحة أنشئت سنةَ 1957، ولم يكن فيها سوى ثلاثة موظفين، وهم الوزير ونائبه والمحاسب. وكانت تدير ستة مستشفيات، لكن بالتدقيق في البيانات التي أوردها يتضح أنه لم يكن هناك سوى ثلاثة مستشفيات في تعز وصنعاء والحديدة فيها سبعة وعشرون طبيباً، وثلاثة مراكز صحية في إب وحجة وذمار في كلٍّ منها طبيب واحد. كانت مباني المستشفيات مما تركه الأتراك خلفهم ولم تخضع لأي تحديثات. بل إن الإمام حوَّل المستشفى الذي بناه الأتراك لجنودهم إلى قصر ملكي سُمي قصر "دار السعادة"، وهي معلومة تكررت في كثير من المصادر وأوردتها تقية بنت الإمام يحيى حميد الدين في مذكراتها. وبسبب ضعف الرعاية الصحية كانت الأمراض والأوبئة مثل الملاريا والتيفود والجدري والسل الرئوي تحصد أرواح اليمنيين بلا هوادة. في كتابها "كنت طبيبة في اليمن" تنقل الطبيبة الفرنسية كلودي فايان، التي قَدِمت إلى اليمن قبل عشرة أعوام من ثورة 26 سبتمبر، مشاهد مأساوية عن الوضع الصحي في البلاد آنذاك، فتحكي عن زيارتها لمستشفى في تعز ومشاهدتها المرضى وهم على وشك الموت من غير أن يتوفَّر لهم العلاج، وشعورها بعدها أنها "تحت كابوس لعين"، ووصفها الوضع بأنه يتجاوز كل ما قرأته عن معسكرات الإبادة.
أما التعليم الحديث فلم تحظَ به قبل الثورة إلا فئة قليلة تكاد تقتصر على أبناء الطبقات العليا من بيت الإمام ومساعديه من فئة السادة وبعض أبناء القضاة. بينما ظلَّ تعليم البقية مقتصراً على كتاتيب القرآن. ألغى الإمام يحيى دار المعلمين التي أنشأها الأتراكُ وحوَّلَها الى أملاك حكومية، ثم في سنة 1925 حوَّل استراحة الوالي التركي إلى ما سُمّي "المدرسة العلمية"، وكانت أول دار علوم تنفق عليها الدولة. أما التعليم فيها فكان شبيهاً بنظام الأزهر، وكانت مدة الدراسة فيها اثنا عشرة عاماً بعد الابتدائية. وكان هناك مدارس علمية شبيهة في باقي المدن لكنَّ مدَّة الدراسة فيها لا تتعدى سبعَ سنوات. وكان هناك مدرسة للأيتام أنشأها الإمام في صنعاء، من منظورٍ خيري بهدف "التقرب الى الله" كما ورد في تفسير أحمد عبيد بن دغر في كتابه "اليمن تحت حكم الإمام أحمد".
اقتصادياً لم يكن هناك بنك في اليمن، وكانت العملة المحلية قِطَعاً فضيَّة تُسمى "ماريا تريزا" سُكّت في القرن الثامن عشر. وكانت الضرائب وموارد الزكاة المصدرَ الرئيسَ لخزينة الدولة، وذكر ابن دغر أن إيرادات الدولة كلها سنةَ 1961 ومصروفاتها كانت تقترب في مجملها من إيرادات مدينة عدن ومصروفاتها آنذاك، أي نحو ستة عشر مليون دولار.
وأما جغرافياً، فقد وُلدت الجمهورية في محيط إقليمي كلُّ دولة فيه قائمةٌ على أنظمة وراثية. وكانت المملكة اليمنية معزولة عن العالم، كما يشير أبو بكر السقاف في كتاب "الجمهورية في اليمن الشمالي بين السلطنة والقبيلة"، فلم يكن لها سفارات في البلدان المختلفة، كما لم تستقبل سفراء أجانب، ولكنها اكتفت بالاتفاقيات التجارية مع الاتحاد السوفيتي وإيطاليا الفاشية، وهو ما يفسره عبد الله البردوني في كتاب "اليمن الجمهوري" بأن الدولتين عدوتان لبريطانيا التي كانت مصدر قلق دائم للإمام. كان الإمام يرتاب من الأجانب، فلم يكن يسمح بدخولهم اليمن إلا في مناسبات نادرة، يبقون فيها تحت مراقبته الصارمة. وفرضت الجغرافيا على اليمن عزلة أخرى، إذ حالت الجبال الشاهقة في اليمن الشمالي، حيث يتركز معظم السكان، دون وصول الخدمات إليها، بما في ذلك الخدمات الأساسية كالطرق.
اجتمعت عوامل عدة لتخفيف وطأة العزلة في العقد السابق للثورة. وأدّت سياسات الإمام إلى هجرة كثير من التجار والمثقفين إلى عدن التي تحتلها بريطانيا، أو الحبشة. وكان الخروج من اليمن والاتصال بالعصر يؤدي، كما يشير السقاف، إلى اكتشاف "تخلف الإمامة" على نحو يدفع للسعي إلى تغييرها. إثر ذلك، وقعت ثلاث محاولات للانقلاب في سبع سنوات، كانت أولاها المحاولة التي قادها عبد الله الثلايا سنة 1955 وأُعدم بعد فشلها. ومع توالي محاولات الانقلاب، لم يجد الإمام بديلاً لتأمين حكمه، بحسب البردوني، سوى الاستعانة بالمعسكر الشرقي واستيراد مزيد من الأسلحة. ولاحظ الإمام أحمد أن سقوط والده كان لتجاهله العصر، فبدأ منذ نهاية الأربعينيات فهم مطالب الدستوريين، وأهمها الاتصال بالعالم، ففتح سفارات في عدد من الدول، واستقبل السفراء، وشكَّل حكومة، وخفَّف القيود أمام حركة التجارة. وعندما أزاح الضباط الأحرار الملك عن حكم مصر سنة 1952 ثم أسسوا فيها الجمهورية، حرص الإمام على توطيد علاقته بالقاهرة، ليُحصِّن نفسه من عداوتها. مقابل ذلك، أوقفت القاهرة إصدار صحيفة "صوت اليمن" التي كان بعض المعارضين يصدرونها من القاهرة.
أسهم التطور التقني في إخراج اليمن من الحصار. ويقول أمين الريحاني في كتابه "ملوك جزيرة العرب،" إن اللجوء إلى التقنية اقتصر على الجيش، الذي استخدم الطيران واللاسلكي. وكان الضباط على اتصال بالعالم، وعلى اتصال بالتجار الراغبين في تطوير سبل التجارة. تأسس في الجيش وقتئذ تنظيم الضباط الأحرار، متأثراً بنظيره المصري، ونجح مثله في اجتذاب فئات مجتمعية واسعة لمشروعه للتغيير. وبذلك تحوَّل الانقلاب إلى ثورة. ودَعمُ عبد الناصر الثورةَ نتيجة انزعاجه من تقلبات الإمام أحمد وبحثه عن نصر لتعويض فشل الوحدة مع سوريا، حفَّزَ السعودية وبريطانيا على التدخل ودعم بقايا الإمامة باستثمار انقسام القبائل الشمالية على نفسها.
لم يكن قيام الجمهورية، على ما حققته من إنجازات، كافياً للقضاء على شبح الإمامة. يرى فريد هاليدي في مقال نشره خريفَ 1970، في مجلة "نيو لفت ريفيو" أن الثورة نجحت في سنواتها الأولى بانتزاع السلطة السياسة من أيدي الإمام وأعوانه، وتأسيس تحالف حاكم جديد عماده مشايخ العشائر والتجار، وتطوير الصناعة على نحو أدى إلى ظهور طبقة عاملة ناشئة. بيد أن هذه الإنجازات ظلت منقوصة. إذ أدى الصراع بين شريكي الثورة، القوى الإصلاحية التي تمثل امتداد المعارضة التقليدية وعلى رأسها الأحرار الدستوريين من جهة، والقوى اليسارية والقومية من جهة أخرى، إلى إضعاف الصف الثوري، وإبقاء بعض أفكار الإمامة ومكوناتها الاجتماعية حية. وحين فرض الفريق الأول سيطرته بعد نجاح انقلابه على أول رئيس للجمهورية في 5 نوفمبر 1967، أطلت بعض مكونات النظام الإمامي من جديد.
غيرت الثورة من أسس الحياة في اليمن. مع تأسيس الجمهورية، انتهت العزلة التي فرضها نظام الإمامة على اليمن الشمالي. وفتحت الثورة باب التنافس على الحكم، إذ لم تعد السلطة حكراً على أسرة أو طبقة استناداً إلى نص ديني، بل قيام الحكم على أساس دستوري ديمقراطي، جعل الجميع متساويين في الحقوق والواجبات. ومع أن هذا الشكل الدستوري الديمقراطي ظلّ صورياً بسبب تعاقب الانقلابات العسكرية وعدم نزاهة الانتخابات وتسلّط الجيش، فلا يمكن التقليل من أهمية الجمهورية الجديدة في تغيير البنية الاجتماعية، بتوكيدها الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وإدخالها التعليم الحديث والخدمات العامة وجعلها متاحة للجميع بما في ذلك أبناء الفلاحين والفقراء، المستبعدين قبل ذلك من دائرة الحقوق، والمستعبدين بيد أصحاب السلطة الدينية.
لم تسلم الجمهورية الناشئة من الصراعات الإقليمية. في أعقاب هزيمة الجيوش العربية في حربها مع إسرائيل في يونيو 1967، توصلت مصر والسعودية إلى اتفاق ضمن مؤتمر الخرطوم في أغسطس 1967، نصَّ على انسحاب القوات المصرية من اليمن مقابل توقّف السعودية عن دعم الملكيين. ومع ذلك، استمرت السعودية في دعم الملكيين دعماً محدوداً في حصار صنعاء الذي استمر سبعينَ يوماً سنتي 1967 و1968. بعد فشل الحصار، ألقت السعودية بثقلها خلف الجناح القبلي المنقلب على الرئيس الجمهوري، ورعت سنةَ 1970 مصالحة بين القبائل وبقايا القوى الملكية.
في أعقاب هذه المصالحة، حلَّت سلطة المشايخ القبليين محل سلطة الهاشميين في الجمهورية، وهو ما أعاد تشكيل الجمهورية بطريقة تجعلها أكثر قبولاً لحكام السعودية الذين كانوا يتوجسون من النزعة التحررية للثورة. يرى أبو بكر السقاف أن ذلك أدى إلى إعادة رسم الجمهورية بشكل يناسب المصالح الإقليمية. ويرصد فريد هاليدي إعادة تشكيل الجمعية الوطنية اليمنية لتضم ثمانية عشر ملكياً، وستة وزراء ملكيين، مما عزز من هذا الاتجاه. بذلك ربطت علاقات دبلوماسية بين اليمن والسعودية، ووُضع حد لمقاومة فلول القوات الملكية. كان كلٌّ من الانقلاب والمصالحة مرتبطين بأخطاء قادة الثورة ونهج عبدالحكيم عامر والسادات في التدخل وتوسيع نطاق الحرب، مما أدى إلى التسوية السياسية التي أُبرمت، كما يقول لنقيب الصحفيين اليمنيين السابق عبدالباري طاهر.
أسهم التحالف بين المملكة العربية السعودية والقبليين والهاشميين في اليمن في تقويض الجمهورية وإضعاف القوى الوطنية التقدمية من القوميين واليسار، الذين كانوا في طليعة مقاومة الدفاع عن صنعاء في الحصار. في هذا السياق، اغتيل عبدالرقيب عبدالوهاب، قائد المقاومة الشعبية التي كسرت حصار صنعاء، نُكِّلَ برفاقه بوسائل مختلفة مثل النفي والسجن وتعيين بعضهم في مناصب دبلوماسية، بهدف إبعادهم عن المشهد السياسي. وصُفّيت التنظيمات الثورية بذريعة منع الحزبية، وهو ما أكده رئيس المجلس الجمهوري عبدالرحمن الإرياني في خطابه في مايو 1970 بمؤتمر طلابي، إذ قال: "إن الحزبية تبدأ بالتأثر وتنتهي بالخيانة".
وفقاً لما ذكره البردوني في كتابه "اليمن الجمهوري"، فقد أسفرت تلك المصالحة التي رعتها السعودية عن إعادة ممتلكات الملكيين العائدين والمنخرطين في المصالحة، والتي صودرت سابقاً مع مصادرة أملاك الأسرة الحاكمة وكبار الملكيين الذين عادوا إلى دعم الجمهورية. أسهم في ذلك موقف الإرياني العدائي من الحزبية. وقد نجح هذا الخط الذي قاده الإرياني بفضل وجود أساس له في الجيش، لعدم وجود امتداد سياسي لتنظيم الضباط الأحرار خارج الجيش من جهة، ولأن هؤلاء الضباط كانوا مشدودين كجماعة سرية إلى التجربة الناصرية من جهة أخرى، مما جعلهم أقل قدرة على بناء تحالفات سياسية خارج إطار الجيش.
توالت عملية تقليص مضامين الجمهورية وقيمها، وبدلاً من خلق اندماج وطني ينهي إرث الإمامة، تنامت النزعات القبلية والمناطقية والطائفية التي قوَّضت الفكرة الجمهورية. وبعد اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي سنةَ 1977، الذي كان يسعى إلى تقليص نفوذ مشايخ القبائل، تولى أحمد الغشمي السلطة زمناً قصيراً قبل أن يُغتال هو الآخر سنةَ 1978. بعد ذلك وصل علي عبد الله صالح المدعوم سعودياً إلى السلطة أواخر السبعينيات. وفي عهد صالح تكرس الطابع العسكري والقبلي للسلطة، وبعد أربع سنوات من تحقيق الوحدة اليمنية سنةَ 1990 بين الشمال والجنوب، والتي كانت تُعدُّ حلماً من شأنه النهوض باليمن، اندلعت حرب بين الشطرين. وإثر ذلك صُفّيت المنجزات العامة، وخُصخصت قطاعات الجنوب التي كانت تتبع الدولة بحكم النظام الاشتراكي الحاكم قبل الوحدة. سُرّح عشرات الآلاف من وظائفهم وطغت السياسات الليبرالية الجديدة القائمة على الانفتاح الاقتصادي بعد ذلك، وتسببت في الارتفاع المطرد لنسبة البطالة في المجتمع.
تضافرت عوامل عدّة على ظهور جماعة الحوثي نهاية التسعينيات. ومطلع العقد تأسست حركة الشباب المؤمن الثقافية لإحياء المذهب الزيدي الشيعي، وهو مذهب أغلب سكان محافظات شمال اليمن. استفادت الحركة في نشأتها من الانفتاح السياسي الذي اتسمت به تلك المرحلة، وهدفت إلى مجابهة تغلغل الإخوان المسلمين في البنية القبلية، وانتشار المد السلفي الوهابي المدعوم من السعودية. ويقول محمد عزان، أمين عام منتدى الشباب المؤمن، إن هذا النشاط السني استفزَّ المحيط الزيدي، إذ كان سبيلُه إلى القضاء على فكرة الإمامة نشرَ أفكار دينية معادية لها، لا تقديم الخدمات والمشروعات التي ترسخ من قيمة الجمهورية وأهميتها. فنتج من ذلك نشأة مقاومة زيدية للجمهورية.
لم يكن حسين الحوثي، مؤسس الجماعة، جزءاً من هذه الحركة. بل كان عمله السياسي في تلك الفترة بحزب الحق، الذي أسسه مع زيديين آخرين، وترشح عنه في الانتخابات البرلمانية سنة 1993، وفاز بمقعد عن إحدى دوائر محافظة صعدة. ومع عمله السياسي الإصلاحي، كان إعجاب الحوثي بالمسار الثوري الذي اتخذه إسلاميو إيران سبباً في نشاطه بحركة الشباب المؤمن. بانخراطه في الحركة أسهم في دفعها إلى العمل السياسي بعد أن كان نشاطها ثقافياً يتمثَّل بالأساس في التعليم الديني. كَثُرَت دروس الحوثي وخطبُه، وكثر هجومُه فيها على أمريكا وإسرائيل، وترويجه للمذهب الزيدي. وردَّدَ أتباعه سنةَ 2002 شعارَ الصرخة "الموت لأمريكا الموت لإسرائيل" في مساجد صعدة ثم صنعاء وفي التظاهرات الرافضة احتلال العراق. تطور الأمر في العامين اللاحقين إلى حفر الخنادق وتدريب الأتباع على استخدام الأسلحة، كما يوثقه محمد العلاني في مقال نشره سنة 2010. هذا التحول في مسار الحركة استفزَّ السلطات في صنعاء، فطلبت من الحوثي أن يتوقَّف عمَّا يقومُ به وأن يُسلِّم نفسَه، لكنه رفض، مما أدى إلى اندلاع الحرب الأولى بين الدولة والحوثيين في منطقة مران جنوب صعدة، وهي الحرب التي قُتل الحوثي نهايتها سنةَ 2004. تجدَّدت الحروب بين أنصار الحوثي والدولة بعد ذلك، حتى وصل عددُها سنة 2010 إلى ست حروب.
إذا كان فقر الجمهورية الديمقراطي فتح باباً خلفياً لعودة نظام الإمامة، فإن الثورة الإسلامية في إيران شجعت كثيرين من أبناء الأسر الهاشمية على الورود منه. اكتملت الدائرة مع مساعي توريث الحكم التي كانت جارية على قدم وساق في العقد الأخير من حكم صالح، الذي أخذ يرتب من أجل نقل الرئاسة لنجله قائد الحرس الجمهوري حينها، إلى جانب تمكين أقاربه وأولاد أخيه بتعيينهم في مواقع عسكرية وأمنية حساسة، على حساب التحالف القبلي والسياسي الذي أخذ ينهار نتيجة ذلك.
كانت الجمهورية عشية ثورة 2011 إطاراً مضمونُه إمامة بلا إمام. مما حفَّز الأسر الإمامية الطامحة إلى العمل بجدٍّ أكبر من أجل "استعادة ما تظنه حقاً شرعياً في السلطة التي تعتبرها ولاية إلهية على الأقل في خطابها مع أنصارها" كما يقول الباحث السياسي معن دماج. وبينما سعت بعض هذه الأسر إلى الاندماج في بنية سلطة علي عبدالله صالح، مستفيدة من الفراغ الذي تركه حلفاؤه القدماء، انحاز غيرهم إلى المعارضة بالاندماج في بنية تحالف اللقاء المشترك الذي جمع الأحزاب التقليدية اليسارية والقومية والإسلامية. وفَّر هذا الاندماج المزدوج لجماعة الحوثي غطاء سياسياً كانت تحتاجه في حربها مع الجيش في محافظة صعدة أقصى شمال غرب اليمن منذ سنة 2004 وحتى 2010، إذ أسهمت في التعمية على حقيقة الجماعة وحقيقة ما تسعى إليه. بدا صراعها مع فساد الجمهورية، لا مع فكرة الجمهورية نفسها، وانفتح الباب لتحالفها مع المعارضة التي كانت ترفض مشروعاً للتوريث وسياسات الإقصاء والإفقار التي يتبعها صالح. ومع توحد الطرفين في الثورة ضد صالح، إلا أن الخيار العسكري للحوثي كان أقوى من خيار المعارضة السلمي.
مهدت ثورة فبراير 2011 الطريقَ لصعود جماعة الحوثي سياسياً. كسرت الثورة العزلة المفروضة على الحوثيين في محافظة صعدة، والتحقوا بالاحتجاجات التي طالبت برحيل صالح ونظامه. استغلت الجماعة انهيار مؤسسات الدولة بالتوسع العسكري في أكثر من مكان بالتزامن مع حصولها على اعترافٍ سياسيٍّ، فهي من القوى السياسية المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد بهدف معالجة الإشكاليات التي خلفتها الأنظمة السابقة واستعادة مضامين الجمهورية وتحقيق أهداف ثورة فبراير. بعد عامين من مغادرة صالح السلطةَ عاد ليتحالف مع جماعة الحوثي على باقي خصومه، فتمكّنت بمساعدته وانحياز أنصاره في الجيش لها من اجتياح صنعاء، والهيمنة على مؤسسات الدولة بلا قتال حقيقي.
فتحت ثورة فبراير الباب لخيارات متعددة للمستقبل. كان الجامعُ بين الثوار رغبتَهم في القضاء على نظام صالح، غير أن بعضهم كان يريد أن يستبدل به نظاماً جمهورياً ديمقراطياً، وبعضهم الآخر يسعى إلى إحياء الإمامة. لم يشعر الأول بالتهديد، إذ لم تكن الأجيال الشابة التي مثَّلت المحرِّك الفعلي للثورة التي عاشت في ظل نظام الإمامة، ولم تكن تأخذ التهديد بعودتها على محمل الجد. مما صدمَ الباحث اليمني علي محمد زيد، عندما سأله مجموعة شباب في نقاش مفتوح "عن الثقافة الجمهورية التي كان يتحدث عنها"، يقول إن هذا السؤال هو ما دفعه إلى تأليف كتابه "الثقافة الجمهورية في اليمن" الصادر سنةَ 2020، فهو من الجيل الذي فتحت له الجمهورية "بابَ الأمل والنجاة من الغرق في غياهب العزلة والانغلاق، وأخرجته من ظلام القرون الغابرة ليتمسك ببصيص من نور القرن العشرين"، كما يصف في مقدمة الكتاب.
استثمر الحوثيون الحربَ المتواصلة منذ مارس 2015 في الهيمنة على مؤسسات الدولة. فعينوا تابعين لهم في كل المؤسسات وباتت المواقع الإدارية العليا حكراً على الهاشميين وأبناء محافظة صعدة، المعقل الرئيس للجماعة. وتركزت السلطة في يد أقرباء عبدالملك الحوثي، فتولّى أخوه الأكبر وزارة التربية والتعليم، وتولى عمه وزارة الداخلية، وتولى مدير مكتبه رئاسة المجلس السياسي الأعلى، أعلى سلطة في حكومة الحوثيين.
عمل الحوثيون بالسلطة على إعادة تشكيل المجتمع وثقافته لتتماشى مع تصوراتهم الدينية والطائفية. يظهر ذلك مثلاً في السياسات التعليمية، إذ تحشد صغارَ السنِّ في مخيمات صيفية سنوية، تلقّنهم فيها أفكارها، وتغيّر المناهج الدراسية لتتوافق مع رؤيتها. بلغ عددُ الملتحقين بالمخيمات الصيفية 1.5 مليون طالب، كما أعلن نائب وزير الخارجية في حكومة الحوثيين أواخر أبريل الماضي. ويقول الحوثيون إنَّهم يحصّنون الطلاب من الانحراف، بينما تظهرُ من وقتٍ لآخر مقاطع فيديو لمشرفين من جماعة الحوثي في المراكز الصيفية وهم يلقنون الطلاب مفاهيم تتعلق بالولاية وأعلام الهدى، ويظهر طلاب في طوابير وهم يرددون البيعة لعبدالملك الحوثي، وأخرى تظهر الطلاب وهم يتدربون على استخدام الأسلحة الخفيفة. ويهتم الحوثيون بالمراكز الصيفية ويوفرون لها إمكانيات كبيرة بسبب فشلهم في السيطرة التامة على قطاع التعليم الحكومي والأهلي مع فرضهم تعديلات على المناهج المدرسية وإلغاء الدروس المتعلقة بثورة سبتمبر ورموزها والمفاهيم المدنية واستبدالها بالحديث عن الرموز الدينية للجماعة. ورد في إحاطة تقرير فريق الخبراء التابع لمجلس الأمن الصادر بتاريخ 25 يناير 2022، أنَّ المخيمات الصيفية والدورات الثقافية التي تستهدف الأطفال والبالغين "تشكل جزءاً من استراتيجية الحوثيين الرامية إلى كسب الدعم لأيدولوجيتهم وتحفيز الناس للمشاركة معهم في القتال".
يراهن الحوثيون، كما يرى أيمن نبيل، على أن يؤدي ذلك إلى خلق وعي تاريخي جديد لليمنيين، يجذِّر العداء الاجتماعي لثورة سبتمبر. ويحرص إعلام الجماعة على إضفاء القداسة على زعيمها عبدالملك الحوثي، بنعته بما يقتضي القداسة، كالإشارة المتكررة إليه بالسيد العلم، وقرين القرآن، وولي الله، وقائد المسيرة القرآنية. وكلها أوصاف تؤسس لكونه صاحب الحق الحصري في الإمامة.
وتستخدم الجماعة سلطتها لإعادة تشكيل الوعي العام ببسط سلطتها على الزمان والمكان. أما الزمان فتُعلي الجماعة من قيمة بعض المناسبات الرمزية على حساب مناسبات أخرى. تجلَّى ذلك في احتفال لا مثيلَ له بيوم الغدير، الذي أعطى فيه النبي محمد الولاية لعلي ابن أبي طالب، كما في المعتقد الشيعي. لم يكن الاحتفال بهذه المناسبة مألوفا حتى عند الزيديين شمال اليمن. وينظّم الحوثيون على مدار العام سلسلة من الفعاليات والاحتفالات الكبرى ، كيوم "الصرخة"، وذكرى المولد النبوي، ويوم استشهاد الحسين، وذكرى مقتل مؤسس الجماعة حسين الحوثي، تسعى بذلك إلى الترويج لرؤيتها. وهي الفعاليات يعدّها ياسين الحاج صالح "من لوازم صناعة الطائفية". ولا مكان في برنامج دولة الحوثيين للأعياد والمناسبات الوطنية. إذ يقتصر الاحتفال بذكرى ثورة 26 سبتمبر على خطابات رسمية يلقيها رئيس المجلس السياسي، يتركز فيها النقد على عجز الجمهورية عن الوفاء بوعودها، ويتوجه اللوم في ذلك إلى السعودية.
كان هذا التحول تدريجياً. في البداية كانت جماعة الحوثيين تتغنى بالثورة وتدافع عنها. مثلاً خطاب صالح الصماد في ذكرى الثورة سنةَ 2017 مدحها وقال إنها "نجحت في وضع الشعب اليمني على مسار التغيير والتطور، لولا النظام السعودي الذي وقف بكل قوته في التصدي لها و إفشالها". ثم استدرك بالقول إنّ رياح التغيير كانت عاتية وأسقطت كلَّ المحاولات والمؤامرات التي قادها النظام السعودي عسكرياً، قبل أن يسرد التدخلات السعودية التي قال إنها هدفت لاحتواء الثورة مستعيراً قاموس الحركة الوطنية اليمنية.
في الأعوام اللاحقة أصبح خطاب مهدي المشاط، ممثل سلطة الحوثيين، أكثر تحديداً وانتقاداً، إذ لم يكتفِ بمهاجمة السعودية، بل لامَ الثوار، متهماً إياهم "برهن القرار اليمني للخارج" ومتحسراً على الثورة التي فشلت في تحقيق أهدافها، كما قال. كان اللافت في خطابات المشاط التشنيع على منتقدي النظام الإمامي، ففي خطابه سنةَ 2021، طلب من اليمنيين أن يتعاملوا مع ذكرى ثورة 26 سبتمبر تعاملاً مختلفاً عمَّا وصفه بأنماط "النظام البائد"، الذي قال إنه حوّل ذكرى سبتمبر إلى "مناسبات موسمية للتضليل، وحفلات الشتائم، وتصدير الضجيج الذي لا يسمن ولا يغني من جوع".
ثم وصل الأمر للدفاع عن بيت حميد الدين الذين قامت الثورة عليهم. وقع ذلك في خطاب المشاط في ذكرى الثورة سنةَ 2023، حين دعا إلى التصالح مع التاريخ والبناء عليه، قائلاً: "نسينا طويلاً ودونما شعور بأننا إنما نجلد ونمزق الذات الجمعية لليمن الحبيب حاضراً وماضياً"، وأضاف أنَّ "بناء الدول عملية تراكمية لا تقبل لغة التهريج والقطيعة مع التاريخ بقدر ما ترتكز على لغة الوصل وتجسير التجارب بين الأجيال"، في إشارة إلى تاريخ الإمامة الذي أعلن النظام الجمهوري القطيعة معه.
وأما المكان فحرصت الجماعة بوجودها في الحكم على تغيير أسماء الشوارع والمدارس والمرافق العامة التي كانت تحمل أسماء مناضلي الثورة والجمهورية، واستبدالها بأسماء قادتها الذين قُتلوا في الحرب أو أسماء ذات مدلولات طائفية. مثلاً غُيِّرَ اسم ميدان السبعين، أكبر ميدان في اليمن، سمّي بهذا الاسم نسبة إلى حصار السبعين يوماً الذي فرضه الملكيون على صنعاء، من 28 نوفمبر 1967 حتى 7 فبراير 1968، ليصبح اسمه ميدان الصماد، نسبة إلى صالح الصماد الذي كان يشغل منصب رئيس المجلس السياسي الأعلى التابع لسلطة الحوثيين وقُتل في غارة جوية للتحالف العربي في أبريل 2018، وتغيير أيضاً اسمُ مدرسة في ريف صنعاء من علي عبدالمغني، قائد الضباط الأحرار في ثورة 26 سبتمبر، إلى مدرسة الحسن بن عليّ.
واستغلَّ الحوثيون انخراط السعودية في الحرب باستدعاء تاريخها وموقفها المعادي للثورة والجمهورية في اليمن، بعدِّها "العدو التاريخي لليمن". حفّزت جماعة الحوثي ذاكرة اليمنيين بأن السعودية كانت دائماً على النقيض من تطلعاتهم. نجح هذا الخطاب في تحييد كثيرين، وقد عزَّز من ذلك تضارب الأولويات السعودية والإماراتية. فقد دعمت الإمارات فصائل معادية للحكومة المعترف بها دولياً، وواصلت السعودية سياستها المتوجسة من حزب الإصلاح، امتداداً لموقفها من الإخوان المسلمين بعد الربيع العربي، وتهميش القوى السياسية المدنية، وإبقاء الحكومة في ضعف وتبعية. أصبحت المقولة المفضلة لقادة جماعة الحوثي الناشطين على مواقع التواصل هي تلك التي تفيد بأنه "لا يمكن الاعتماد على دول بأنظمة وراثية في استعادة الجمهورية". المفارقة أن تأتي هذه المقولة ممن يعملون على استعادة الإمامة.
لم يكن الوضع حين نشر علي محمد زيد كتابه "الثقافة الجمهورية في اليمن"، المشار إليه آنفاً، كما كان قبلها بسنوات قليلة. إذ تزامن النشر مع تحولات سياسية أهمها سقوط صنعاء وانقلاب الحوثي وصالح على الحكومة. أدت هذه التحولات إلى انتهاء مرحلة عدم الاكتراث بالجمهورية، فزاد الاحتفاء بثورة سبتمبر والمناسبات الوطنية. ومع الإشارات المتزايدة إلى الحوثيين بعودة نظام الإمامة أصبح الخطر على الجمهورية وجودياً، ولم يعد التمسك بها ترفاً. عبَّر هذا الوعي الجديد عن نفسه بمقاومة بأشكالٍ متعددة، ظلت تتطور بالقدر الذي يحاول فيه الحوثيون الترويج لتصوراتهم الطائفية المعادية للنظام الجمهوري.
حالت عدة عوامل دون احتلال المقاومة صدرَ المشهد أَوَّلَ الأمر. منها التدخل السعودي في الحرب، وانقسام القوى السياسية اليمنية وعدم تصريح جماعة الحوثي بمعاداة النظام الجمهوري. فمع تدخل التحالف العربي بقيادة السعودية أواخرَ مارس 2015، تعددت عناوين الصراع. فهي من وجهة نظر جماعة الحوثي حرب في مواجهة عدوان أجنبي. ومن وجهة نظر الحكومة التي تحظى باعتراف دولي، وتسيطر على مناطق جنوب البلاد وشرقها حرب ضد انقلاب. ومن وجهة نظر السعودية حرب عربية في مواجهة أطماع الفرس. هذا الانقسام هو الذي سمح بعودة الإمامة شيئاً فشيئاً، بتأجيله مقاومتها وتحجيمها.
ومع تمكن الحوثيين وازدحام المجال العام بالتعبيرات المعادية للجمهورية، بدأت المقاومة. كان أول ظهورها بالرمز، ومن أبعد نقطة عن السلطة. فكثر استدعاء تاريخ اليمن قبل الإسلام إلى الفضاء العام، وزاد الاهتمام بخط المسند. إذ برز تيار سياسي وثقافي ينشط على مواقع التواصل الاجتماعي يمجّد القومية اليمنية ويسمّي منتسبوه أنفسهم "الأقيال" وهي تسمية لمن كانوا بمثابة حكَّام محليين لمناطقهم في الدول اليمنية القديمة، وهي ردة فعل على ادَّعاءات الحوثيين بأنهم ينتمون إلى سلالة النبي محمد والادعاء بأن لهم حقاً إلهياً في الحكم. وتناقل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقطعاً لطفلة ترفض ترديد شعارِ الجماعة في طابور الصباح بالمدرسة. ثم انتشرت عادات اجتماعية جديدة، منها تزيين واجهات المنازل بالأعلام الوطنية، وإنشاد الأغاني الوطنية في حفلات التخرج في الجامعة. وأقصى ما وصلت له المقاومة بالرموز في جنازات الشخصيات الوطنية التي أسست الجمهورية في اليمن، مثل الشاعر عبدالعزيز المقالح الذي توفى أواخر سنة 2022، إذ احتشد عشرات الآلاف خلف الجنازة. في هذه المناسبات يحضر التوق الجمهوري وتغيب شعارات جماعة الحوثي وأعلامها.
ومن العادات الجديدة كذلك عزف النشيد الوطني وترديده في قاعات الأعراس. إذ ينتظر الأهل والمدعوون باللباس التقليدي، ويمضغون أوراق القات، ومعهم فرقة غنائية كما هي العادة في المدن اليمنية. وما إن يصل العريس إلى القاعة، حتى يعزف النشيد الوطني، ويردده الحضور وقد وقفوا بإجلال. وقد تمتد المشاهد ليظهر الطير الجمهوري خلف الكرسي الذي يجلس عليه العريس. هذه الأعراس هي غالباً للطبقة الوسطى التي فرضت عليها مصالحها البقاء تحت سلطة جماعة الحوثي لكنها ترفض الرضوخ لهيمنتها الكاملة، وما تلبث أن تقتنص أي فرصة متاحة للتعبير عن تمسكها بقيم الجمهورية. كلمات النشيد توضح ذلك، فهي تشدد على قيم الجمهورية والوحدة والانتماء للعروبة والإنسانية. تبدأ من التأكيد على تذكر شهداء الجمهورية في كل فرحة وتنتهي برفض الوصاية الأجنبية.
لم تكن مظاهرات 26 سبتمبر 2023 وليدة اللحظة، بل جاءت نتيجة تراكمات من المقاومة الرمزية والصامتة. خرجت هذه المظاهرات إلى الشارع بعدما تزايدت دوافعها، وتغيرت الظروف التي كانت تعيق ظهورها. كانت جماعة الحوثي تبرِّر استخدامَ الحرب والحصار للحد من أي تعبير احتجاجي بشعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ومع إعلان الهدنة العسكرية، تحوّل الخطاب الرسمي، إذ بدأت السعودية في التعامل مع الحوثيين بودٍّ بعد أن كانوا يُعدّون أعداءً. أثار هذا التغير مخاوف بين عامة الناس من أن التفاهم بين السعودية وإيران قد يؤدي إلى انسحاب السعودية من اليمن، مما يتيح لجماعة الحوثي السيطرة الكاملة على البلاد، وهو ما قد يشكل تحدياً كبيراً لمستقبل الجمهورية في اليمن.
وفي الوقت نفسه ازداد الغضب الشعبي على حكم الحوثي. تسارعت وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية، في الأشهر التي سبقت ذكرى سبتمبر، فطالب المعلمون برواتبهم وأعلنوا الإضراب الشامل، وكثر النقد البرلماني لفساد رجال السلطة، وعجت مواقع التواصل الاجتماعي بالحديث عن الإتاوات والضرائب التي يفرضها الحوثيون على الشعب ولا يقدمون أية خدمات.
حاول الحوثيون الاستفادة من الغضب الشعبي لتعزيز موقفهم، متصرفين كما لو كانوا خارج دائرة السلطة. وبدلاً من تقديم تنازلات لخصومهم، ظهر عبد الملك الحوثي في خطاب معلناً عن نية إجراء تغييرات كبيرة، شملت إعادة تشكيل الحكومة، مما يعني استبعاد الوزراء المحسوبين على المؤتمر الشعبي العام، حزب صالح الحاكم سابقاً، وحل البرلمان، الذي يملك الحوثيون فيه تمثيلاً محدوداً. وفقاً لما قاله مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي الأعلى في صنعاء، كانت الجماعة تسعى إلى تحويل الأزمة إلى فرصة لتعزيز نفوذها، مستفيدة من الأوضاع كما فعلت سابقاً في الحرب لإسكات معارضيها.
أخطأت حساباتُ الجماعة هذه المرة. استُقبل خطاب عبد الملك الحوثي بغضب واسع، وكثرت التساؤلات على مواقع التواصل الاجتماعي عن الشرعية التي يستند إليها في إعلانه إجراء تغييرات جذرية. لم يكن الأمر، كما كان في السابق، مخالفةً للقانون أو الدستور كما كان يُقاس في أفعال صالح والرؤساء من قبله، بل رأى المعارضون في قرارات الحوثي هدماً للدستور بالاستناد إلى شرعية من خارجه. يمكن مقارنة ذلك بتصريح رئيس الكتلة البرلمانية لحزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم نهايةَ سنة 2010، عندما قال إن نواب الحزب سيخلعون عداد الفترة الرئاسية لصالح، مما يجعله يبقى في الحكم بغض النظر عن الدستور أو إجراء تعديلات دستورية. أسهم هذا التصريح، بحسب المراقبين، في إضفاء الزخم على الاحتجاجات التي اندلعت في شهر فبراير من سنة 2011، وأدى إلى انضمام قطاعات شعبية واسعة لها. وهو ما تكرر عقب تصريحات عبد الملك الحوثي، التي دفعت الجماهير إلى الخروج عشية 26 سبتمبر.
وضع الخروج المفاجئ للجماهير اليمنَ في مفترق طرق، مما دفع عبد الملك الحوثي إلى إعلان تجميد التغييرات الجذرية، وأصدرَ رئيس المجلس السياسي الأعلى قراراً بإقالة الحكومة وتكليفها بتصريف الأعمال. ومع ذلك لم يعد الوضع إلى ما كان عليه، إذ أعادت المظاهرات قضية الجمهورية والصراع بينها وبين الإمامة إلى قلب المشهد السياسي.
أما جماعة الحوثي فقد أربكها هذا التحرك الشعبي، وقسَّم قادتها إلى قسمين؛ أحدهما يسعى إلى احتواء الجماهير واسترضائها بمدح ثورة سبتمبر وإعلان التمسك بالنظام الجمهوري، بينما يدعو الآخر إلى مواجهة شاملة ويعبر عن عدائه للجمهورية ودعمه لمشروع الإمامة. ويشير هذا الانقسام إلى مخاوف الجماعة من قوة فكرة الجمهورية، وعدم ثقتها في قدرتها على إلغائها. وأما المتظاهرون الذين تأكدوا من قدرتهم على التصدي للحوثيين، فقد أظهروا أن دفاعهم عن الجمهورية ما يزال أخلاقياً أكثر منه سياسياً.
تشير الأحداث الأخيرة إلى أن الصراع بين الجمهورية والإمامة لم يُحسم بعد، بل عاد مع تعاظم التحديات التي تواجهها جماعة الحوثي. فالمظاهرات التي شهدتها البلاد في ذكرى ثورة 26 سبتمبر لم تكن احتجاجات عابرة، بل وشت بالوعي المتجدد بأهمية الحفاظ على مكتسبات الجمهورية. ومع الهيمنة العسكرية والسياسية للحوثيين ظلّت الروح الجمهورية حية في وجدان كثيرين.