تثير وفاة رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إبراهيم رئيسي، ووزير خارجيته، حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية في 19 مايو/ أيار، تساؤلات حول تداعيات غيابهم على السياسة الخارجية للبلاد تجاه اليمن؛ لكن الإجابة واضحةً ومباشرةً بالنسبة لتأثير هذه المتغيرات على المدى القصير، حيث أن وفاة رئيسي سيكون لها تأثير هامشي على السياسة الخارجية الإيرانية بشكل عام، وسياستها تجاه اليمن بشكل خاص.
المشهد ضبابي نوعاً ما، على المدى المتوسط إلى البعيد، ويعتمد على خليفة المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، الذي يبلغ من العمر 85 عامًا ويعاني من مرض السرطان. بما أن رئيسي كان أحد المرشحين المحتملين لخلافة المرشد الأعلى، فقد غيّرت وفاته الديناميكيات وشوَّش المشهد ببعض الغموض؛ ولكن تظل استمرارية سياسة النظام هي الاحتمالية الأكثر ترجيحًا عند انتقال الزعامة إلى زعيم جديد. أما في حال تعرقلت عملية الانتقال، فَمن المتوقع أن تتأثر السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية. وفي ضوء الأهمية الكبيرة التي يشكلها دعم إيران للحوثيين لتطور الحرب الأهلية في اليمن، من الضروري التعمّق في تقييم الوضع.
يرجع الاستنتاج القائل بأن وفاة رئيسي لن يكون لها تأثير ملموس على المدى القصير، إلى طبيعة صنع السياسات الخارجية وسياسات الأمن القومي في النظام المعقد للجمهورية الإسلامية، حيث أن المرشد الأعلى هو صاحب الصلاحيات المطلقة في صنع القرار، بينما يلعب الحرس الثوري أيضاً دورًا محوريًا في وضع السياسات وتطبيقها. للرئيس كلمته أيضًا في السياسة الخارجية، لكن صوته ليس سوى صوت واحد من بين أصوات كثيرة في كوكبة الجهات الفاعلة والمؤسسات التي تُشكّل النظام، حيث يتولى الرئيس غالبًا، بجانب وزارة الخارجية، مسؤولية تنفيذ السياسة الخارجية، ويؤدي أيضًا دورًا في تحديد نبرتها، وذلك بفضل مكانته العالية.
وبالتالي ، ينبغي أن نتوقع استمرارية السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية على المدى القصير، ففوز المرشح الإصلاحي الوحيد مسعود بيزشكيان في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في 5 يوليو/ تموز، لن يُحدث تغييرًا كبيرًا، حيث سيظل المرشد الأعلى وحلفاؤه المحافظون والمتشددون، وخاصة في الحرس الثوري ، يسيطرون على مفاصل سلطة الدولة الإيرانية، بما في ذلك السياسة الخارجية، مع مواصلة التوجهات الأخيرة في تلك السياسة، ولا سيما الجهود الرامية إلى تعميق العلاقات مع دول آسيا ومع روسيا وإدارة التوترات مع المملكة العربية السعودية بشكل أفضل. من الواضح أن خامنئي جعل من أولوياته خلال الفترة الانتقالية الرئاسية توجيه رسائل إلى الداخل والخارج باستمرار تلك السياسات، بهدف إبراز صورة عن قوة الدولة وقدرتها على التأقلم.
نهج إيران إزاء الحرب في اليمن لن يكون مختلفًا، وبالتالي لن يتغير على المدى القصير، حيث أن الدعم الإيراني للحوثيين حقق عائدًا كبيرًا للجمهورية الإسلامية مقارنة بحجم الاستثمار الضئيل نسبياً، كما لا تظهر خلافات كبيرة داخل النظام بشأن السياسة تجاه اليمن. فضلا عن ذلك، تعمّقت العلاقات مع الحوثيين وأخذت طابعا مؤسسيا: فعلى سبيل المثال، أصبح الحوثيون مندمجين في شبكات التهريب العالمية التابعة للجمهورية الإسلامية، والتي من خلالها تزودهم بقطع غيار متطورة لأسلحة مثل الصواريخ والطائرات المسيرة.
بما أن العلاقات بين إيران وجماعة الحوثيين يديرها الحرس الثوري الإيراني، وهو المسؤول عن رفع التقارير إلى المرشد الأعلى، فإن هوية الرئيس الجديد لن تؤثر تأثيرًا ملحوظًا في هذا الدعم. بنفس المنطق، فإن قدوم الرئيس مسعود بيزشكيان لن يغير من سياسة طهران في دعم العملية السياسية بين السعودية وجماعة الحوثيين. وبما أن الحوثيين انتصروا فعلياً في الحرب في اليمن، ترى الجمهورية الإسلامية – وحساباتها صحيحة – أن هذه العملية لن تؤدي إلى مصالحة وطنية، بل ستساعد في ترسيخ سلطة الحوثيين وإضفاء الشرعية عليها، وهذه هي النتيجة التي تؤيدها إيران بشكل تام.
على المدى البعيد، هناك حالة من عدم اليقين إزاء العواقب المترتبة على وفاة رئيسي، حيث من الممكن أن تتغير القيود الهيكلية التي تُعلل استمرار هذه السياسة الخارجية على المدى القصير، حتى ولو تغييرًا طفيفًا.
كان يُنظر إلى رئيسي على نطاق واسع باعتباره أحد المرشحين الرئيسيين لخلافة خامنئي، وكان منخرطاً في عملية البحث عن مرشحين، وإن لم يكن فوزه أمرًا مضمونًا، فحتى قبل وفاته، اكتنف الغموض سباق الزعامة مع انعدام القدرة على التنبؤ بنتائجه. مع ذلك، كان هناك مؤيدون لترشحه من داخل النظام، حيث كان شخصية تمثل (نوعاً ما) أدنى قاسم مشترك: أي مرشح ضعيف وطيّع، مخلص للنظام، يضمن الحفاظ على الوضع القائم دون تهديد صلاحيات وامتيازات مراكز النفوذ والسلطة الرئيسية.
غيرت وفاة رئيسي هذه الديناميكيات، لا سيما وأن مسألة الخلافة كانت تحمل أساساً في طياتها خطر زعزعة الاستقرار نسبياً، إلى جانب خطر أقل يتمثل في أنها قد تُخل بالنظام. ورُغم أن وفاة رئيسي لا تعني ارتفاع مستوى هذه المخاطر بشكل خارج عن السيطرة، إلا أنها تزيد من هذه المخاطر إلى حد ما.
مع ذلك، لا تجب المغالاة في تداعيات حالة عدم اليقين هذه وما قد ينجم عنها من تزعزع محتمل في الاستقرار: فالجمهورية الإسلامية تتحلى بالقدرة على التأقلم مع المتغيرات أكثر مما يُعتقد في كثير من الأحيان، رُغم مواطن الضعف الكبيرة، لا سيما بسبب الضغوط الاقتصادية المتنامية وتزايد حالة الاستياء بين الشعب من قمع النظام ووحشيته وفساده. لكن النظام وُلد من رحم الأزمات، وظل يواجه أزمة تلو أخرى وينجو منها على مدى 45 عامًا.
في السنوات الأخيرة، كان من أهم أولويات المرشد الأعلى الحالي ضمان بقاء النظام، حيث رفع المحافظين والمتشددين إلى مناصب ذات سلطة وهمّش الإصلاحيين والمعتدلين نسبياً؛ لذا ستمثل وفاته (أي المرشد الأعلى) فيما بعد إحدى أهم التحديات التي واجهتها الجمهورية الإسلامية منذ نشأتها، لكن النظام يتمتع بقدرة كبيرة على تحمل واستيعاب الصدمات، كما أن الأفراد والفصائل البارزة سيكافحون بشدة من أجل تنصيب أنفسهم أو دعم مرشحهم المفضل، إلا أن لهم جميعًا مصلحة راسخة في بقاء النظام.
على هذا الأساس، وبقدر ما ستهز وفاة خامنئي النظام، إلا أن استمرارية النظام هي السيناريو الأكثر ترجيحًا. فعلى سبيل المثال، أحد السيناريوهات المحتملة هو أن تتفق مراكز السلطة الرئيسية في النظام على مرشح ضعيف لا يهدد مناصبهم مثل رئيسي، لكن هذا السيناريو قد يؤدي مع مرور الوقت إلى تعمّق الخلافات الداخلية في النظام، بحيث يصبح المرشد الأعلى أكثر ضعفًا وأقل قدرةً على حلحلتها.
هنالك سيناريوهات أخرى واردة أيضًا، لكنها أقل احتمالًا، كَنشوء نزاع حول الخلافة يؤدي لتحوّل تركيز النظام إلى الداخل وتشتت انتباهه بسبب الخلافات والنزاعات الداخلية.
من الصعب التنبؤ بتبعات هذه السيناريوهات على السياسة الخارجية لإيران، لكن التوقعات الأكثر ترجيحًا على المدى البعيد هي أن انتقال الزعامة في نهاية المطاف لن يُحدث تغييرات جوهرية في السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية. حتى في السيناريوهات المعقدة التي يشتد فيها التنافس بين الفصائل لخلافة زعيم كخامئني أو خلافة زعيم أضعف منه، من المرجح أن تستمر الجمهورية الإسلامية في دعم عدد كبير من الجهات الفاعلة المسلحة غير الحكومية في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك جماعة الحوثيين، حيث يُنظر إلى هذه الجماعات على أنها أصول ثمينة وضرورية لإيران ليس فقط لاستعراض النفوذ والقوة، بل لحماية النظام نفسه.
بما أن السيناريوهات الانتقالية الأكثر تحديًا وإثارةً للجدل تبقى واردة (وإن كانت أقل احتمالًا)، يُحتمل أن تتغير السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية بشكل أكبر من مجرد تغيير هامشي، لكن لا يمكن التنبؤ بطبيعة هذا التغيير في هذه المرحلة. فمن ناحية، قد يؤدي عدم الاستقرار الداخلي المطول (في أعقاب تنافس شديد لخلافة الزعامة) إلى حالة من التقشف: ففي هذا السيناريو، ستقلص الجمهورية الإسلامية (التي تركز على الداخل) من الإنفاق على بعض جوانب سياستها الخارجية، وهنا، من الممكن أن ينخفض الدعم المقدم للحوثيين: فَرغم أن انخراط إيران في اليمن حقق لها مكاسب ملموسة، لكنه لا يشكل أهمية لأمنها القومي نظرًا لأن إيران تدعم حزب الله اللبناني أو الميليشيات الشيعية العراقية على جانبها الغربي، فضلًا عن أن الحوثيين يعتمدون نسبيًا على أنفسهم مقارنةً بمعظم الجماعات الأخرى التي تدعمها إيران.
من ناحية أخرى، فإن عدم الاستقرار الداخلي المطول قد يدفع النظام إلى مضاعفة جهوده بدلًا من التراجع. فقد تضاعف الجمهورية الإسلامية دعمها لشركائها المسلحين غير الحكوميين في دول أخرى، خوفًا من أن يستغل خصومها نقاط ضعفها. يتسق ذلك مع إحدى ركائز عقيدتها الدفاعية: وهي تصدير الزعزعة وانعدام الأمن إلى الخارج، بعيدًا عن حدودها، من خلال إنشاء وسائل للانتقام من الخصوم ورفع كُلفة سياساتهم الرامية إلى الضغط على الجمهورية الإسلامية.
بالنظر إلى نجاح طهران في فرض تكاليف كبيرة على المملكة العربية السعودية من خلال دعمها للحوثيين، قد يتوقع المرء (تحت هذا السيناريو) أن تزيد الجمهورية الإسلامية من هذا الدعم أو أن تعمل مع الحوثيين لردع الرياض ومنعها من استغلال نقاط الضعف لدى إيران. وبهذا، ستحاول طهران إرسال إشارة واضحة إلى خصومها وكذلك إلى شركائها بقدرتها على الصمود.
خلاصة القول، من المرجح ألا تؤدي وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي وانتخاب مسعود بيزشكيان خلفاً له إلى أي تحولات جذرية في السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية إزاء اليمن. لكن على المدى البعيد، ستزيد وفاة الرئيس السابق من حالة عدم اليقين بشأن النظام في إيران لا سيما عند وفاة المرشد الأعلى الحالي، آية الله علي خامنئي (كونه كان مرشحا لخلافته). ورغم أنه من المبكر التنبؤ بتداعيات ذلك، يمكن التكهن بأن سياسة الجمهورية الإسلامية في دعم الحوثيين ستشهد بعض التغيرات في حينه.
لقرأة المقال من موقعه الاصلي:
https://sanaacenter.org/ar/the-yemen-review/april-june-2024/23217