بِلحية طويلة حمراء ووجه مستطيل وعمامة بيضاء غير تقليدية وصوت فريد لا تُخطئه أُذن المستمع، كان عبدالمجيد الزنداني الوجه السياسي/ الديني الأشهر غالبا في اليمن خلال الخمسين عاما الماضية، وشخصية أثارت جدلا مستمرا حتى بعد وفاته في 22 أبريل/ نيسان بإسطنبول عن عُمر 82 عاما.
وُلد عبدالمجيد الزنداني بمديرية الشعر في محافظة إب عام 1942، وتعلّم في كُتّابها أبجديته الأولى، قبل انتقاله إلى عدن لمواصلة تعليمه ومنها إلى القاهرة، التي كانت أول محطة خارجية بدأ منها مسيرته السياسية الحافلة بين اليمن ومصر والسعودية وأفغانستان، وأخيرا تركيا.
في خمسينيات القرن الماضي، انتمى الزنداني لحركة القوميين العرب بالقاهرة، لكن سرعان ما انسحب منها بعد فشله في أسلمة توجّهها أو سلوكيات عناصرها، ليُكوّن أواخر الخمسينيات ما عُرف بـ “خلية الحياد” بالشراكة مع عبده محمد المخلافي، يمني كان يُقيم في مصر. شكّلت الخلية عام 1961 نواة أول تنظيم إسلامي لليمنيين بمصر، حيث كانت لها روابط مع جمعية الشبان المسلمين المصريين بِطنطا عبر الشيخ الأزهري كمال عون. تطورت لاحقاً كَكيان تنظيمي للفرع اليمني للإخوان المسلمين بمصر، برعاية الزنداني والمخلافي وكذلك محمد محمود الزبيري – أحد أبرز وجوه ثورة 26 سبتمبر 1962 التي أطاحت بحكم الإمامة في اليمن. تكتّم الزنداني -حينها- عن دور الزبيري المحوري في قيادة التنظيم – برغبة من الأخير – ولم تظهر طبيعة ذلك الدور للعامة سوى بعد فترة طويلة.
ظل الرجلان رفيقان منذ لقائهما الأول في مصر، وكان الزبيري من قدم الزنداني للثوار بعد عودتهما إلى اليمن، حيث مكّنته هذه العلاقات من الظهور عبر إذاعة صنعاء ببرنامج “الدين والثورة”. ومن تاريخه، لم يتوقف الزنداني عن ربط الدين بكل فكرة وكل جانب من جوانب الحياة العامة والخاصة.
تشوب رحلة الزنداني في مصر جوانب غموض لم تُكشف حتى الآن، منها مثلاً سبب مغادرته جامعة عين شمس التي بدأ فيها دراسة الصيدلة. لطالما جذبه هذا التخصص، وهو غالبا ما ألهمه فكرة تأسيس هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة بالسعودية، ووراء ما أثاره من جدل بما ادعاه من ابتكار أدوية تستند إلى الطب النبوي لمعالجة أمراض مستعصية كَالإيدز وسرطان الدم – حسب قوله.
بعد اغتيال الزبيري عام 1965، هرب الزنداني إلى عدن وقام هناك بإدارة معهد النور العلمي – وهو معهد ديني لأحد رموز الحركة الإسلامية في عدن “محمد سالم البيحاني”. عاد إلى صنعاء بعد انقلاب نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 في شمال اليمن، وإعلان استقلال الجنوب، ليبدأ مرحلة جديدة وضع بها بصمته المباشرة على التعليم في اليمن عبر تأليف كتاب “التوحيد” الذي أُدرج وبَقي في المنهج التعليمي بالمدارس لأكثر من ثلاثة عقود.
رَكَب الزنداني كل موجة ذات طابع ديني، حيث كسى الأفكار والمفاهيم السياسية بكساء الدين في خُطبه. فَقد ذهب إلى أفغانستان والتقى بالقياديين الجهاديين “عبدالله عزام” و”أسامة بن لادن” الذي ذكره في مذكراته المعروفة بوثائق أبوت أباد[1]. هذا دفع البعض لوصفه لاحقا بالأستاذ والمرشد سابقاً لبِن لادن الذي تولى فيما بعد زعامة تنظيم القاعدة. في فترة الثمانينات، كان الزنداني أحد رواد التنظير للجهاد ضد الشيوعية، واُعتُبر أحد عرابي الأفغان العرب (أو المجاهدين العرب) حينها. وقد نعاه تنظيم القاعدة في جزيرة العرب بعد وفاته ببيان على موقع صدى الملاحم (التابع للتنظيم)، واصفاً إياه أنه “من السباقين للجهاد بالنفس والمال واللسان”.
توطدت علاقة الزنداني بالأفغان العرب (المجاهدين العرب)، حيث شجعهم على القدوم إلى اليمن – بعد انقضاء مرحلة الحرب ضد السوفييت. شرع الزنداني لاحقاً في تعبئة هذه الفئة كجيش إسلامي لمحاربة الحزب الاشتراكي اليمني خلال حرب 1994. كان الزنداني أبرز المنظرين لهذه الحرب الأهلية، كَحرب دينية ضد “الشيوعية اليمنية” وليست حرباً وطنية أو دفاعا عن الوحدة كما اعتبرها الرئيس آنذاك علي عبدالله صالح.
يُعزى نفوذ وتأثير الزنداني خلال تلك الفترة (بصورة جزئية) إلى منصبه كمؤسس ورئيس لمجلس شورى حزب الإصلاح (المعروف رسميا باسم التجمع اليمني للإصلاح). حظي الحزب السياسي الإسلامي – الذي تأسس عام 1990 بدعم من صالح كَثقل مُوازن للاشتراكيين – بدعم القبائل الشمالية والإخوان المسلمين اليمنيين. وعقب نتائج الانتخابات البرلمانية اليمنية لعام 1993، التي حصل فيها حزب الإصلاح على ثاني أكبر عدد من المقاعد البرلمانية بعد حزب المؤتمر الشعبي العام بقيادة علي عبدالله صالح، أُختير الزنداني عضوا في مجلس رئاسة دولة الوحدة (ممثلاً للإصلاح). ومن خلال منصبه هذا، استمر في حربه الهوجاء ضد نص الدستور الجديد حتى نجح في الضغط من أجل تعديل أبرز مواد الخلاف بعد حرب 1994، ومن ضمن التعديلات التي أجريت على الدستور هو النص بأن الشريعة الإسلامية هي مصدر كافة التشريعات (وليس فقط المصدر الرئيسي) – وهي إحدى بصمات الزنداني.
في عز تحالفه مع الرئيس السابق، منحه صالح أرضا واسعة لتأسيس جامعة الإيمان. كما دافع الأخير عن الزنداني عندما أدرجته وزارة الخزانة الأمريكية عام 2004، في قائمتها كداعم للإرهاب ورفض مراراً تسليمه للولايات المتحدة حينها. أصبحت جامعة الإيمان لاحقاً حاضنة لآلاف المتشددين من مختلف دول العالم، وفي إطارها عزّز الزنداني أيضاً أفكاره المثيرة للجدل حول علاج الأمراض المستعصية، لكنه رفض الكشف عن تركيبة هذه العلاجات البديلة بذريعة الخوف من سرقة ابتكاره. وقد عرضه ذلك لانتقادات من العديد من اليمنيين، خاصة من خارج دائرة الإسلاميين ممن اتهموه بالنصب والدجل.
أثار الزنداني ضجة واسعة أخرى لدوره في تأسيس الشركة اليمنية للأسماك والأحياء البحرية. ففي ذروة حضوره، منحه تأثيره المعنوي عصاة سحرية لحشد البشر والمال متى شاء، وقد شاهدت شخصياً في أحد الأيام عام 1993م رجلين يحملان على ظهريهما أكياسا كبيرة معبأة بالريالات اليمنية كزكاة لأموالهم لصرفها عبر جمعية خيرية مرتبطة بالزنداني. بالنسبة للشركة اليمنية للأسماك والأحياء البحرية، تدافع اليمنيون لشراء أسهماً في الشركة منتصف التسعينات، ثقة بشخصية الزنداني، ولكن المساهمين – وبعد نحو ثلاثة عقود – لم يحصلوا على أرباح ولم يستردوا حتى أموالهم المستثمرة التي لم يُعرف مصيرها.
شكّلت انتفاضة 2011 أول فك ارتباط بين الزنداني وعلي عبدالله صالح، حين برز الزنداني كمُناصر لانتفاضة الشباب ضد نظام صالح، وألقى خطابه أمام حشود المتظاهرين الشباب عام 2011 وفيه كلمته الشهيرة “أحرجتمونا“، باعتبار أنهم استطاعوا مواجهة صالح وأعضاء حكومته وفعلوا ما لم يستطع الجيل الأكبر سنا من قادة المعارضة فعله.
برز الزنداني لاحقاً -كعادته- ضد أي حديث عن الدولة المدنية، واعتبر مؤتمر الحوار الوطني مناهضا للدين في 2013، بحُكم كونه من أنصار دولة الخلافة الإسلامية ومؤمن طوال مسيرته بمبدأ “الحاكمية لله” – وفق مفهوم المفكر الإسلامي المصري سيد قطب. لكن أبرز مواقفه كانت فتواه التي أصدرها (كرجل دين) بدفع خُمس الأموال العامة المحصلة من الزكاة إلى المسلمين المنحدرين من آل بيت الرسول محمد، أي بعبارة أخرى طبقة الهاشميين.
أثار هذان الموقفان خاصة “فتوى الخمس”، حفيظة اليمنيين بمن فيهم أتباعه المناهضين للحوثيين، بسبب تزامنها (الفتوى) مع صعود جماعة الحوثيين ممن اعتبروا أنفسهم ممثلين حصريين لآل البيت (أي سلالة النبي محمد)، وورثة الزعامة الدينية والدنيوية حسب خطابهم المتمثل في مبدأ (الولاية).
بمجرد إمساكها بزمام السلطة، عدّلت سلطات الحوثيين بدورها لوائح الزكاة لتذهب غالباً لصالح مَن يعتبرونهم في الوقت الحالي من سلالة آل البيت، ليذكروا اليمنيين بفتوى الزنداني التي لم تشفع له عند الجماعة حين اجتاحت عام 2014، بل وكانت جامعة الإيمان إحدى الوجهات الأولى للحوثيين عقب سقوط العاصمة بأيديهم، ولاتزال بقبضتهم حتى اليوم.
لم يجازف الزنداني بالبقاء في العاصمة صنعاء حينها، حيث فرّ إلى تعز ثم إلى السعودية – في رواية هروب أسطَرَها الرجل كعادته كَرحلة استثنائية بل وحتى معجزة، بالقول أنه مرّ بأكثر من 31 نقطة تفتيش تابعة للحوثيين دون أن يستوقفه أحد سوى على مشارف مأرب، في نقطة تفتيش صادف أنها تابعة للحكومة المعترف بها دوليا.
لم تدم إقامته في السعودية طويلاً، فَقد ضيقت عليه الرياض ولم تمنحه حرية الحديث، ليجد طريقه للخروج منها إلى الملاذ الأخير: تركيا، التي يعتبرها الزنداني ومؤيدوه حاضنة دولة الخلافة الجديدة. قضى فيها السنوات الأربع الأخيرة من حياته حتى وفاته، ومنها أعلن آخر مواقفه المناصرة لفلسطين بوجوب الجهاد هناك.
لقرأة المقال من موقعه الاصلي:
https://sanaacenter.org/ar/the-yemen-review/april-june-2024/23206