تحليل: الجانب الآخر من المضيق.. الأهمية الاستراتيجية لعدوان الحوثي على شرق أفريقيا
يمن فيوتشر - (مركز بيلفر الأمريكي)- ترجمة: ناهد عبدالعليم السبت, 09 مارس, 2024 - 12:14 مساءً
تحليل: الجانب الآخر من المضيق.. الأهمية الاستراتيجية لعدوان الحوثي على شرق أفريقيا

يشتبك المسلحون المدعومون من إيران في اليمن مع القوات البحرية الأمريكية والبريطانية في البحر الأحمر بسبب العمليات الإسرائيلية في غزة، وكل ذلك في رقصة معقدة من أجل النفوذ الجيوسياسي في الشرق الأوسط. ومع ذلك، هناك منطقة أخرى لها مصلحة في الصراع الذي يختمر في مضيق باب المندب، وهي منطقة تبدو خارج نطاق العالم - القرن الأفريقي.

الهجمات التي تشنها مليشيا الحوثيين -وهي جماعة مليشياوية شيعية يمنية- على السفن التجارية تُعرّض دول شرق أفريقيا لخطر تراجع اقتصادي حاد ولها القدرة على تفاقم عدم الاستقرار السياسي في منطقة هشة بالفعل. كما يؤثر تعطل الشحنات في البحر الأحمر بشكلٍ متضاعف على هذه الاقتصادات التي تعتمد بشكل كبير على التجارة. وقد تزيد النتائج الناجمة عن تعطل التدفقات التجارية أيضاً من تفاقم الأزمات الإنسانية القائمة وتصعيد التوترات الإقليمية المستمرة. وإذا تفاقمت الحالة بشكل أكبر، فقد يتأثر الممثلون الإقليميون والعالميون الذين لديهم مصالح في شرق أفريقيا إلى حد يجعلهم يغيرون موقفهم الاستراتيجي تجاه المنطقة.

 

• *هجمات الحوثيين تحوّل شحنات البحر الأحمر:* 

في وقت متأخر من الخريف الماضي، بدأ الحوثيون في استخدام صواريخ بالستية مُضادة للسفن تُطلق من معقلهم في شمال غرب اليمن، بالإضافة إلى قوارب صغيرة وطائرات مُسيّرة، لاستهداف وحتى اختطاف السفن التجارية في مضيق باب المندب. وقد ظهرت حركة الحوثيين من المنطقة الجبلية في شمال اليمن، وأصبحت حملتهم نقطة تركيز لديناميات القِوى الإقليمية. كما أن طهران هي التي تمولهم وتسلحهم، ويدعي الحوثيون أن التعطيل الاقتصادي هو وسيلة للضغط على إسرائيل لوقف عملياتها في غزة.

ومنذ الضربة الأولى في 19 نوڤمبر/ تشرين الثاني، شن الحوثيون أكثر من 57 هجوما على سُفنٍ عسكرية وتجارية مدنية، بالإضافة إلى إطلاق طائراتٍ مُسيّرة وصواريخ على سُفن بحرية أمريكية وبريطانية. ونتيجة لذلك، فإن هناك اضطرابات كبيرة في الشحن العالمي؛ فحسب تحليل قامت به شركة (Flexport) للخدمات اللوجستية العالمية، فقد تم تحويل ما يقرب من 25% من حجم الشحن الدولي من البحر الأحمر أو سيتم تحويله.

كما تأثرت مباشرة الاقتصادات في دول شرق أفريقيا التي تعتمد بشكلٍ كبير على الواردات والصادرات البحرية عبر الشريان الحيوي لمضيق باب المندب. وعلى وجه الخصوص، قلصت الهجمات النشاط في ميناءين إقليميين حيويين: ميناء جيبوتي وميناء السودان. على سبيل المثال، في 19 يناير/ كانون الثاني، أعلنت شركة "مارسك" الدنماركية تعليق حجوزاتها إلى جيبوتي من آسيا والشرق الأوسط وأوقيانوسيا وشرق أفريقيا وجنوب أفريقيا.

 أيضا، أثرت الحالة بشكلٍ واضح على جميع الشحنات عبر البحر الأحمر، حيث إن حوالى 150 سفينة عبرت قناة السويس في أول أسبوعين من عام 2024، مقارنة بـ400 سفينة في أول أسبوعين من عام 2023.

 

• *تأثير تراجع التجارة البحرية على اقتصادات شرق أفريقيا:* 

التجارة مع أوروبا وآسيا تُعد أمرا حاسما لمعظم اقتصادات قرن أفريقيا. ومع استمرار النزاع، يمكن أن يكون لتراجع النشاط الاقتصادي المستمر آثار خطيرة عبر المنطقة.

 

 • *اضطرابات التجارة:* 

يُعد ميناء جيبوتي، أكبر ميناء في قرن أفريقيا، وأمرا أساسيا بالنسبة لإثيوبيا، وهي ثاني أكبر دولة من حيث عدد السكان وخامس أكبر اقتصاد في أفريقيا. كون إثيوبيا غير ساحلية، فإن 95% من التجارة الإثيوبية من حيث الحجم تتم عبر ممر أديس أبابا - جيبوتي (مشروع بنك العالم للبنية التحتية)، بما في ذلك صادرات بقيمة 334 مليون دولار إلى الولايات المتحدة و851.8 مليون دولار إلى أوروبا، وفقًا لـ(Trading Economics). ومع زيادة تكاليف الشحن، ستصبح صادرات إثيوبيا أكثر تكلفة وأقل إمكانية الوصول إليها، مما يضعف بذلك النمو الاقتصادي العام.

ومرفأ السودان، الذي يُعتبر أحد المراكز التجارية المركزية الأخرى في المنطقة، لا يزال عرضة بنفس القدر للتعطيل في الشحن. و وفقًا لـ(S&P Global)، يتدفق ما يقرب من 90% من صادرات السودان التي تبلغ 11 مليار دولار و30% من الناتج المحلي الإجمالي للسودان عبر الميناء، وتتألف معظمها من الذهب والنفط المتجه إلى الأسواق الشرقية الوسطى أو الآسيوية عبر باب المندب. بالإضافة إلى ذلك، يعد الميناء بوابة للمواد الغذائية والواردات المتجهة إلى جنوب السودان وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى، وهي جميعها دول فقيرة وهشة تشهد حاليًا حروبًا أهلية وأزمات إنسانية.

 

- *عدم الأمن الغذائي:* 

شهدت شرق أفريقيا خلال السنوات الثلاث الماضية تسجيل أدنى في معدلات هطول الأمطار في السجلات، وأثر الجفاف الناجم عن ذلك على 26 مليون شخص. حيث تعتمد شرق أفريقيا بشكل كبير على شحنات القمح من أوكرانيا والاتحاد الأوروبي عبر البحر الأحمر لتعويض الإنتاج المحلي. كما تستورد جيبوتي والصومال إمداداتهما من القمح بالكامل، بينما تعتمد كينيا والسودان بشكل كبير أيضًا، حيث تستورد 86% و77% على التوالي.

وتواجه التجارة العالمية للقمح بالفعل ضغوطا. فقد أدى غزو روسيا إلى تدمير إنتاج المحاصيل في أوكرانيا، في حين أدى حظرها للشحن في بحر البلطيق إلى تقليل حجم الصادرات، وهو ما تسبب في تقلباتٍ الأسعار. ومن المتوقع أن ترتفع أقساط التأمين للناقلات البحرية التي تستمر في الملاحة عبر مضيق باب المندب، في حين يواجه الذين يعيدون توجيه مسارهم حول رأس الرجاء الصالح تكاليف أعلى في الوقود وتكاليف العبور . وفي كلتا الحالتين، من المحتمل أن يواجه المستهلكون في شرق أفريقيا ارتفاعًا في أسعار إمداداتهم الغذائية الحرجة.

و أما بالنسبة للبلدان الهشة في هذه المنطقة الواسعة، مثل تشاد وجنوب السودان، فإن التعطيل في الواردات البريّة من التجارة البحرية يزيد من الضغوط على الرؤية المتعثرة للأغذية. ويصنف مقياس الأمن الغذائي الحاد لـ(IPC) العديد من دول شرق أفريقيا في فئة "الأزمة"، لكن قلة واردات القمح أو ارتفاع الأسعار يمكن أن يدفع المنطقة إلى حالة "الطوارئ"، ما يشير إلى نسبة تقوم بين 15% و 30% من السكان. كما يهدد التدخل الحوثي حركة المساعدات الإنسانية المتجهة إلى وجهات خارج قرن أفريقيا، وهو أمر تم تسليط الضوء عليه في البيان المشترك بشأن هجمات الحوثيين الصادر عن قادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في ديسمبر/ كانون الثاني.

وتظهر الآثار المباشرة للصراع في البحر الأحمر على الأسواق شرق أفريقيا بوضوح. نظرا لأن مضيق باب المندب لا يزال خطرا جدا، فإن الاقتصادات الأفريقية التي ليس لديها طرق تجارية بديلة ستعاني. ومن المحتمل أن مثل هذا التعطيل في منطقة هشة سيؤدي إلى زعزعة استقرار التنمية والحكم.

من الممكن أن تؤدي الضغوط الاقتصادية الناجمة عن تعطيل تدفقات التجارة وارتفاع الأسعار إلى تفاقم التوترات الحالية أو إشعال اندلاع الصراعات المكبوتة في المنطقة وزيادة المخاوف الأمنية الإقليمية.

 

• إثيوبيا - الصومال - صوماليلاند:

في ظل التعافي من الحرب الأهلية الوحشية في منطقة تيغراي الشمالية، يتجه رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، نحو تعزيز الاقتصاد من خلال زيادة الصادرات. ومنذ أن فقدت إثيوبيا وصولها إلى البحر الأحمر عندما استقلت إريتريا في العام 1993، اعتمدت إثيوبيا على ميناء جيبوتي للتجارة البحرية. ومع ذلك، تبلغ تكاليف هذا الاتفاق 1.5 مليار دولار سنويا. وفي ضوء تكلفة عالية وتصرفات الحوثيين المزعجة، تتزايد ضرورة إثيوبيا لإيجاد وصول بحري بديل وأكثر اقتصادية.

وفي الأول من يناير/ كانون الثاني، قام آبي بتوقيع اتفاقية مع زعيم إقليم صوماليلاند ذات الحكم الذاتي، موسى بيهي عبدي. مما يتيح هذا الاتفاق لإثيوبيا الوصول إلى ميناء بربرة و20 كيلومترا من الساحل، حيث يخطط آبي لبناء قاعدةٍ بحرية إثيوبية. ورغم أن تكاليف التشغيل المتوقعة لا تزال غير معروفة، إلا أنها من المفترض ستكون أقل من تلك التي تفرضها جيبوتي.

ويزيد الاتفاق مع صوماليلاند من التوترات الإقليمية. وكجزء من الاتفاق، تعد إثيوبيا بالاعتراف بالإقليم المنفصل كدولة ذات حكم ذاتي. وسيكون هذا أول اعتراف دولي رسمي بصوماليلاند منذ إعلان الإقليم استقلاله عن الصومال في عام 1991. وقد أثار هذا الإجراء انتقادات من الحكومة الصومالية في مقديشو، التي لا تعترف باستقلال صوماليلاند وتعتبر الأرض المؤجرة في الاتفاق كأراضيها السيادية.

 

• السودان:

على عكس إثيوبيا، لا تزال الحرب الأهلية في السودان مستمرة. ووفقًا لمعهد البحوث في سياسات الغذاء الدولي، تقلص الاقتصاد السوداني بنسبة تقرب من النصف بسبب الصراع. وسيزيد تعطيل التجارة البحرية فقط من التنافس المتزايد على الموارد النادرة بين الطرفين المتحاربين: القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF) الشبه عسكرية. ورغم أن القوات المسلحة السودانية تحافظ على السيطرة على ميناء السودان (وتدفق الموارد والمساعدات والأرباح)، إلا أن الانتصارات الأخيرة لقوات الدعم السريع أثارت تكهناتٍ بشأن حملة محتملة لتأمين الميناء - سواء عن طريق القوات الرئيسية لقوات الدعم السريع أو المليشيات القبلية المحلية التي تحتقد ضد الحكومة في الخرطوم.

ويعتمد كلا الطرفين في الحرب على التجارة من خلال مضيق باب المندب. كما تحكم القوات المسلحة السودانية في صادرات ميناء السودان مصدرا للإيرادات. و تم تحويل الشحنات الإغاثية الحيوية إلى طرق شحن بديلة أو إلى شحن جوي، مما زاد من التكاليف وأوقات التسليم وأدى إلى نقص كبير في الإمدادات الطبية والغذائية. وتموّل قوات الدعم السريع العديد من عملياتها من خلال بيع الذهب المُنقَب عنه في المناطق التي تحت سيطرتها. يتم ثم شحن الذهب عبر مضيق باب المندب إلى الإمارات العربية المتحدة قبل أن يتوجه إلى جميع أنحاء العالم، لذا فإن التعطيلات في المضيق يمكن أن تبطئ القناة الرئيسية لتمويل قوات الدعم السريع.

 

• لاعبون إقليميون وعالميون ذوو مصالح في شرق أفريقيا:

تُعكِس إطارية أعمال الحوثيين ضمن "أزمة الشرق الأوسط" الأوسع، أن إعاقة التجارة في البحر الأحمر هي جزء فقط من الحسابات الاستراتيجية للمصالح الإقليمية والعالمية في المنطقة. ومع ذلك، قد تؤدي التأثيرات الاقتصادية والسياسية والإنسانية في شرق أفريقيا الناجمة عن الهجمات في باب المندب إلى تحويل الأوزان والتأثير على التغييرات السياسية الواسعة من قبل الدول الخليجية وروسيا والصين والولايات المتحدة.

ولطالما دعمت المملكة العربية السعودية القوات المسلحة السودانية واستثمرت بشكل كبير في الاقتصاد السوداني - بالأخص في مجال البنية التحتية والزراعة والتعدين. وساهمت الرياض في التوسط لتحقيق هدنة قصيرة في السودان العام الماضي، على الأرجح لضمان استيراد الغذاء السوداني الذي تعتمد عليه المملكة العربية السعودية. ويهدد الاستقرار الطويل الأمد في السودان مشاريع رؤية المملكة 2030، مثل معضلة البحر الأحمر العالمية، في حين أن الانتصار لقوات الدعم السريع سيكون فوزًا لأحد منافسيها الإقليميين، الإمارات.

ورغم أن الإمارات هي شريكة للمملكة العربية السعودية في القتال ضد الحوثيين في اليمن، إلا أنها تتنافس مباشرة مع السعودية في السودان. حيث تخطط الإمارات للاستثمار أكثر من 6 مليارات دولار في البلاد، بما في ذلك بناء ميناء منافس في البحر الأحمر. إلى جانب مجموعة واغنر الروسية، وتدعم الإمارات قوات الدعم السريع لضمان الوصول إلى صادرات الذهب، خاصة بعد أن استولى المتمردون على مناجم جبل عامر في شمال دارفور. ويمكن اعتبار أعمال الحوثيين مكسبًا للإمارات، حيث تتأثر القوات المسلحة السودانية بشكلٍ أكبر بتعطيل الشحنات، ولأن الشحنات المتجهة إلى السودان عبر المضيق تم تحويلها إلى أبوظبي أو دبي ثم نقلها جوًا إلى أفريقيا، مما يعزز الأرباح و المكاسب للإمارات.

وقد أبرمت روسيا اتفاقًا مع حكومة السودان لبناء قاعدة بحرية في ميناء السودان. ومع ذلك، على الرغم من الاتفاق الرسمي بين موسكو والخرطوم، تدعم واغنر وحلفاؤها في ليبيا قوات الدعم السريع، مما يضمن ذلك فوز روسيا بغض النظر عن نتيجة الصراع.

كما فتحت الصين قاعدتها العسكرية الأولى والوحيدة في الخارج في جيبوتي في عام 2016 وذلك لتأمين ميناء دوراليه المتعدد الاستخدامات ولنشر القوة في باب المندب. ومع ذلك، امتنعت الصين عن المشاركة في عمليات مكافحة الحوثيين، واختارت أن تظل محايدة في النزاع. و أدى هذا القرار إلى أن السفن تعلن ارتباطها بالصين للفوز بممرٍ آمن عبر المضيق، حيث لم يستهدف الحوثيين السفن التي تحمل العلم الصيني.

وأنشأت الولايات المتحدة رسميا معسكر ليمونيير في جيبوتي في عام 2003 لدعم "الأمن والاستقرار الإقليمي والجهود الإنسانية في المنطقة"، وفقًا لوزارة الخارجية الأمريكية. وتشمل البصمة الأمريكية في البلاد أيضًا مطار شابيلي، وهو نقطة انطلاق الطائرات المُسيّرة المسلحة التي تنفذ ضربات في اليمن والمنطقة. و مع وجود أكثر من 5000 جندي متمركز في شرق أفريقيا وبعض أكبر السفارات الأمريكية في القارة، فإن الولايات المتحدة لديها مصلحة مشتركة في الشراكات الإقليمية والاستقرار للحفاظ على وجودها الأمامي.

 

• الاستنتاج:

يجب على صانعي السياسات ألا ينظروا إلى نزاع الحوثيين فقط من منظور شبه الجزيرة العربية والشرق الأوسط الأوسع، بل يجب أيضًا أن يأخذوا في الاعتبار تأثيراته على شرق أفريقيا. فالنزاع المستمر في مضيق باب المندب وانخفاض التجارة البحرية يشكلان خطرا على الاقتصادات التي تعتمد بشدة على التجارة البحرية. كما يمكن أن يزيد عدم الاستقرار الاقتصادي من التوترات الإقليمية ويزيد من خطر وقوع أزمة إنسانية. وعند حساب المشاركة والحلول للمنطقة عقب التصادم الأخير بين الغرب والحوثيين، يجب على صانعي السياسات الدوليين أن يتبنوا رؤية شاملة لجميع الأطراف الإقليمية - بما في ذلك اللاعبين الأفارقة الرئيسيين على الجانب الآخر من المضيق.

 


التعليقات