في عام 2021، تسببت سفينةٌ عالقة بإحداث اضطرابات هائلة في التجارة العالمية؛ إذ علقت سفينة "إيفر جيفن"، وهي سفينة شحنٍ ضخمة بطول 1300 قدم، في قناة السويس في مصر، مما أدى إلى تعطيل تقديري لشُحنات قيمتها 10 مليارات دولار يومياً. وفي ظل جائحةٍ عالمية تسببت فعلا باضطرابات تجارية هائلة، تأخرت تسليمات كل شيء تقريباً، وكان هناك قلقٌ كبير من أن يؤدي ذلك إلى زيادةٍ مؤلمة في الأسعار للمستهلكين.
وتقريباً بعد ثلاث سنوات، هناك أزمة أخرى تضرب قطاع الشحن، وليست بعيدة عن المكان الذي علقت فيه "إيفر جيفن". فقد أعلنت شركة النفط العملاقة" بي بي"، الاثنين، تعليق جميع الشحنات عبر البحر الأحمر، بعد هجمات من قِبل جماعة الحوثي المتطرفة تستهدف السفن على طول الطريق، والذي يؤدي إلى ومن قناة السويس.
و على الرغم من أنه لم يحدث بعد، إلا أن الاضطراب الناجم عن هجمات الحوثيين لديه القدرة المقلقة على التسبب بالنوع نفسه من الأضرار التي تُهدد بمحاصرة في قناة السويس.
وفي مقال تحريري نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال"، الأحد، قالت إنها أكثر سوءاً، واصفة إياها بأنها "أكبر تهديد للشحن العالمي خلال عقود".
حيث إن حوالى 10% من إجمالي النفط الذي يتم تداوله في البحر يمر عبر البحر الأحمر، ولكن شركات الشحن بدأت في التحرك لتجنب هذا الطريق، بسبب هجمات الحوثيين، وبدلاً من ذلك تتخذ رحلة أطول وأكثر تكلفة حول القارة الأفريقية.
كما ارتفعت أسعار النفط بعد أن أعلنت "بي بي" -أول شركة نفطية كبرى تعلق الشحن عبر البحر الأحمر- خططها لتجنب المنطقة يوم الاثنين. وقد وقع معظم الهجمات في مضيق باب المندب، وهو ممر مائي ضيق بالقرب من المنطقة التي يسيطر عليها الحوثيون المرتبطون بإيران في اليمن.
و في عام 2021، تم تحرير "إيفر جيفن" بعد أسبوع، وكان تأثيرها طفيفاً في النهاية على المستهلكين. ولكن هذه المرة، تتعرض التجارة للاضطراب، ليس بسبب حادث أو خطأ، ولكن بسبب تصرفاتٍ مدروسة من مجموعة مسلحة.
ويمكن أن يكون نتيجة التأثير طويل الأمد على التجارة أو أسوأ من ذلك.
وقد بدأ الحوثيون هجماتهم في البحر الأحمر بعد أن بدأت إسرائيل قصف غزة رداً على الهجمات الضخمة التي قادتها حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وأسفر عنها مقتل 1400 شخص. وزعم الحوثيون أن الهجمات استهدفت السفن المرتبطة بإسرائيل، وذلك حسبما أعلن المتحدث باسم الحوثيين، الجنرال يحيى سريع، على وسائل التواصل الاجتماعي، مؤكداً أن السفن التي تحمل العلم الإسرائيلي أو تديرها أو تملكها شركات إسرائيلية ستكون هدفاً للهجوم.
و في الواقع، بدا الأمر أكثر عشوائية. حيث أطلق الحوثيون صواريخ وطائرات بدون طيار على السفن التي تمر عبر مضيق باب المندب، ولم يكن لها أي ارتباط واضح بإسرائيل. وفي 20 نوفمبر/ تشرين الثاني، خطف الحوثيون سفينة بحرية تحمل علم الباهاماس تدعى "غالاكسي ليدر" واحتجزوا 25 من أفراد طاقمها كرهائن. على الرغم من أن السفينة كانت تنتمي لملياردير إسرائيلي، إلا أنه لم يكن هناك مواطنون إسرائيليون على متن السفينة.
و في بياناتهم، أعرب الحوثيون عن أن هجماتهم مستدفئة بالغضب من "حرب الإبادة" التي تنفذها القوات الإسرائيلية في غزة. ويُعد هذا تدخلا دوليا غير عادي بالنسبة لجماعة كانت تركز طويلًا على اليمن وجيرانها المباشرين. على عكس حماس في غزة، فإن الحوثيين ليسوا من الفلسطينيين، ولا يشتركون في حدود مع إسرائيل مثل حزب الله في جنوب لبنان.
لكن الحوثيين، الذين استولوا على عاصمة اليمن في عام 2014 وأشعلوا حرباً أهلية طويلة ودموية، تلقوا مساعداتٍ عسكرية من إيران، أقوى منافس إقليمي لإسرائيل. وفي عام 2017، أجرت وكالة "رويترز" مقابلة مع مسؤولٍ إيراني لم يكشف عن اسمه، أكّد فيها أن الحرس الثوري الإسلامي يعمل على وسائل لتمكين الحوثيين في مواجهة منافسيهم المدعومين من السعودية في اليمن.
وبينما انصب تركيز الحوثيين بشكلٍ كبير على القضايا المحلية، إلا أن خطابهم طويل الأمد استهدف إسرائيل كدولة واليهود كشعب بصفتهم أهدافاً للكراهية. وشعارهم، المأخوذ عن عبارة إيرانية ثورية، يؤكد ذلك بوضوح: "الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام".
وقد أدت زيادة عدد الهجمات التي تشنها جماعة الحوثيين إلى حالة من الاضطراب بين القوى العالمية، إذ تم إرسال سفن حربية أمريكية وبريطانية إلى المنطقة لحماية السفن التجارية، وقد تم بالفعل إسقاط طائراتٍ بدون طيار تابعة للحوثيين، ولكن واشنطن تدفع حلفاءها لبذل مزيد من الجهود.
وفي بيان صدر، الاثنين، أعلن وزير الدفاع، لويد أوستن، تشكيل مبادرة متعددة الجنسيات للتعامل "بشكلٍ مشترك مع التحديات الأمنية في البحر الأحمر الجنوبي وخليج عدن"، وأطلق عليها اسم "التحدي الدولي الذي يتطلب تحركاً جماعياً". وستشمل المبادرة، المعروفة بـ"عملية حارس الازدهار"، في البداية البحرين وبريطانيا وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنرويج وسيشل وإسبانيا.
و تُعزَّز الوضعية بالعوامل المُتعددة مما يجعلها معدومة اليقين أكثر. ومنذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، كانت إدارة بايدن تشعر بالقلق بشأن تحول الصراع في غزة إلى نزاع إقليمي واسع. وفتح جبهة في البحر الأحمر قد يكون خطوة في هذا الاتجاه.
ومع ذلك، فإن الشيء الأكثر قلقاً هو عدم اليقين حول ما يحفز الحوثيين؛ فهذا الفصيل يُعتبر من بين أكثر المليشيات التقنية القادرة المدعومة من قِبَل إيران، حيث يمتلكون صواريخ طويلة المدى يبدو أنها تستهدف إسرائيل. ومع ذلك، رغم اعتمادهم على طهران من أجل التكنولوجيا، يعتقد المحللون أنهم يتصرفون بدرجة كبيرة من الاستقلالية.
كما يجدر بالذكر أن الحوثيين هم من الأقلية الزيدية الشيعية، مما يميزهم دينياً عن الزيدية الشيعية القريبة من السنة، الشيعية الرئيسية، الذين يشكلون الغالبية في إيران والعراق.
وفي الوقت نفسه، أشار الحوثيون إلى إمكانية التفاوض، حيث أبلغوا وكالة "رويترز"، السبت، أنهم يشاركون في محادثات ترعاها عمان. وقد تم الاحتفاظ بالحرب الأهلية في اليمن في هدوء بينما تستمر المحادثات الخلفية، رغم انتهاء وقف إطلاق النار الذي وسّطت فيه الأمم المتحدة. لهذا السبب، تراجعت المملكة العربية السعودية عن الضغط بشدة. ولكن تدفع دولة الإمارات العربية المتحدة، الداعمة لطرف آخر في اليمن، نحو نهج أكثر حزماً، وفقاً لتقرير نشرته "بلومبرغ" هذا الأسبوع، مما يُعقد جهود عزل الحوثيين.
ورغم أصولهم الريفية في جبال الشمال في اليمن، فقد أظهر الحوثيون فهماً عالمياً مدهشاً لكيفية استهداف التجارة العالمية، حيث قاموا بضرب منشآت نفطية سعودية قبل فترة طويلة من تحركاتهم الحالية لعرقلة الشحن البحري.
وقد يعتقد الحوثيون أنه من خلال مهاجمة التجارة العالمية في البحر الاحمر، يمكنهم تحقيق أهداف داخلية أكبر وجذب الانتباه إلى موقفهم في الحرب الأهلية المنسية منذ فترة طويلة في اليمن.
ولكنها مغامرة، مع قرب الانتخابات في الولايات المتحدة والحروب الدموية في الشرق الأوسط وأوروبا، فإن التهديد بمزيد من الاضطراب الاقتصادي العالمي هو لعبة خطيرة جداً.
وسيتطلب الأمر المزيد من التحركات وليس مجرد نقل سفينة واحدة لإعادة الاقتصاد العالمي إلى مساره الصحيح.