في مقطع فيديو تم تداوله عبر الإنترنت يهدف إلى نقل أهوال الحرب بين إسرائيل وحماس، ينتحب صبي صغير، ووجهه مغطى بالغبار، مُتشبثاً بالشطيرة التي كان يأكلها عندما دمرت غارة جوية منزل عائلته، وهو يبكي على شقيقتيه المراهقتين اللتين فُقدتا وسط الفوضى، و تم التأكد من وفاة إحداهما لاحقاً.
"طفل صغير يبكي على أخواته في غزة"، هذا ما جاء في منشورٍ مُصاحب لمقطع الفيديو، الذي تم مشاركته بشكلٍ كبير في الأسابيع الأخيرة على منصة (X) المعروفة سابقاً باسم تويتر.
ومع ذلك، فإن صرخات الصبي ترددت في الواقع على بُعد مِئات الأميال -في سوريا- وذلك قبل ما يقرب من عقد من حملة القصف الإسرائيلية على غزة خلال الأسابيع الثلاثة الماضية.
و بينما ترسل إسرائيل قواتها إلى مناطق أبعد في غزة، مُتعهدةً بذلك بالقضاء على حماس رداً على هجومها في أوائل أكتوبر/ تشرين الأول، و الذي أدى إلى مقتل أكثر من 1400 شخص، فإن مقاطع الفيديو والصور الفوتوغرافية تقوم بتقديم سِجلاً قوياً لتكاليف الحرب للصراع. لكن على الإنترنت، فإن هذه الروايات تتنافس مع التصوير المُختلس لمآسي مغايرة وغير متعلقة بما يحدث، و هو ما يقول الخبراء إنه لا يقلل من تجارب الضحايا في الماضي والحاضر فحسب، بل يُخاطر أيضاً بالتشكيك في الأدلة المشروعة على الفظائع التي ارتُكِبت في الحرب. حيث تُعدُّ الصور والمقاطع المأخوذة خارج سياقها شكلاً شائعاً من المعلومات الخاطئة، لكن الخُبراء يقولون إن إساءة استخدامها لنقل مدى المعاناة أمر فظيع على الصعيد الخاص.
وقالت (إليسا ماسيمينو)، المديرة التنفيذية لمعهد حقوق الإنسان بجامعة جورج تاون :"هل يمكنك أن تتخيل هذا النوع من تحويل العنف ضد شخص عزيز عليك إلى سلعة، ثم يستخدمه الآخرون كنوعٍ من التصوير العام للعنف؟ إنه أمر مرعب بالفعل."
ومن بين الصور ومقاطع الفيديو الشائعة التي من المفترض أنها توضح الخسائر البشرية للحرب: كومة من الأطفال القتلى ملفوفين باللون الأبيض، يُوصفون بأنهم فلسطينيون قتلتهم القوات الإسرائيلية.
(و في الواقع، الأطفال سوريون وتم التقاط الصورة في عام 2013.)
و صبي صغير يرتجف في الظلام، مغطى ببقايا قماش أبيض ويمسك بشجرة، يُنظر إليه على أنه "طفل مصاب بصدمة نفسية أخرى في غزة".
(وفي الواقع، تم التقاط الفيديو بعد الفيضانات الأخيرة في طاجيكستان.)
كما تم الترويج لفتاةٍ مُراهقة تتعرض للضرب على يد حشدٍ من الغوغاء ثم أُشعلت فيها النيران حتى الموت، كدليل على قسوة حماس.
(و في الواقع، تم تصوير الفيديو في غواتيمالا عام 2015، وورد أن الفتاة تعرضت للهجوم بسبب اتهامات بتورطها في قتل سائق سيارة أجرة).
أما بالنسبة للمصور الذي صور الصبي السوري وهو يبكي على أخواته في حلب في عام 2014 عندما قصفت الحكومة السورية الأجزاء التي يُسيطر عليها المتمردون في المدينة، فإن الاستيلاء على عمله لتوضيح وحشية الصراع أمرٌ مألوف، ويُعتقد أنه يمكن أن يقوض المجتمع الدولي الواقع الحالي.
وقال المصور (حسام قطان) -الذي عمل في مركز حلب الإعلامي، وهو واحد من مجموعة من الناشطين المناهضين للحكومة والمواطنين الصحفيين، ويقيم الآن في ألمانيا- في مقابلة له: “هذه ليست المرة الأولى التي أسمع فيها أن صوري وفيديوهاتي يتم استخدامها خارج سياقها الأصلي، و ربما يحاول بعض الناس الحصول على المزيد من التعاطف مع غزة، ولكن في الوقت نفسه، فإن مثل هذه الفيديوهات أو الصور المزيفة سيكون لها تأثيرٌ مُعاكس، مما يُفقد مصداقية القصة الرئيسية".
و في كتابه الذي يعرض صوراً للحياة مع احتدام الحرب في سوريا، يروي (السيد قطان) تصوير مقطع فيديو للصبي (محمود)، الذي اختفت شقيقتاه الأكبر سناً (أسماء ونديمة) بعد الغارة الجوية، وتم تأكيد وفاة (أسماء) بعد ذلك.
و كان (محمد) يحمل شقيقته الصغيرة (بيان)، التي شبهها السيد قطان بالورد بسبب الزي الأحمر الذي ارتدته في ذلك اليوم، يوم عيد الحب.
و ليس هناك نقص في الصور ومقاطع الفيديو من إسرائيل وغزة التي تظهر المعاناة. فبحسب وزارة الصحة التي تُديرها حماس في غزة، فإن الغارات الجوية الإسرائيلية المتواصلة تسببت في مقتل أكثر من 9000 شخص، وقد أدى اكتظاظ المستشفيات وندرة الغذاء والمياه في غزة إلى حدوث أزمة إنسانية حادة. ويدفن الإسرائيليون موتاهم ويعيشون في خوف على مصير أكثر من 200 شخص اختطفتهم حماس والجماعات الفلسطينية الأخرى في هجوم أكتوبر/ تشرين الأول.
أما بالنسبة للبعض، فإن التحريف واستمرار تداول لقطات من المآسي السابقة يعيد إلى الأذهان مفهوم "إعادة الإيذاء"، أو إجبار الناجين على إعادة تجربة آلامهم بشكلٍ متواصل ومستمر.
وقال (جون وهبي) الأستاذ المشارك في الابتكار والتكنولوجيا الإعلامية في جامعة نورث إيسترن والذي درس المعلومات المضللة: "أعتقد أن هناك حقٌ إنساني حقيقي وبعض الأسئلة الأخلاقية العميقة حول هذا النوع من الأشياء، فمع إعادة تداول صور الأشخاص الذين أصيبوا بصدمات نفسية أو كانوا في مواقف مروعة، هناك تكرار للإيذاء أو الصدمة مرة أخرى."
ومع ذلك، فإن مثل هذه المنشورات -وخاصة تلك التي تلخص لحظة معينة بشكل واضح- تنجح في جذب الانتباه كونها تُخاطب مشاعر الناس. ومع تزايد عدد الضحايا، وجد الباحثون أن التعاطف من الممكن أن يبدأ في التلاشي.
كما قال أيضاً (بول سلوفيتش)، أستاذ علم النفس في جامعة أوريغون: “يمكن للسرد أن ينقل بقوة الفهم والعاطفة التي لا تستطيع الأرقام القيام بها”.
وأشار السيد (سلوفيتش) إلى صورة التُقطت عام 2015 لطفل سوري صغير وجد وجهه على أحد الشواطئ التركية، وقد جرفته الأمواج إلى الشاطئ بعد انقلابِ القارب الذي كان يقله هو وعائلته أثناء محاولتهم الفرار من الحرب في سوريا.
ووجد السيد (سلوفيك) وزملاؤه أن الصورة كانت أكثر فعالية في تحفيز الاستجابة العامة من الإحصائيات القاتمة حول مئات الآلاف الذين قُتلوا في الحرب. ووجد البحث أنه في الأيام التي تلت الصورة التي حظيت باهتمام واسع النطاق، زادت عمليات البحث على محرك البحث جوجل عن الصراع واللاجئين بشكل حاد، كما زادت التبرعات لصندوق الصليب الأحمر السويدي.
لكن حذر السيد (سلوفيتش) من أن تقديم معلومات مضللة حول مثل هذه القصص والروايات المرئية يمكن أن يعطي الناس سبباً لرفض أو تجاهل مثل هذه الأدلة بشكلٍ كبير.
وقد أعرب خبراء حقوق الإنسان عن مخاوف مماثلة أيضاً.
حيث قالت (صوفيا جونز)، الباحثة في مختبر التحقيقات الرقمية في هيومن رايتس ووتش، إن الأدلة المرئية يمكن أن تلعب دوراً مهماً في بناء قضية تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان. وأضافت أن التحقق منها أمر بالغ الأهمية وأن مستوى الشك أمر صحي، لكن الافتقار التام للثقة يحمل مخاطره الخاصة.
و قالت: "أعتقد أنه من الجيد تماماً طرح الأسئلة، كما يجب علينا جميعاً طرحها. وأضافت: “لكن انعدام الثقة في أي شيء نراه أعتقد أنه يمثل مشكلة لأن الكثير منه حقيقي. و هناك أشياء فظيعة تحدث، ويجب التحقيق فيها."