ساهمت استعادة العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية في ضخ شعور سُمّي "بالهدوء المنضبط" في بعض البيئات الإقليمية التي اشتبكت فيها القوتان في الماضي. وفي إشارة إلى تراجع حدة التوتر، قال مصدر دبلوماسي خليجي لـ(أمواج) :"أن البلدين بحاجة إلى خفض التصعيد حتى لو جاء ذلك على حساب بعض الساحات والملفات".
وفي السياق الإقليمي الجديد الذي تقوم المصالح بتحركته، فإن هناك دلائل تشير إلى أن مصر والأردن قد تحذوان حذو المملكة قريباً في الدخول في فصول جديدة مع إيران. وكما هو الحال مع الحوار الإيراني السعودي، يعمل العراق وعمان على تسهيل المشاركة العربية الإيرانية الموسعة، ولكن بأدوار مختلفة.
•الحوار المصري الإيراني
وفي ربيع عام 2021، بدأت العراق باستضافة سلسلة من الحوارات بين الدول العربية وإيران. حيث حظي التواصل الإيراني السعودي بأكبر قدر من الاهتمام. لكن في الواقع سهلت بغداد أيضاً المحادثات بين مصر وإيران. و بدأ رئيس الوزراء العراقي آنذاك (مصطفى الكاظمي) (2020-22) هذه الجهود من خلال العمل كحلقة وصل أولية. وأعقب ذلك جلسة أولى لكسر الجمود بين المصريين والإيرانيين. وتميزت الأجواء بخاصيتين أساسيتين: التوجه الأمني الواضح، وربط التقدم بالحوار الإيراني السعودي، لا سيما في ظل التوجه العربي المشترك للعلاقات مع الجمهورية الإسلامية آنذاك.
كما أضاف مؤتمر بغداد الافتتاحي للتعاون والشراكة في خريف عام 2021 زخماً إضافياً لجهود العراق لتعزيز الدبلوماسية العربية الإيرانية. و كان تجمع المسؤولين الإقليميين هو أول رحلة خارجية لوزير الخارجية الإيراني الحالي (حسين أمير عبد اللهيان) بعد توليه منصبه، وأنتج بشكل خاص صورة شوهد فيها (الكاظمي) محاطاً بالرئيس المصري (عبد الفتاح السيسي) و (أمير عبد اللهيان) على كلا الجانبين.
و يُعد انفتاح إيران على العلاقات مع مصر في عهد السيسي -حليف السعودية والولايات المتحدة الذي صعد إلى السلطة بعد الانقلاب الذي أنهى حكم الإخوان المسلمين- قد يكون بمثابة مفاجأة لبعض المراقبين. فبعد الثورة الإسلامية عام 1979، مرت علاقات إيران مع مصر بجمود دام عقوداً مع استثناءات قليلة. و عندما تنحى الرئيس (حسني مبارك) -الذي حكم البلاد لفترة طويلة- في عام 2011 وسط احتجاجات الربيع العربي، وحكمت جماعة الإخوان المسلمين مصر، شعر الكثيرون في إيران بسعادة غامرة.
لكن لم يتبين أن جماعة الإخوان المسلمين هي الشريك الإسلامي الطبيعي للجمهورية الإسلامية كما توقع البعض. و عندما قام الرئيس المصري آنذاك (محمد مرسي) (2012-2013) بزيارة طهران لحضور قمة حركة عدم الانحياز، أوضح أن الخلافات حول القضايا الإقليمية كانت صارخة و مدوية ضد حليف إيران السوري بشار الأسد. وفي العام التالي، أصبح (محمود أحمدي نجاد) أول رئيس إيراني يزور مصر كونه يمثل جزء من اجتماع منظمة التعاون الإسلامي. لكن وزير الخارجية المصري آنذاك (محمد كامل عمرو) أشار إلى أن “أمن دول الخليج خط أحمر بالنسبة لمصر”، مُشيراً إلى أنه لن يتم متابعة العلاقات مع طهران لموازنة العلاقات مع الرياض.
ولعل من المفارقة أن السيسي – العدو اللدود للجماعات الإسلامية – يتقاسم مصالح رئيسية مع إيران. وبعد وقت قصير من سقوط مرسي -الذي قطع العلاقات مع سوريا وأغلق السفارات في يونيو/حزيران 2013- اتفقت القاهرة ودمشق على إبقاء قنصليتيهما مفتوحتين. وفي عام 2016، صرح السيسي صراحةً أنه يقف إلى جانب الجيش السوري. ومع تزايد التقارب الإيراني السعودي في وقت سابق من هذا العام، تبادل وزيرا خارجية مصر وسوريا الزيارات كجزء من "محادثات متقدمة" و ذلك لاستعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة. وخلال قمة جامعة الدول العربية التي استضافتها المملكة العربية السعودية في مايو/أيار، رحب الأسد العودة إلى المجموعة العربية بعد سنوات من العزلة وسط التطبيع الإيراني السعودي.
و بمعنى آخر، اتبعت مصر نهجاً مشابهاً للمملكة العربية السعودية في التعامل مع إيران وسوريا بطريقة متوازية ولكن تعتبر مترابطة. لكن القاهرة تعمدت اللحاق بالمملكة على المسار الإيراني بشكل خاص.
و كان من أحد العناصر الأساسية في مساعي الكاظمي الدبلوماسية هو شبكاته الشخصية في دول الخليج العربية وعلاقاته مع قادة مصر والأردن. ففي عهد (محمد شياع السوداني) الذي كان رئيس للوزراء، يبدو أن العراق لم تعد المحاور الرئيسي في الحوار العربي الإيراني، حسبما أشار مصدر دبلوماسي خليجي عربي لـ أمواج.
وبدلاً من بغداد، كانت بكين هي التي توسطت في مارس/آذار 2023 في اتفاق التطبيع الإيراني السعودي. علاوة على ذلك، في حين أكد السوداني : " أن العراق تتوسط بين إيران وعدد من الدول العربية، وأن ذلك يجري "بسرية تامة... حتى يتم تحقيق نتائج ملموسة".
إلا أن هناك دلائل تشير إلى أن عمان غدت تبرز باعتبارها المُيسر الأول للحوار المصري الإيراني.
وبعد أن تولى (السوداني) منصبه في أكتوبر/تشرين الأول 2022 بدعم من هيئة التنسيق الشيعية – وهي كوكبة من الأحزاب المدعومة من إيران – شعر الممثلين الأجانب بتأثير أكبر للجماعات المسلحة على مؤسسات الدولة وعملية صنع القرار في العراق. وبدلاً من الاستمرار في طريق سابقتها، وجدت الإدارة السودانية منذ البداية موقفاً صعباً. فقد أدى تأثير الجهات الفاعلة مثل عصائب أهل الحق وغيرها من الجهات الفاعلة في إطار التنسيق الشيعي إلى الحد من الجهود الدبلوماسية لبغداد، و لتقليل الهوامش التي يمكن للسوداني من خلالها التعامل مع نظرائه الإقليميين والدوليين بشكل جزئي.
وكان الحوار الإيراني السعودي الذي يسره الكاظمي مصحوباً بمسار موازٍ على مستوى الخبراء في مسقط. و وفقاً لمصدر دبلوماسي عماني لعب السلطان (هيثم بن طارق آل سعيد) في الأشهر الماضية دوراً مهماً بشكل متزايد في الجمع بين وجهات النظر المصرية والإيرانية.
وخلال زيارته إلى طهران في شهر مايو/آيار - وهي الأولى منذ اعتلائه العرش في عام 2020 - نقل السلطان عدداً من الرسائل إلى القيادة الإيرانية من مصر. وتجدر الإشارة إلى أن رحلته إلى إيران سبقتها مباشرة زيارته الأولى لمصر كحاكم لعمان. و بحسب المصدر الدبلوماسي العماني الذي أكد تصريحاته مصدر سياسي إيراني أعربت الرسائل عن الاستعداد للحوار والمفاوضات والتوصل إلى تفاهمات مشتركة حول بعض الملفات الإقليمية.
ويبدو أن المسعى لتحسين العلاقات مع مصر يحظى بتأييد المستويات العليا في الدولة الإيرانية. وفي تموز/يوليو، وصف (علي أكبر ولايتي) - وزير الخارجية السابق ومستشار السياسة الخارجية للمرشد الأعلى الإيراني - استئناف العلاقات مع القاهرة بأنه مهم لكلا البلدين وكذلك للمنطقة والعالم الإسلامي.
كما أوضحت مصادر مطلعة لـ "أمواج" أن الحوار بين القاهرة وطهران قطع نصف الطريق للتوصل إلى اتفاق لإعادة العلاقات. وبحسب مصدر دبلوماسي عربي آخر فإن المحادثات تمحورت حتى الآن حول العلاقات الثنائية، إضافة إلى “القضية الفلسطينية والمنطقة الحدودية بين قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، و الملفين السوري واليمني”. وقال دبلوماسي مصري -تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته- : "ان الإعلان عن توصل الجانبين إلى رؤية شاملة ومشتركة قد يتم خلال الأشهر المقبلة".
•المسار الإيراني الأردني
وفي حين تلعب عمان دوراً رائداً في تسهيل الحوار المصري الإيراني، فإن التواصل بين إيران والأردن لا يزال يتقدم عن طريق العراق. ومع ذلك فهو معلق حالياً ويشوبه الحذر. وحتى كتابة هذه السطور، لم يطمئن الجانبان بعد بشكل كامل بشأن النوايا والأهداف. ولذلك فإن المحادثات لم تصل إلى المستوى السياسي بعد. وعلى غرار المراحل الأولى من المشاركة الإيرانية السعودية، يظل الحوار ذو توجه أمني ويحتاج إلى لفتات إيجابية. ويمكن أن يشمل الخيار الأخير مضي بغداد قدماً في تنفيذ خط أنابيب البصرة-العقبة، و الذي ترى عمّان أنه يحمل أهمية اقتصادية وسياسية كبيرة.
وتؤيد الإدارة السودانية ضمنا لمشروع خط الأنابيب، لكن الجماعات المُسلحة المدعومة من إيران والتي تسيطر على الحكومة العراقية تعارض هذه المساعي، وتصفها بأنها أقرب إلى التطبيع مع إسرائيل. ومع ذلك، يقول الخبراء إن جذور رفضهم لخط الأنابيب يمكن إرجاعها إلى طهران. ومن شأن تنفيذ المشروع أن يسمح للعراق بالاعتماد بشكلٍ أقل على الخليج كقناة لصادراته النفطية - مما يقلل من نفوذ إيران على أسواق الطاقة الدولية - كما أنه سيمكن بغداد من الوصول بسهولة أكبر إلى عُملاء جدد.
و بحسب مسؤول مطلع في منظمة استخباراتية عربية إقليمية قال أن الحوار بين إيران والأردن بدأ بشكل ملحوظ في عهد الكاظمي أيضاً. وبدأت المحادثات بجلسة تمهيدية، وأعقبتها جولتان من “المحادثات المثمرة والجادة” في عام 2022. ويقال إن الأجواء كانت "إيجابية" حيث "شعرت جميع الأطراف بالحرص على التعاون والتوصل إلى نتائج مثمرة". وترأس الجانب الإيراني مسؤول كبير من وزارة المخابرات، و التقى بنظيره الأردني من مديرية المخابرات العامة. وقالت مصادر عربية لـ "أمواج" إن الجلستين كانتا طويلتين واختتمتا بتأكيد الجانبين على أهمية تعزيز العلاقات الثنائية ورفع مستوى التمثيل الدبلوماسي.
ويمكن تقسيم النتائج الرئيسية للمحادثات إلى ثلاث فئات. الأولى: كان هناك فهم متبادل للحاجة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي.
الثاني: اتفق الجانبان على تعزيز التعاون الأمني، بما في ذلك وقف الدعم للجماعات التخريبية العاملة في البلدين.
الثالث: أشارت مصادر عربية إلى أن الجانبين اتفقا على إنشاء خلية تعاون ثلاثية مشتركة مع بغداد، كما تعمل على مكافحة تهريب المخدرات إلى الأردن من العراق وسوريا.
وعلمت أمواج ميديا أن الوفد الأمني الأردني اتهم بعض "الوكلاء" الإيرانيين بالتورط في تجارة المخدرات. وقالت مصادر عربية إنه بالنظر إلى المستقبل فإن مستقبل الحوار سيعتمد على الظروف السياسية المقبلة وعلى الضمانات.
و إن نجاح أي مبادرة دبلوماسية يكمن في الضمانات التي يتم تحقيقها. لكن الأخير هو ما لا تستطيع بغداد تقديمه، وهو ما لن تسعى إليه مسقط. و إذا كان التقارب الإيراني السعودي بوساطة الصين نموذجاً، فإن وصف طرف ثالث كضامن - مهما كان هذا الدور واهياً أو نظرياً - يمكن أن يكون هو الطريق إلى الأمام.