كشفت تقارير مؤخرا عن شقاق بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لتُثبت ما أدركه مراقبو المشهد السياسي اليمني منذ فترة طويلة – وهو أن العلاقة بين البلدين اللذين قادا حملة عسكرية لإعادة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا إلى السلطة قد تدهورت بصورة مثيرة للقلق. فهذا التصدع في الحلف السعودي-الإماراتي له انعكاساته على الميدان كونه يُغذي حالة انعدام الاستقرار السياسي والاقتصادي، ويُهدد بتصعيد النزاع بين القوى اليمنية المحلية التي تعمل بالوكالة لصالح أي من الدولتين الخليجيتين.
نشرت صحيفة وول ستريت جورنال تقريراً مؤخراً أشارت فيه إلى أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، فاجأ الصحفيين في إحاطة غير رسمية بقوله إن “الإمارات طعنتنا في الظهر”، مُبدياً استعداده لاتخاذ إجراءات عقابية، ومعيداً إلى الأذهان مقاطعة قطر عام 2017. و رُغم فشل الحصار الدبلوماسي والاقتصادي على الدوحة، إلاّ أن إجراء آخر من هذا القبيل سيقترن بأضرار جانبية جسيمة، فرُقعة الشطرنج التي ستشهد تصفية الحسابات السعودية – الإماراتية هذه المرة هي اليمن في واقع الأمر.
صعدت العلاقة المتوترة بين الشريكين في التحالف إلى الواجهة لأول مرة عام 2018، حين اندلعت اشتباكات في عدن بين قوات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيا، وحكومة الرئيس (آنذاك) عبد ربه منصور هادي المدعومة من السعودية. ظاهرياً، كانت حكومة هادي مدعومة من كلا الدولتين الخليجيتين، حتى عام 2017 حين قامت الإمارات بتأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي لحماية مصالحها في جنوب اليمن. أصبح المجلس الانتقالي الجنوبي السلطة الفعلية في عدن بعد طرد القوات الحكومية من العاصمة المؤقتة في أغسطس/ آب 2019، وكَمحاولة لاستنباط تسوية مؤقتة تتعايش مع هذا الواقع، تم توقيع اتفاق الرياض في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.
في أبريل/نيسان 2022، تشكّل مجلس القيادة الرئاسي من غرفة عمليات سعودية، ليحلّ محل حكومة هادي “العقيمة”. سُرعان ما أبرم مجلس القيادة الرئاسي هدنة لوقف إطلاق النار مع جماعة الحوثيين (حركة أنصار الله) بوساطة الأمم المتحدة، ورغم صمود الهدنة إلى حد كبير حتى بعد فشل جهود تمديدها في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، فقد كانت إيذاناً بَفترة من تجدّد الخلافات الداخلية بين قوات التحالف على وقْع تدهور العلاقات السعودية الإماراتية واتجاهها إلى نقطة الغليان. في أغسطس/ آب الماضي، نجحت القوات المتحالفة مع المجلس الانتقالي الجنوبي وألوية العمالقة المدعومة إماراتياً بطرد القوات الحكومية الموالية لحزب الإصلاح الإسلامي (المدعوم من السعودية) من شبوة ومناطق من أبين. كانت هذه الفصول تتكشف في المشهد ورئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي يراقب بلا حول ولا قوة.
إلاّ أن أجراس الخطر بدأت تدق في سبتمبر / أيلول 2022، حين بدأ المجلس الانتقالي الجنوبي بالتحريض ضد القوات الحكومية الموالية للإصلاح في حضرموت والمهرة، في محاولة لبسط نفوذه على جميع مناطق جغرافيا دولة الجنوب سابقاً. فهذه المحافظات الشرقية الشاسعة تحظى بأهمية استراتيجية لأمن السعودية، كونها تشترك معها في شريط حدودي طويل وبالتالي يَستحيل أن تُذعن السعودية لمطالب المجلس الانتقالي الجنوبي بإخراج قوات المنطقة العسكرية الأولى من معسكراتها في سيئون.
ضاعفت الرياض تدريجيا من ردّها عبر حشد القبائل الحضرمية، وتدشين مشاريع تنموية، وتشكيل قوة جديدة تخضع ظاهرياً لإمرة رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي في المناطق المحيطة بعدن. في المقابل، رفع المجلس الانتقالي الجنوبي سقف الرهان في أيار/مايو من خلال إعادة تشكيل هيئة رئاسته واستقطاب عضوين من مجلس القيادة الرئاسي، وإقرار ميثاق جنوبي يُرسّخ طموحاته، إلى جانب عقد اجتماعات جمعيته الوطنية في المكلا بساحل حضرموت. ذهبت السعودية خطوة أبعد من ذلك حين شكّلت مجلس حضرموت الوطني الطامح لممارسة الحكم الذاتي في المحافظة ضمن نظام فيدرالي في سعي واضح إلى نسف خطط المجلس الانتقالي الجنوبي، فضلا عن إطلاقها حزمة مشاريع تنموية في حضرموت والمهرة لدعم موقف العليمي.
وفي محاولة للتوفيق بين الطرفين الخليجيين، رتّبت إدارة الرئيس الأمريكي بايدن لقاءً في مايو/ أيار بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ومستشار الأمن القومي الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد. وعلى ما يبدو، تعهد ولي العهد السعودي بتقديم شكل من أشكال التنازل بشأن الملف اليمني مقابل موافقة الإمارات على عدم زعزعة الهدنة غير الرسمية في ظل سير المفاوضات السعودية – الحوثية. إلاّ أن التقارير تشير إلى أن ولي العهد السعودي وجّه لاحقاً مستشاريه سرا بعدم تغيير مسار السياسة السعودية، قائلا: “لم أعد أثق بهم”.
لنكُن واضحين: هذا الخلاف يمتد خارج حدود اليمن، حيث تنخرط الدولتان الخليجيتان في تنافس سياسي واقتصادي متعدد الأبعاد على الهيمنة الإقليمية وتعزيز دور كل منها كلاعب في الساحة الدولية. هدّدت الإمارات بالانسحاب من منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) بعد أن ضغطت السعودية بشدة على الدول الأعضاء في المنظمة للموافقة على خفض الإنتاج في أكتوبر/ تشرين الأول 2022. من جانبها، هددت السعودية بوقف تعاملها مع الشركات الأجنبية ما لم تنقل مقارها الإقليمية إلى داخل المملكة، (أغلب هذه الشركات مقرها في دبي حاليا). إلاّ أن عواقب تصدّع الحلف السعودي – الإماراتي تبرز معالمه بشكل أوضح وأكثر ضرراً في الساحة اليمنية، فأبو ظبي تعطي انطباعا بالرغبة في تقويض خُطط القيادة السعودية بإزالة وصمة عار تدخلها العسكري الكارثي في اليمن وإعادة تصدير صورة جديدة للبلاد تلغي تماماً التصور السائد عنها كمصدر تهديد.
رغم كل ذلك، يبقى السؤال: ماذا سيَعني هذا بالنسبة لليمن؟
تأمل الرياض في إبرام اتفاق رسمي مع جماعة الحوثيين يطوي صفحة الأعمال العدائية بين الجانبين ويضع الأساس لعملية سلام رسمية بين الحوثيين والحكومة اليمنية، تدعمها السعودية وغيرها من الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية بمشاريع تنموية. كُلّف رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي بتنفيذ هذه الرؤية السعودية، وتزامن هذا مع ضغط دولي شديد على المجلس الانتقالي الجنوبي للسماح بسير العملية قُدماً، لاسيما خلال الأسابيع الأخيرة. لا بُد من الإشارة إلى أن أربعة من أعضاء مجلس القيادة الرئاسي الثمانية هُم موالون للإمارات ويُحتمل أن يعارضوا شروط الاتفاق في حال تنفيذه. رغم ذلك، يبدو جلياً أن المجتمع الدولي يؤيد مشروع الرياض بإنهاء انخراطها في حرب اليمن ودفع الأطراف الى عملية سلام رسمية.
هناك رواية أخرى تتكشف على أرض الواقع: حيث يُحتمل أن تثور مختلف الجماعات المسلحة التابعة لأعضاء مجلس القيادة الرئاسي ضد جماعة الحوثيين أو القوات المدعومة من السعودية والحكومة في عدد من المواقع، في حال رأت أن الترتيبات الجديدة لا تلبي مصالحها. يبدو أن السعودية قد أعدّت نفسها لهذا الاحتمال من خلال وضع قوات درع الوطن تحت إمرة العليمي، إلا أنّ تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي في حضرموت تُثير قلقا واضحا لدى القيادة السعودية. من جانب آخر، قد ينظر الحوثيون إلى تفكّك التحالف على أنه فرصة، وهناك بالفعل مؤشرات على تحشيد حوثي عسكري لتجديد الصراع في مأرب وتعز. فضلا عن ذلك، قد يُتيح غياب التنظيم في صف التحالف فرصا أيضا لجماعات أخرى: فَتنظيم القاعدة في جزيرة العرب يصبّ تركيزه حاليا على استهداف القوات الحكومية وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي في الجنوب أكثر من استهداف عناصر الحوثيين.
يبقى الباب مفتوحاً على مصراعيه لتأجيج صراع مستمر على الساحة اليمنية: فلعبة الاستنزاف التدريجي قد تقوّض أي مكاسب تتحقق في محادثات السلام. حتى في حال عدم عودة اليمن إلى براثن حرب مستعرة، يكمُن الخطر الأكبر من تصدّع الحلف السعودي – الإماراتي في حالة “اللا حرب واللا سلم”، والتي ستجُفف منابع الأمل رويداً بعد أن بدت فرصة فض النزاع وتحقيق قدر من الاستقرار تلوح أخيراً.