تحليل: توجيه التحويلات المالية للمساعدات المقدمة إلى اليمن نحو دعم استقرار أسعار السلع الأساسية
يمن فيوتشر - مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية-اليكس هاربر: الأحد, 06 أغسطس, 2023 - 10:00 صباحاً
تحليل: توجيه التحويلات المالية للمساعدات المقدمة إلى اليمن نحو دعم استقرار أسعار السلع الأساسية

خلال النزاع في اليمن، دعا البنك المركزي اليمني في عدن والجهات الاقتصادية الموالية للحكومة إلى تبني سياسة تقوم على ترشيد تحويلات المعونات والمساعدات الخارجية لدعم احتياطي النقد الأجنبي وتوفيره لمستوردي السلع الأساسية. هذه السياسة سترفد الاقتصاد بشكل عام وستدعم استقرار أسعار المواد الغذائية على وجه التحديد، باعتبارها محركًا رئيسيًا لانعدام الأمن الغذائي. هدفت هذه المقترحات المرتبطة بهكذا سياسات إلى معالجة التحديات الناجمة عن التنافس الجاري بين أطراف النزاع فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية والنقدية. رغم هذه المحاولات، يظل البنك المركزي في عدن عاجزًا عن تنظيم المؤسسات المالية اليمنية للاستفادة من الأموال المخصصة للمساعدات من أجل تمويل الواردات ودعم استقرار سعر صرف العملة المحلية. يأتي ذلك في ظل تردد الجهات الفاعلة بمجال الإغاثة في التعامل مع هكذا مقترحات سبق وأن طرحها البنك المركزي في عدن خوفًا من تسييس التدخلات الإغاثية.
إلا أن هذا التردد المؤسسي قد يعني ضياع فرصة معالجة أحد العوامل الرئيسية لتفاقم الوضع الإنساني في اليمن -نقص القوة الشرائية -فتبني هذه السياسة يمكن أن يتيح وصولًا مستقرًا إلى النقد الأجنبي اللازم لتمويل واردات السلع الأساسية. مع الأخذ بالاعتبار صعوبة وعدم واقعية الانخراط المباشر مع المؤسسات الحكومية بشأن هذا المقترح، يمكن للجهات الفاعلة في مجال الإغاثة أن تتسم بشفافية أكثر حول حجم المبالغ المودعة لدى المؤسسات المالية اليمنية وفترات إيداعها، ما قد يمثل خطوة أولى أساسية لبناء الثقة والزخم اللازم لضمان استفادة المستوردين اليمنيين من هذه الودائع -من خلال اعتماد آلية إبلاغ محايدة وشفافة وغير مُسيّسة -والحد من هروب رؤوس الأموال وتخفيض تكلفة الحصول على النقد الأجنبي، وأخيرًا دعم استيراد السلع الأساسية. هذا بدوره يمكن أن يساعد على تحقيق الاستقرار في السوق، وحمايته من الآثار السلبية الناجمة عن الصراع، إلى جانب المساهمة في خفض الأسعار.
من هذا المنطلق، يُعدّ إنشاء نظام شفاف يقوم على تخصيص أموال المعونات لدعم استقرار الاقتصاد استراتيجية منخفضة التكلفة لكنها مربحة جدًا، وقد تكون فعّالة بغض النظر عن مآلات الصراع ومحادثات السلام الهشة. كما ستصحح أي تصورات خاطئة حول حجم الأموال المتدفقة من الخارج بالعملة الصعبة إلى المؤسسات المالية اليمنية، والتي تعد أقل بكثير من المبلغ الإجمالي الذي تنفقه الجهات الفاعلة في مجال الإغاثة. بمجرد تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة، سيُتاح المجال أمام الانخراط الحقيقي والفعّال في هذه المسألة، وتحسين الشفافية ليس فقط حول تحويلات المعونات والمساعدات المتدفقة إلى اليمن، بل حول السوق المالي في اليمن بشكل عام.

مقدمة

أبرز تداعيات حرب اليمن كان الاختلال الكبير في ميزان المدفوعات بالبلاد. قبل اندلاع الصراع الجاري، كانت صادرات النفط والغاز والتحويلات المالية تمثلان المصدر الرئيسي للعملة الصعبة في اليمن.[1] على هذا الأساس، سبب تعليق صادرات النفط في بداية الحرب وما تبع ذلك من تداعيات شاملة على الاقتصاد الإنتاجي بتراجع حجم العملات الأجنبية المتوفرة داخل البلاد. كما أدى انقسام البنك المركزي اليمني إلى فرعين متنافسين يديرهما طرفا النزاع -أي البنك المركزي في عدن الذي تديره الحكومة المعترف بها دوليًا والبنك المركزي في صنعاء الذي تديره سلطات الحوثيين -إلى تبني سياسات اقتصادية ونقدية متنافسة. بالتالي، ألقت هذه التطورات بظلالها على قيمة العملة المحلية (الريال اليمني) وأدت إلى تضخم كبير في الأسعار، مما فاقم من تدهور الوضع الإنساني باعتبارهما عاملين أساسيين.
في ظل هذه الظروف، عانى المستوردون اليمنيون من الحصول على العملة الصعبة اللازمة لاستيراد السلع الأساسية. وبُذلت محاولات لمعالجة هذه المسألة في السنوات الماضية، منها الوديعة السعودية بقيمة ملياري دولار أمريكي المقدمة للبنك المركزي اليمني في عدن عام 2018، والوديعة الثانية التي قُدمت في فبراير/ شباط 2023.[2] من جهة أخرى، عقد البنك المركزي في عدن منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 مزادات أسبوعية لبيع العملات الأجنبية للبنوك اليمنية بسعر مُخفّض بهدف تخصيصها لمستوردي السلع الأساسية. رغم هذه المحاولات، ما تزال احتياطيات الحكومة من النقد الأجنبي في حدها الأدنى، ويتزامن هذا مع ضبابية تحوم حول قدرة الحكومة مستقبلًا على الاستمرار في تنظيم مزادات بيع العملات. ضاق الحبل حول عنق الحكومة مع توقف صادرات النفط والغاز تمامًا في أعقاب استهداف الطائرات الحوثية المسيّرة موانئ تصدير النفط في جنوب اليمن نهاية عام 2022، لتُحرم من أهم مصادر توليد العملة الصعبة. كما فُرضت قيود على البنوك المسموح لها بالمشاركة في مزادات بيع العملات في ظل التنافس المحتدم على تنظيم القطاع المصرفي مع البنك المركزي في صنعاء الذي تديره سلطات الحوثيين. نتيجة لهذه التحديات، ما يزال المستوردون اليمنيون يعانون من أجل الحصول على العملات الأجنبية، وانخفضت قيمة الريال اليمني في مناطق سيطرة الحكومة إلى أدنى مستوياتها منذ أواخر عام 2021.
وعلى ضوء الانهيار الاقتصادي الذي خلفه الصراع، أصبح اليمن يعتمد بشكل كبير على المساعدات الإنسانية الخارجية والتحويلات المالية كمصدرين أساسيين للعملات الأجنبية. ورغم أن مجال الإغاثة يلعب دورًا كبيرًا في الاقتصاد الوطني ويؤثر بشكل واسع على الاقتصاد الكلي والجزئي، لم تُجرَ دراسات وتحليلات وافية عن أثر المساعدات على الاقتصاد ككُل، بما في ذلك مدى مساهمة أموال المساعدات في استقرار العملة المحلية، وما إذا كان يمكن استخدام هذه الأموال بصورة أكثر كفاءة لتحقيق هذه الغاية. على سبيل المثال، تم التعهد عام 2021 بتقديم 3.32 مليار دولار أمريكي[3] من المساعدات الخارجية لليمن، إلا أن المبلغ الذي وصل إلى المؤسسات المالية اليمنية -رغم أهميته -كان أقل بكثير.[4] ووفقًا للمقابلات التي أُجريت في إطار إعداد هذا الموجز السياساتي، حوّلت وكالات الأمم المتحدة خلال هذه الفترة ما يقرب من مليار دولار أمريكي إلى المؤسسات المالية اليمنية، بينما جرى مصارفة جزء بسيط من هذا المبلغ إلى الريال اليمني.[5]
منذ عام 2018، حاول البنك المركزي في عدن إنشاء آلية لتنظيم صرف العملات الأجنبية تحت إشرافه بحيث تقوم -في إطارها -الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية والجهات المانحة الدولية بتحويل أموال المساعدات إلى اليمن. كما اتهم البنك الحوثيين في صنعاء باختلاس أموال من عمليات مصارفة العملات الأجنبية ومن تحويلات المساعدات المالية لتمويل جهودهم الحربية، [6] وهو ما شكل أساسًا لتحرّك الجهات الفاعلة في القطاعين العام والخاص لدعوة الأمم المتحدة والجهات المعنية بالإغاثة والاستجابة الإنسانية للعمل مع مؤسسات مثل البنك المركزي اليمني في عدن، خاصة خلال فترات انعدام الاستقرار الاقتصادي الحادة.[7] كما تنامت الدعوات من جانب التحالف الذي تقوده السعودية لإدارة الأموال المخصصة للمعونات/ المساعدات من قِبل البنك المركزي الذي تديره الحكومة، بهدف منع وصول هذه الأموال للحوثيين.[8] كانت المسألة سياسية بطبيعتها، كونها تقترن بالجهود المبذولة لتعزيز موقف الحكومة والبنك المركزي بعدن في مواجهة سلطات الحوثيين، عدا أنها رُبطت بمسائل أخرى مثل كيفية صرف العملة الصعبة إلى الريال اليمني من قِبل الجهات العاملة في مجال الإغاثة، والمخاطر التي تواجهها هذه الجهات عند التعامل مع مقدمي الخدمات المالية في اليمن (لشراء العملة المحلية غير المستقرة والمتباينة).[9]
يجادل البنك المركزي اليمني في عدن بالمنافع الاقتصادية التي قد تعود من إدارته للتحويلات المالية المتدفقة عبر منظمات الإغاثة، حيث سيكون بإمكانه ربط هذه التحويلات لمواجهة الاحتياجات التمويلية للواردات. وهذا بدوره سيحسن فرص وصول المستوردين إلى العملة الصعبة، وبالتالي الحد من تقلبات أسعار صرف العملة وتضخم أسعار المواد الغذائية وغيرها من السلع الأساسية. ورغم عدم إنكار تسييس هذه المسألة في الماضي، هناك أساس منطقي لطلبه؛ ففي ظل الافتقار إلى الرقابة التنظيمية والتداعيات الشاملة للنزاع، تُنفق مبالغ كبيرة بالنقد الأجنبي في اليمن على السلع الكمالية غير الضرورية والعتاد الحربي المستورد، أو “تُفقد” بسبب استمرار هروب رؤوس الأموال المقدرة بمليارات الدولارات، تحت غطاء شراء عقارات في الخارج أو نقل الأعمال التجارية والبنية التحتية الصناعية إلى الخارج.[10] ومع الواقع الذي يعيشه القطاع المالي حاليًا في اليمن، يوجد تحدي كبير في الحد من هروب رؤوس الأموال أو تفعيل ضوابط رقابية فعّالة، وهنا تبرز الفرصة التي قد تنشأ عن توجيه العملة الصعبة إلى مستوردي السلع الأساسية حيث يمكن أن تسهم في الحفاظ على استقرار أسواق صرف العملة المحلية المتقلبة. فضلًا عن ذلك، قد يساهم تسهيل الوصول إلى الودائع المخصصة للمعونات/ المساعدات عبر حسابات طرف البنوك المراسلة الأجنبية في تقليص التكاليف التي يتكبدها المستوردون للحصول على عملات أجنبية قابلة للاستخدام داخل الأسواق المالية المحلية اليمنية التي تعاني من قيود للوصول إلى النظام المالي العالمي.[11]
رغم هذه التحديات، تشير المشاورات الأولية التي جرت مع مجموعة من الجهات الفاعلة ذات الصلة إلى أن هناك هامشًا للتحرك والعمل على ربط أموال المعونات/ المساعدات بتمويل الواردات، وكذلك زيادة الشفافية حول تلك الأموال المتدفقة.[12] فالأموال المخصصة للمعونات “أموال نظيفة” وغالبًا ما يُحتفظ بها في الخارج بحسابات لدى بنوك المراسلة الأجنبية -وهذا سيُساعد التجار الذين يعانون من صعوبة الحصول على العملة الصعبة، بل سيُتيح أيضًا تبني تدابير أكثر كفاءة من حيث التكلفة والشفافية لتوجيه الأموال لغرض استيراد السلع الأساسية. فضلًا عن ذلك، يمكن أن تؤدي زيادة الشفافية إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة حول حجم تحويلات المعونات/ المساعدات المتدفقة إلى المؤسسات المالية اليمنية وكيفية صرف هذه الأموال.

المنهجية

أُعد هذا الموجز السياساتي استنادًا إلى المعلومات المستمدة من ست مقابلات أُجريت مع مسؤولين في منظمات إغاثة دولية وخبراء اقتصاديين وخبراء في الشأن اليمني بين أبريل/نيسان ويونيو/حزيران 2023. كما اعتمد الباحث على خبرته المستمدة من عمله في مجال المساعدات الدولية في اليمن خلال الفترة 2018 -2021، وتعاونه مع الوحدة الاقتصادية لمركز صنعاء، إلى جانب إجراء مراجعة معمّقة للدراسات المتوفرة ذات الصلة.

الخلفية

يعتمد اليمن على الواردات لتلبية معظم احتياجاته من الوقود والغذاء، إلا أن القدرة المحدودة على تغطية تكاليف استيراد هذه السلع تظل أكبر عوامل انعدام الأمن الغذائي. بُذلت جهود متعددة من قِبل الحكومة المعترف بها دوليِا للدفع باتجاه تطبيق الرقابة وتنظيم تدفقات المعونات/ المساعدات المالية وتوجيهها لتغطية الاحتياجات التمويلية للواردات. ذكرت بعض الجهات الفاعلة في مجال الإغاثة أن البنوك وجهت تحويلاتها المالية[13] إلى مستوردي السلع الأساسية.[14] من جانبها أشارت سلطات الحوثيين إلى أنها خصصت العملات الأجنبية التي تقدمها الجهات الفاعلة في مجال الإغاثة لتمويل واردات المواد الغذائية والوقود. رغم هذا، لا توجد حاليًا ضوابط منظمة أو شفافة للتحقق من صحة هذه الادعاءات.[15]
طلب البنك المركزي اليمني في عدن من الجهات الفاعلة بمجال الإغاثة التعامل مباشرة معها في إيداع التحويلات الخارجية المتدفقة بالعملة الصعبة ومصارفتها للريال اليمني، خاصة خلال الفترات التي تكون فيها احتياطيات النقد الأجنبية منخفضة للغاية، أو عند تذبذب أسعار صرف الريال بشكل كبير.[16] بعبارة أخرى، اقترح “بنك البنوك” تقديم خدمة مصرفية مباشرة لتسهيل عمليات المصارفة، علمًا أن أحد مقترحات البنك المركزي في عدن طُرحت عام 2021 حين انتشرت مزاعم بتقديم أسعار صرف للريال اليمني فوق أسعار الصرف السائدة في السوق الموازية من قِبل مقدمي الخدمات المالية الشريكة لمنظمات الإغاثة. منذ عام 2020 -أي بعد حظر سلطات الحوثيين تداول الأوراق النقدية الجديدة المطبوعة من البنك المركزي في عدن –[17]ظهر التفاوت بين قيمة “الريال القديم” المُتداول في مناطق سيطرة الحوثيين و”الريال الجديد” المتداول في مناطق سيطرة الحكومة، حيث بلغ سعر الدولار الأمريكي في مناطق سيطرة الحكومة 1,725 ريالًا في ديسمبر/كانون الأول 2021، بينما بلغ سعره في مناطق سيطرة الحوثيين حوالي 600 ريال.[18] ومع زيادة هذا التفاوت، [19] باتت الجهات الفاعلة في مجال الإغاثة تحصل على أسعار صرف غير ملائمة لمشاريعها المنفذة في مناطق سيطرة الحكومة، مع اعتماد البنوك التي تتخذ من صنعاء مقرًا لها أسعار صرف مقاربة للسعر المعتمد من سلطات الحوثيين.[20]
أدركت المؤسسات المالية الحكومية الفرصة والمنفعة المحتملة التي قد تعود على البنوك التجارية من عملية المراجحة، وبالتالي سارعت إلى تذكير الجهات الفاعلة في مجال الإغاثة بالخسارة التي تكبدتها عند تحويل الأموال المخصصة للمساعدات في عامي 2016 و2017، أي خلال الفترة الأولى للصراع التي أدت إلى تراجع قيمة صرف العملة والذي كان ثابتًا قبلها (على ضوء تبني سياسة التعويم التدريجية). خلال هذه الفترة، جَنت البنوك اليمنية التي كانت تتولى صرف الأموال لمنظمات الإغاثة الدولية أرباحًا كبيرة على حساب المستفيدين من تلك المساعدات.[21]
وفقًا للمقابلات التي أُجريت في إطار إعداد هذه الورقة، أخذت الأمم المتحدة هذه الدعوات على محمل الجد نوعًا ما، حيث بادرت عام 2021 بالتعاون مع البنك المركزي في عدن لتقييم أسعار صرف الودائع المرتبطة بأموال المساعدات. ورغم ذلك، خلصت إلى أن مخاطر السوق عالية جدًا مقابل المنفعة المحتملة المتدنية للغاية لأي تعامل مباشر مع البنك المركزي في عدن[22] (يمكن النظر في الاعتبارات التي بُني على أساسها هذا القرار في جزء “التحديات والمخاطر” في هذه الورقة). لم يُثنِ ذلك السلطات الحكومية عن تكرار إعادة النظر في مطالبها بشكل مرتجل، وما تزال هذه المسألة تحظى باهتمام كبير.[23]

الحقائق والمفاهيم الخاطئة عن تحويلات المعونات/ المساعدات المتدفقة إلى اليمن

حَالت المفاهيم الخاطئة التي تحوم حول حجم التحويلات المالية المتدفقة إلى البنوك اليمنية دون الاستفادة من تحويلات المعونات/ المساعدات لدعم تمويل الواردات.[24] ذكر أحد الأشخاص الذين جرى مقابلتهم أنه بمجرد تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة، سيكون هناك مجال أمام الانخراط الحقيقي والفعّال في هذه المسألة.
من المهم أيضًا الإشارة إلى أن أي ربط بين تحويلات المعونات/ المساعدات وتمويل الواردات لن يزيد من حجم العملة الصعبة المتوفرة في السوق اليمنية، وبالتالي لن يدعم قيمة الريال اليمني إذا نُظر في المسألة من منظور اقتصادي بحت، لكن هذا لا يمنع الحجة الاقتصادية القوية المذكورة آنفًا التي تجادل بأن تحسين قدرة المستوردين للوصول إلى العملات الأجنبية من شأنه أن يقلّص التكاليف الإضافية المرتبطة بالحصول على العملة الصعبة في سوق تعاني من قيود، وأن يحد من “تسرّب” العملة الصعبة التي تُنفق على سلع غير أساسية. بالتالي، سيُساعد اعتماد آلية مشتركة وشفافة تُنظم تدفق تحويلات المعونات/ المساعدات الخارجية والاستفادة منها في تمويل واردات السلع الأساسية على الحدّ -بشكل غير مباشر -في احتواء تدهور قيمة الريال اليمني. كما أن الاستفادة من أموال المساعدات الخارجية لتلبية احتياجات التجار المستوردين من العملات الأجنبية ستحد من إمكانية استخدام هذه المساعدات لتسهيل هروب رؤوس الأموال، وستُخفف الضغط الراهن على سوق تداول العملات الأجنبية بشكل عام.

كيف تُصرف أموال المساعدات؟

تُنفق نسبة كبيرة من المساعدات الخارجية، وخاصة المساعدات الإنسانية، على التالي: 1) شراء المساعدات العينية من خارج اليمن. 2) نفقات بالعملة الصعبة داخل اليمن (لتغطية الرواتب، المشتريات، إلخ). ورغم أن المساعدات الإنمائية الخارجية لليمن بلغت مليارات الدولارات سنويًا منذ عام 2015، فإن المبالغ الفعلية المُحوّلة إلى المؤسسات المالية اليمنية أقل بكثير من ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة للمبالغ التي يتم مصارفتها إلى الريال اليمني.[25] معظم المساعدات العينية، كالقمح، تُشترى من الخارج وتُشحن بالسفن -لا سيما المساعدات العينية المموّلة من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.[26] وبالمثل، غالبًا ما تعتمد المشتريات من الشركات اليمنية على تعاملات مع بنوك المراسلة الأجنبية في الخارج. ويمكن القول بصورة عامة إن نسبة مئوية واحدة فقط من أموال المساعدات المخصصة لليمن -التي تعد كبيرة -تُتاح للتجار والمستوردين عبر النظام المصرفي اليمني، علمًا أنه يُتوقع انخفاض هذه النسبة مع تراجع التمويلات المخصصة للمعونات/ المساعدات.
تُنفق أموال المساعدات المحوّلة إلى اليمن بطريقتين: يُسمح لمنظمات الإغاثة باستخدام الدولار الأمريكي لتغطية نفقاتها التشغيلية بناء على القرار الصادر عن البنك المركزي اليمني عام 2016، [27] وهي عملية اعتُمدت بشكل كبير عام 2018 حين بدأت قيمة الريال اليمني بالتذبذب؛ مما دفع التجار والشركات العاملة مع الجهات الفاعلة في مجال الإغاثة إلى المطالبة بمدفوعاتهم بالعملة الأجنبية (غالبًا نقدًا) من أجل التحوّط ضد المخاطر خلال فترات التقلبات الحادة في أسعار الصرف. وكثيرًا ما تُدفع مرتبات العاملين في مجال الإغاثة بالعملة الصعبة أيضًا (سواء المحليين أو الأجانب).[28]

التحديات والمخاطر

استمرار تسييس المساعدات

ينطوي أي تعامل مباشر مع الجهات المالية في اليمن على خطر استخدام المساعدات لدعم الأجندات السياسية، خصوصًا في ظل “الحرب الاقتصادية” التي شكلت سمة من سمات الديناميكية السياسية في المشهد اليمني خلال السنوات الأخيرة. تزامن هذا مع تدني مستوى ثقة الجهات الفاعلة في مجال الإغاثة بشكل عام في المؤسسات الحكومية اليمنية (في كلٍ من صنعاء وعدن)، مما ثبّط الانخراط الفعّال في تخصيص أموال المساعدات لدعم واردات السلع الأساسية. من وجهة نظر كبار المسؤولين العاملين في مجال الإغاثة، تنطوي المقترحات المطروحة من المؤسسات المالية اليمنية (كالطلب المقدم من البنك المركزي اليمني في عدن عام 2021) على دوافع ذاتية، ولا تأخذ بعين الاعتبار المخاطر الكامنة في مثل هذه التعاملات، كخطر تسييس المعونات/ المساعدات واستغلالها، والذي قد يجر قطاع العمل الإنساني أكثر إلى براثن الحرب الاقتصادية القائمة بين الحكومة وسلطات الحوثيين.
من جهة أخرى، شكّك الأشخاص الذين أُجريت معهم المقابلات بدور الأمم المتحدة في توفير مصدر ثابت لتمويل واردات السلع الأساسية، وما إذا كان هذا ينطوي على خطر تسييس المساعدات الإنسانية. كما رأوا أن التعامل المباشر مع البنك المركزي اليمني في عدن قد يقلّل من كفاءة تقديم المساعدات، لا سيما في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين التي تتركز فيها أغلب التجمعات السكانية. كما شكّكوا في مدى ملاءمة التوقيت، حيث ذكر أحد الأشخاص الذين أُجريت معهم مقابلات أن مرحلة ما بعد الصراع قد توفر بيئة أفضل للنظر في اعتماد مثل هذه السياسة.[29]
علاوة على ذلك، أشار أحد الأشخاص المُقابَلين إلى أن المقترحات المطروحة سابقًا من قِبل البنك المركزي في عدن تفتقر إلى تفاصيل، مما أثار عدد كبير من الأسئلة المتعلقة بالجوانب الفنية وكيفية إدارة أي نظام من هذا النوع.[30] مثلًا: كيف يمكن طمأنة الجهات المعنية بتقديم المعونات/ المساعدات على الأرض من حصولهم على الأموال في الوقت المناسب وبشكل منتظم؟ وكيف سيتم تتبع تأثير مثل هذه السياسة بمرور الوقت؟ وما مدى نجاعة الخطط السابقة والحالية المعتمدة لتمويل الواردات على أرض الواقع؟ والأهم من ذلك، هل هذا هو أفضل استغلال لوقت وموارد قطاع الإغاثة؟[31].
في غضون هذا، توجد بعض الشواغل إزاء الكشف عن الحجم الحقيقي لأموال المساعدات المُحوّلة إلى البنوك اليمنية (والتي تقل كثيرًا عن إجمالي التعهدات)، حيث قد يؤجج استياء الرأي العام من عمليات الاستجابة الإنسانية التي تتعرض أساسًا للهجوم باعتبارها إهدارًا للأموال.[32] كما أشار أحد الأشخاص المُقابَلين إلى أن منظومة الأمم المتحدة تعتمد هيكلًا مُعقدًا لا يصلح لعمليات جمع بيانات من هذا النوع، والتي تتطلب استثمارًا كبيرًا للوقت وانخراطًا فعّالًا.[33] عبّر شخص آخر من المُقابَلين عن رأيه بصورة أكثر وضوحًا، مشيرًا إلى أنه من غير المرجح أن ترحب بعض وكالات الأمم المتحدة بهذا النوع من التركيز والشفافية، خوفًا من الدعوات المطالبة بمزيد من المساءلة.[34]

الهيئات الاقتصادية اليمنية وغياب الشفافية

أي سياسة لربط أموال المعونات/ المساعدات بتمويل الواردات ترتكز على عامل أساسي يتمثل في فهم طبيعة الدور الذي تلعبه المؤسسات الاقتصادية اليمنية -في كل من المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين والحكومة -في إدارة وتوفير احتياطيات العملات الأجنبية للتُجار.[35] في صنعاء، تضطلع لجنة المدفوعات بهذا الدور -وهي مؤسسة اقتصادية أنشأتها سلطات الحوثيين عام 2018 للمساعدة في إدارة احتياطيات النقد الأجنبي ووصول المستوردين إليها. يتسم عمل هذه المؤسسة بالضبابية لا سيما في كيفية تخصيصها لاحتياطيات النقد الأجنبي، وبالنظر إلى تركيز الجهات الفاعلة في مجال الإغاثة -والبنوك التي تقدم لها الخدمات -على الجوانب التشغيلية في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، تلعب لجنة المدفوعات دورًا رئيسيًا في اختيار التجار الذين يحصلون على هذه الموارد، رغم إشارتها إلى أنها تعطي الأولوية لواردات السلع الأساسية.[36] ذكر أحد الأشخاص المُقابَلين أن السلطات الاقتصادية الحوثية تعارض بشكل خاص زيادة الشفافية في ممارسات القطاع المالي والمؤسسات المالية الخاضعة لسيطرتها.[37]
في الوقت الراهن، تتسم عمليات البنك المركزي في عدن بضبابية أقل حيث يعقد مزادات لبيع العملة الأجنبية من أجل دعم البنوك، ومن خلالها دعم المستوردين الذين تشتد حاجتهم للعملة الصعبة.[38] ورغم الإفصاح علنًا عن المبالغ المعروضة في المزادات والسلع، تُحجب أسماء البنوك والتجار المشترين للعملة الأجنبية وكذلك المعلومات المتعلقة بمصدر العملة الصعبة المعروضة للبيع. ظلت نسبة شراء البنوك للعملة المعروضة للبيع في هذه المزادات منخفضة، حيث تجاوزت نسبة 60 في المائة في مناسبتين فقط خلال الفترة من يناير/ كانون الثاني إلى مايو/ أيار 2023.[39] يُعزى ذلك جزئيًا إلى أسعار الصرف غير المواتية، والتغيرات الديناميكية في سوق الصرف، فضلًا عن منع سلطات الحوثيين البنوك الواقعة في مناطق سيطرتها من المشاركة في المزادات.[40]
تشكل الظروف الحالية تحديات أمام تنفيذ أي توصيات سياساتية من قِبل الأطراف المتنافسة والمناوئة لبعضها في أغلب الأحيان. لم تفلح الجهود المبذولة سابقًا في إقناع الجهات الفاعلة بمجال الإغاثة والمجتمع الدولي لتوجيه تحويلات المعونات/ المساعدات واستخدامها في تمويل الواردات، ولا يستبعد أن يساور الجهات الفاعلة في مجال الإغاثة قدر من الشكوك إزاء هذه المسألة، بل وأن يُعترض عليها بشكل صريح. ففي حال سير الأمور بالاتجاه الخاطئ، ستُقحم عمليات الاستجابة الإنسانية في تعقيدات الديناميكيات السياسية. وقد أُشير صوابًا من قِبل الجهات الفاعلة في مجال الإغاثة إلى أن ربط تحويلات المعونات/المساعدات بأطراف محددة، كالبنك المركزي اليمني في عدن، قد يؤجج رد فعل من قِبل السلطات في صنعاء، مما قد يؤثر بشكل مباشر على المشاريع الإنسانية وبدوره سيؤثر سلبًا على حياة ملايين اليمنيين الذين يعتمدون على المساعدات.

الأساس المنطقي لتبنّي آلية محايدة وشفافة تربط المساعدات المالية المتدفقة من الجهات الفاعلة في مجال الإغاثة بتمويل الواردات

من الأهمية بمكان أن تدرك الجهات الفاعلة في مجال الإغاثة أن استخدام مخاطر السوق كذريعة لتجنب التعامل مع أي مقترح لزيادة الشفافية حول التحويلات المالية، هو سوء تقدير لطبيعة علاقتها الهشة مع المؤسسات المالية المعنية بتقديم الخدمات المالية التي يُعتمد عليها في تنفيذ المشاريع الإنسانية. تعمل البنوك اليمنية والمؤسسات المالية بشكل عام في إطار شبكة علاقات وطنية معقدة وبنية تحتية لا تتماشى مع بعضها في المناطق المنقسمة؛ فالجهات الفاعلة السياسية على المستوى المحلي والجهات الفاعلة في القطاع الخاص تتمتع بقدر من النفوذ، وبمقدورها في الوقت الراهن اللجوء إلى ممارسة نفوذها بطرق غير متوقعة. وفي ظل هذه الظروف، تبرز الحاجة إلى إظهار حسن النية واتخاذ تدابير استباقية لتفادي أي ردود فعل للتغيرات في النُهُج والسياسات المتبعة.
كما أن غياب الوضوح في مسار المفاوضات السياسية الجارية يُثبط من محاولات الجهات الفاعلة الدولية للمشاركة في وضع هكذا سياسات، حيث أشار كبار المسؤولين في المنظمات العاملة في مجال الإغاثة إلى أن هذا سبب لعدم اتباع سياسة شفافة لربط تحويلات المعونات/ المساعدات بتمويل واردات السلع الأساسية، إلا أن الظروف الراهنة تُحتّم الانخراط النشط والاستباقي لاعتماد هكذا سياسة؛ فزيادة الشفافية والعمل على إنشاء نظام يمكن من خلاله توجيه تحويلات المساعدات للمساعدة في استقرار الاقتصاد هي استراتيجية منخفضة التكلفة لكنها مربحة جدًا وقد تكون مؤثرة سواء في السيناريوهات الإيجابية أو السلبية لمحادثات السلام اليمنية في المستقبل. كما يمكن أن تعزز من كفاءة توفير المساعدات وإدماجها في الأهداف العريضة للنهج الترابطي بين العمل الإنساني والتنمية والسلام.
أي تقدم محرز صوب إبرام اتفاق سلام سيتطلب خطوات تدريجية لبناء الثقة التي تعد جوهرية لإرساء الأسس المطلوبة لتنفيذ خطط أكبر وأكثر طموحًا تركز على بناء توافق في الآراء بشأن تهدئة الحرب الاقتصادية في اليمن، أو على الأقل التخفيف من آثارها على المواطنين العاديين. في المقابل، أي تعثر في مفاوضات السلام الجارية سيعني انعدام الاستقرار الاقتصادي وتقلّب أسعار صرف العملة، وهو ما يعيد تأكيد الحاجة إلى تبني آلية فعالة وشفافة لتوجيه تحويلات المعونات/ المساعدات صوب تمويل واردات السلع الأساسية.

التوصيات

إلى وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية المنخرطة في الاستجابة الإنسانية وتوفير المساعدات في اليمن

تجميع البيانات المالية على المستوى المحلي لتحديد المبالغ التي تُحوّل إلى البنوك اليمنية وخلال أي فترات زمنية، لإنشاء الأسس اللازمة لنظام يربط التحويلات المالية الدولية بشكل أقوى بالاحتياجات التمويلية لمستوردي السلع الأساسية والضرورية في اليمن.

 

إلى الهيئات الاقتصادية اليمنية:

نشر البيانات المتعلقة بتحويلات المعونات/ المساعدات المتدفقة إلى المؤسسات المالية اليمنية كلما كان ذلك ممكنًا.

 

على البنك المركزي في عدن الاستفادة من إشرافه على شبكات “سويفت” للمساعدة في رصد التحويلات من منظمات الإغاثة إلى البنوك اليمنية. في هذا السياق، ينبغي أن ينتهج البنك المركزي أكبر قدر من الشفافية فيما يتعلق بالإفصاح عن مصدر العملة الصعبة المعروضة للبيع في مزاداته المنعقدة بشكل منتظم، وأن يضغط على البنوك/ المؤسسات المُشترية للعملات المعروضة في المزادات لتوضيح متى تُستخدم لدعم استيراد السلع الأساسية، كالغذاء والوقود. من المهم بمكان أن يتجنب البنك المركزي الاستمرار في تسييس المسألة.

 

على البنك المركزي اليمني في صنعاء والهيئات الاقتصادية الأخرى في صنعاء التجاوب بشكل إيجابي مع الجهود الرامية إلى تحسين الشفافية فيما يتعلق بربط تحويلات المعونات/ المساعدات بتمويل واردات السلع الأساسية ونشر البيانات ذات الصلة بهذا الأمر.

 

إلى البنوك اليمنية والكيانات التجارية الفاعلة:

نشر معلومات عن الجهة التي اشترت العملة الصعبة المحوّلة من منظمات الإغاثة، والالتزام بآلية تستند إلى توافق الآراء وتعطي الأولوية لاستخدام تحويلات المعونات/ المساعدات لدعم شراء السلع الأساسية، كالغذاء والوقود.

 

إلى المجتمع المدني اليمني والجهات الفاعلة الدولية والجهات الفاعلة في القطاع الخاص (التجار المستوردين والمؤسسات المالية على حد سواء):

التعاون من أجل استكشاف سُبُل وضع آلية محايدة تضم طرفًا ثالثًا لتجميع البيانات المالية المتعلقة بتحويلات المعونات/ العمل الإنساني، ومن المؤسسات المالية التي تتلقى هذه التحويلات، وكيف يمكن توجيهها نحو دعم واردات السلع الأساسية.


التعليقات