يتذكر عبد الجليل الشخصي صوت أمه وهي تطلب منه الصعود إلى السقف أو سطح البيت لجلب البسباس والطماطم لتحضير صلصة "السحاوق" الحارّة المكوّنة من الطماطم والبسباس (الشمّر) والثوم والكزبرة.
يقول لرصيف22: "لم يكن يخلو بيت من الزرع الذي يوضع في وعاء فارغ أو إناء حديدي أو بلاستيكي متهالك بعد ملئه بالتراب، وهو ما يعرف بنبات الأصيص، وما تزال رائحة نبتة الحُمحُم العطرية التي تفوح في الفجر والمغرب عالقة في ذاكرتي بعد سنوات من مغادرتي القرية مغترباً".
ورغم أن المزروعات تحيط بقريته في محافظة إب الخضراء نسبة لجبالها الخضراء طيلة العام، يزرع الناس في المُحواض، وهي مساحة لا تتجاوز 3 أمتار مربعة أمام باب البيت أو تحت نوافذه، ويعتبرونه ركناً مقدساً يحوي المنفعة والجمال، إذ إن الإنسان مجبور على حب الطبيعة كما يقول.
ولا تقتصر الزراعة حول المنازل على المناطق الريفية، إذ تزرع فاتن علي الأشجار في فناء بيتها في العاصمة صنعاء منذ أكثر من 25 سنة، لأنها عادة يمنية متوارثة، وتعتني بنبات الأصيص في سطح منزلها وداخله.
وتقول: "رعاية نبتة في أصيص لا تتطلب سوى وعاء فارغ كإناء طبخ حديدي قديم أو علبة منتجات كالحليب والزبدة، والطلاء والقليل من المياه وبعض الشمس أو الضوء، واختيار التربة التي تتلاءم مع النبتة، وعادة نزرع الريحان والنعناع والصبار والبصل والبسباس في أصيص لنتمكن من الوصول إليها في أي وقت، كما أنها تمنح الروح لزوايا البيت".
وتضيف سميرة حيدر من حي الجراف في صنعاء: "بدأت زراعة نبات الأصيص مع الأزمة بطلب من زوجي لسد حاجتنا من الأوراق الخضراء، خاصة الكراث لتحضير السلتة المكونة من الحلبة والبامية أو العدس أو البطاطا أو اللحوم. المزروع لا يكفي لكنه لوقت الحاجة".
•الحاجة لنبات الأصيص
تمثل المساحات الخضراء في المدن اليمنية متنفساً على محدوديتها، مع ندرة الأشجار التي يكاد المرء لا يراها إلا في الحدائق وجزر الشوارع، وتحويل الأراضي الزراعية لمبانٍ سكنية. أما في الريف لن تجد أرضاً لم يحاول صاحبها حرثها وزراعتها، وستجد الزرع مغروساً في المنزل، عند مدخله وعلى نافذته وفي سطحه.
كما أن اليمني القادم من الريف عاشق للمساحات الخضراء، ومعتاد على محاولات الاكتفاء الذاتي، لتاريخه مع الصراعات والحروب والجفاف والجوع، ما يفسر وجود محاولة في كل بيت لزراعة الفناء أو للاعتناء بنبتة في أصيص للحصول على ما ينقص طعامه من طماطم وبسباس وبصل، كما أنه بحاجة للنباتات العطرية المتنوعة في شكلها ورائحتها كالورد والشذاب والريحان والفل والصبار وإكليل الجبل والزعتر، وتستخدم بخواص تجميلية أو طبية أو لتزيين المنزل في المناسبات كالزواج والولادة وحتى الوفاة، فضلاً عن الأثر النفسي للنباتات في حياة الإنسان.
وتعد زراعة نبات الأصيص مهمة في بلد مثل اليمن يعاني من مناخ جاف وندرة في المياه، فتساهم في خلق مساحات خضراء تزود الناس بالأكسجين والطاقة الإيجابية والمحاصيل الثمينة غذائياً ودوائياً، ولا تتطلب سوى وعاء وتراب وغرسة يتم شراؤها أو الحصول عليها كهدية، وخبرة يتمتع بها معظم اليمنيين.
ويشتري اليمنيون الأوراق الخضراء بشكل يومي لحاجتهم للكراث والكزبرة والنعناع في مأكولات شعبية كالسحاوق والسلتة والشفوت (وهو خبز طري يصنع من حبوب الذرة ويغمر باللبن)، ويتناولون الجرجير والخس والبقدونس والملفوف على مائدة الغداء بهيئتها الورقية أو كسلطة، كما اعتاد الناس في الريف اليمني على تناول البصل والثوم الأخضر والكراث مع اللحوح أو الخبز في أي وقت من اليوم، ويستخدمون النعناع مع الشاي الذي يستهلكونه بإفراط. ويمكن أن يكلفهم شراء كل هذه النباتات ثمانية آلاف ريال شهرياً (ما يعادل 15 دولاراً)، في حين لا يتجاوز دخل الفرد دولارين يومياً.
وتعد زراعة نبات الأصيص في البيوت إحدى مهام الأم والجدة، وتحرص على العناية بالنبات باعتباره جزءاً من ديكور البيت غير المكلف مادياً والمتناسب مع أثاث البيت الشعبي المتوارث، كما تقطف المرأة النباتات التي تفوح منها رائحة لطيفة أو تلك التي تضم زهرة جميلة للتزين بها، وتوضع نباتات الزينة في مزهريات في المناسبات، وبين الثياب في خزانة الملابس لإعطائها رائحة محببة، وفي يد الشابة ملتصقة بخاتم الخطوبة وفي حقيبتها عند خطبتها وزفافها، ويرتدي الشباب الفل الأبيض في مناسبات الفرحة كالزواج والتخرج.
وفقاً للمركز الوطني للمعلومات، تسهم الزراعة بـ 16.5% من الدخل القومي لليمن، وتبلغ نسبة مساحة الأراضي الصالحة للزراعة 81% من إجمالي أراضي البلاد، وتتسم الزراعة بالتنوع في إنتاج المحاصيل لاختلاف الخصائص المناخية باختلاف المنطقة الجغرافية، تبعاً لتفاوت معدلات الأمطار ودرجات الحرارة والرطوبة، ويزرع اليمن الحبوب والخضروات والفواكه والبقوليات. وليس معروفاً تماماً حجم زراعة الأصيص كونها تتم في البيوت وحولها.
•اليمن السعيد تاريخياً
بدأ اليمني الزراعة منذ آلاف السنين، وابتكر المدرجات الزراعية في المرتفعات الجبلية، وبنى بيوتاً على الصخور لتطل على أشجار الوادي المروية بالمطر، وشيد السدود والآبار ليسقي أرضه كل أيام السنة، فسميت البلد باليمن السعيد لما امتلكته من خيرات الطبيعة، إذ حصد اليمنيون محاصيل زراعية غذائية وطبية وعطرية منذ القدم، وأخرى ثمينة كالبن واللبان.
كما عرف عن اليمن تاريخياً امتلاكه البستان أو "المقشامة" نسبة إلى القشمي أي الفجل، وهي مساحة من أرض الوقف تزرع بالفواكه كالتين والتوت والبرقوق والليمون، والخضروات كالطماطم والباميا والفاصوليا، والأوراق الخضراء كالجرجير والكراث والنعناع والكزبرة والبقدونس والفجل.
ويعد البستان أو المقشامة التاريخية من معالم صنعاء القديمة المصنفة ضمن مواقع التراث العالمي، ويبلغ عدد المقاشم فيها 40 بستاناً، ويشتري اليمنيون منها الأوراق الخضراء الطازجة، خاصة مع شكوكهم بنوعية المياه التي تسقى بها الخضروات الواردة للسوق، وهو سبب إضافي لزراعة الأوراق الخضراء في أصيص البيوت.
وفي دراسة بعنوان "المحاصيل الزراعية في اليمن القديم" صدرت عام 2012 عن كلية الآداب في جامعة صنعاء، وثقت الباحثة الزراعة ما قبل التاريخ من خلال دراسة ما عثر عليه من مكتشفات أثرية، وكيفية وصول الأمطار منذ سقوطها على الجبال وانحدارها نحو الأودية حتى الأراضي الزراعية ومدرجاتها، وكيفية تقسيم المياه بينها.
وتبين من خلال ما ورد في النقوش التاريخية أن تطور الحضارة اليمنية القديمة وازدهارها اقترن بتجارة المحاصيل الطبية والعطرية، كما أن الحروب بين الممالك اليمنية ارتبطت بذكر الأراضي الزراعية التي نهبت أو آبار المياه التي دمرت أو المحاصيل الزراعية التي أتلفت، لما لذلك من أثر على معنويات اليمن كمجتمع زراعي.
واحتوت النقوش الاقتصادية على التشريعات والقوانين المتعلقة بالضرائب على المحاصيل الزراعية وقوانين الري والعقوبات ذات الصلة بالزراعة، وطغى على موضوعات النقوش الدينية النذور والهبات للمعبودات، وفي معظمها إما نذور بمحاصيل زراعية أو المباخر التي تُحرق فيها المحاصيل الطبية والعطرية، بل ارتبطت المعبودات بصفات ذات علاقة بالمطر والري والمحاصيل الزراعية، وكانت أغلب ما فرضته الآلهة يتمحور حول الزراعة.
كما تبين أن اليمن زرع المحاصيل الغذائية والعطرية والطبية منذ القدم، إذ ورد ذكرها في النقوش المسندية والخشبية والمنحوتات الصخرية، كما وجدت آثار لها في أدوات الزراعة المعدنية والخشبية بشكلها البدائي.
وحتى اليوم ما يزال اليمني عاشقاً لموطنه السعيد بثرائه النباتي، مدركاً لأهمية الاكتفاء الذاتي والاعتناء بالطبيعة، حريصاً على الفلكلور الشعبي، ويعتقد بأهمية الأعشاب في مداواته من أي مرض وحمايته من الحسد، فلا يتوقف عن غرس نبتة في أي أصيص يتاح له سواء في الريف أو المدينة.