اعتاد بعض صنّاع الأفلام الواقعية والسياسية في السينما، استهلال أعمالهم بملاحظات من نوع "جميع الأحداث مستوحاة من وحي الخيال، وأي شبه بين أشخاصها وأحداثها وأماكنها مع الواقع هو محض مصادفة"، خصوصاً في البلدان التي تعاني من الرقابة.
وبصرف النظر عن عدم وجود عمل يخلو من رؤية الكاتب الخاصة به وشروط العمل السينمائي نفسه، مهما بلغت واقعيته أو تاريخيته، اختفى الشغف بالواقعي في هوليوود حسب سلافوي جيجيك، بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، فقد ظهرت تلك الكارثة كاستعراض مسرحي، كون الإرهابيون لم يقوموا به بالدرجة الأولى لإحداث أضرار مادية واقعية، بل من أجل التأثير الاستعراضي. برغم ذلك، يظهر الشغف بالواقعي في مسلسل "looming tower"، الذي يدور معظمه في اليمن، وينبّه المشاهدين إلى أن جميع الأماكن والأحداث من التاريخ.
•لومنغ تاور: عندما يتحول المتخيل إلى حقائق
يتتبّع مسلسل "لومنغ تاور" خطّين أساسيين؛ توسع نفوذ عناصر القاعدة من نهاية تسعينيات القرن الماضي إلى مطلع الألفية الثالثة في أمريكا، والصراع الدائر بين الاستخبارات المركزية والتحقيقات الفيدرالية آنذاك، حيث تتشكل لجنة تحقيقات مشتركة في أحداث 11-9، تحقق مع وكالة الاستخبارات المركزية لحفظها معلومات حول تحركات وأنشطة عناصر القاعدة داخل أمريكا، واستلامها تهديدات مباشرةً من أسامة بن لادن باستهداف أمريكا، لا سيما بعد تفجير السفارة الأمريكية في نيروبي، وهي معلومات كانت ستحول دون وقوع هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر.
والخط الآخر في المسلسل يحاكم أماكن، جماعات، دولاً، وشعوباً، في الشرق الأوسط. من ضمن تلك الأسماء، يحضر اليمن كجزء من مراكز التهديد لأمريكا، التي لم تؤخذ خطورتها على محمل الجد، مما قاد إلى انتشار القاعدة وتفجير برجي مركز التجارة في نيويورك.
يكثّف المسلسل من تصوير القاعدة في اليمن، ليس كدخيل على المجتمع بل كهوية ينتمي إليها معظم اليمنيين، بحيث جرى تصوير الأطفال مدججين بالسلاح في عدن (المدينة الأكثر مدنيةً)، في كل حلقات المسلسل، منذ وصول طاقم "الجنرال"، والتحقيق مع الجناة، وزيارة المدينة، ومشهد عودة علي صوفان ليلاً عبر طلقات الرصاص التي يطلقها الأطفال في الهواء، حيث يتبعه أحد الأطفال شاهراً سلاحه في مشهد مأخوذ بشكل مبتذل من فيلم"Blood Diamond"، وبعد دقائق يخفض سلاحه ويركض كطفل.
تخلق تلك التكثيفات صورةً نمطيةً ثابتةً عن الأطفال اليمنيين، وصولاً إلى مشهد تفجير مدمرة "يو. إس. إس. كول" على يد أحد الأطفال. ما يسترعي الانتباه، أننا لا نجد فئة الشباب من اليمنيين بتلك الصورة المدججة بالسلاح، فهم إما يعملون في السرّ للقاعدة، كما يفصح المسلسل عن هوية أحد خاطفي طائرات 11 أيلول/سبتمبر، ومقره في صنعاء، أو يجمعون الأموال لدعم عمليات القاعدة في الخارج، ويمارسون النشل على الأجانب في الأسواق كما حدث مع الممثل "علي صوفان" (طاهر رحيم).
بعد أقل من عقدين على عرض فيلم "Rules of Engagement"، يبدو كما لو أنّ تصوير الأطفال بالسلاح وتفجير مدمرة "يو. إس. إس. كول" على يد طفل، ردّ على المظاهرات والاحتجاجات التي وقعت في العاصمة صنعاء آنذاك، بشأن الفيلم الذي يصب جحيمه على اليمنيين، وقتل 83 مدنيّاً من الأطفال والنساء، مما دفع بقائد الفرقة الممثل صامويل جاكسون، إلى قول جملته العنصرية: "اقضوا على هؤلاء الأوغاد" من جهة، ومن جهة أخرى، ردّاً على السفيرة الأمريكية في اليمن التي انتقدت الفيلم في مؤتمر صحافي لها عام 2000، ووصفته بالغباء وبأنه يثير الكراهية، إذ تم تقديمها كمعرقلة لجهود الجنرال لكشف هوية مفجّري المدمرة كول.
استبقت العديد من الأعمال السينمائية أحداثاً عالميةً قبل وقوعها، ولعل آخرها توقيع اتفاقية الدوحة بين طالبان وأمريكا بعد شهر من عرض الموسم الأخير من مسلسل "Homeland"، لكن المؤسف ما يتعلق بالتنميط وليس التنبؤ مثل إظهار جميع الأطفال مسلحين ومتعاونين مع الإرهاب، فهو يقدمهم كمجاميع مسلحة لا كضحايا للجماعات الدينية. وما بين التجنيد العسكري والتنميط الغربي، يفقد الطفل إنسانيته في اليمن.
في تقرير لمنظمة سام للحقوق والحريات، تكشف إحصائية تجنيد الأطفال في اليمن خلال الفترة من أيلول/سبتمبر 2014 وحتى نهاية كانون الأول/ديسمبر 2022، بأنه تم تجنيد 10،649 طفلاً من قبل أنصار الله، أي بنسبة 94.2%، وتم تجنيد 507 أطفال من قبل الحكومة الشرعية، أي بنسبة 4.5%. وفي ظل استمرار جماعة أنصار الله في استقطاب طلاب المدارس عبر المراكز الصيفية والتعليم الأيديولوجي، سينتهي الحال بهم، في المدى البعيد أو القريب، كمجاميع مسلحة.
لا يختلف مسلسل "لومنغ تاور" عن بقية الأعمال النمطية حول اليمن إلا من حيث عرضه في سياق كشف الحقائق المخفية، فهو يعيد صياغة رؤية سياسية، على عكس بقية الأعمال التي تناولت اليمن لأغراض الإثارة والحركة عبر التمسك بأنماط هوليوود عن الشرق، والتي تحقق نجاحاً، فيمنح بإظهار الأطفال كمجاميع مسلحة وتهديدات مُحتملة في المستقبل تسويغاً للأعمال السابقة.
لا تحضر صورة اليمن في هوليوود إلا كمعسكر للعناصر المطلوبة دولياً، وهي صورة انعكست في مسلسل "Carlos" الفرنسي، الذي يروي قصة فنزويلي قام بتأسيس منظمة إرهابية عالمية وداهم مقر أوبك في عام 1975، ويعرض مدينة عدن كمنطقة مشبوهة ينشط فيها الإرهاب، حيث يتلقى كارلوس في أراضيها تدريبات عسكريةً مكثفةً من أجل استهداف أوروبا، وقد انتقلت تلك الصورة النمطية كحقيقة ماثلة في معظم أعمال هوليوود عن اليمن.
لقد أثبتت الأعمال التلفزيونية أنها تستطيع تكوين وعي المشاهدين بطريقة صحيحة أو زائفة، أكثر مما تستطيع أن تفعل أكبر المؤسسات الإعلامية. إذ تقوم برسم المدن وتصديرها على المستوى الدولي، ففي كل أرجاء العالم، تنتشر صور نيويورك وطوكيو وباريس ومومباي وبيونس أيرس وطهران من خلال وسائط عدة أهمها السينما، وتتحدد الهوية الخاصة بكل مدينة من خلال صورتها. وما لم تتحقق أعمال من نوعية فيلم "Salmon Fishing in the Yemen"، كونه الوحيد الذي تناول اليمن من دون استحضار الإرهاب والحريم وزواج القاصرات، ربما سنشاهد تلك الصورة السيئة عن اليمن تنتقل كمسلّمات إلى جميع سينمات العالم.