بسبب الحرب المستمرة في اليمن منذ نحو ثماني سنوات، تقلصت أدوار مؤسسات الدولة وانعدمت بنحو كلي في بعض المناطق والفترات، لتأخذ المبادرات الشبابية التطوعية على عاتقها مسؤولية لعب تلك الأدوار عبر جهود تنموية وإنسانية وإغاثية، بهدف تخفيف معاناة أشد الفئات فقراً في المجتمع.
فمع تدهور الوضعين الإنساني والاقتصادي، وحاجة نحو 80% من اليمنيين إلى شكل من أشكال المساعدة وفقاً للأمم المتحدة، 14.3 ملايين منهم بحاجة ماسّة إليها، كان لا بد من ظهور هذه المبادرات لسدّ النقص الكبير الذي أحدثه غياب الدولة، وفقاً لرئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي اليمني مصطفى نصر.
يقول نصر لرصيف22 إن "المبادرات الشبابية أصبحت بمثابة الرئة التي يتنفس بها المجتمع المحلي في الوقت الراهن. وهي جهود لا بد لها أن تبقى وتستمر، لأنها وحدها مَن انتشل اليمنيين ووقف إلى جانبهم باستمرار".
ولم يقتصر توزيع الجهد الشبابي المنظّم هذا على المحافظات التي تضررت بنحو مباشر من الحرب، بل امتدت لتنتشر في طول البلاد وعرضها، عبر أنشطة وبرامج ومشاريع نوعية وصفها كثيرون بالمثمرة.
يفسّر أستاذ علم الاجتماع في جامعة حضرموت، محمد بن جمعان، هذا الانتشار بقوله لرصيف22: "لأن هذه المبادرات تأسست لتعالج حاجات مجتمعيةً ملحةً، خصوصاً في ظل أوضاع كالتي تمر بها البلاد بأكملها لا محافظة بعينها".
•مخابز وأفران مدعومة
يمنيون كثر يواجهون ظروفاً اقتصادية صعبة في ظل تصاعد الأسعار، حتى باتوا عاجزين عن توفير ثمن المواد الغذائية الأساسية، لا سيما رغيف الخبز، خصوصاً أن نسبةً كبيرةً منهم تعتمد على المخابز والأفران لتوفير احتياجاتها اليومية منه.
لذا أطلقت مجموعة من الشباب، عام 2019، مبادرة في محافظة حضرموت، شرق اليمن، سمّوها مبادرة "المخابز المدعومة"، لبيع الخبز والروتي (خبز يمني شهير ذي شكل مستطيل) بأسعار مدعومة. افتتحوا عدداً من المخابز، وباعوا رغيف الخبز والروتي فيها بعشرين ريالاً يمنياً فقط، بدلاً من 70 ريالاً وهو السعر الذي يباعان به في بقية المخابز والأفران غير المدعومة. ويوماً بعد يوم، صار المواطنون يصطفون في طوابير طويلة أمام هذه المخابز والأفران للحصول على ما يغطّي حاجتهم.
المشرف على هذه المبادرة محمد المحمدي يقول لرصيف22 إن تمويل مبادرة المخابز المدعومة يأتي من خلال تجار ومؤسسات خيرية. ويشير إلى أن أعدادها حالياً في مدينة المكلا، جنوب محافظة حضرموت وحدها، على سبيل المثال، سبعة مخابز موزّعة "بحيث تخدم أكبر عدد ممكن من السكان المستفيدين، بالإضافة إلى أن هنالك ثلاثة مخابز أخرى قيد الإنشاء".
ويذكر المحمدي أن المبادرة تشمل الآن ثلاث مديريات أخرى مجاورة للمكلا، هي: الشحر، غيل باوزير، والديس الشرقية. وعلى غرارها، افتُتحت كذلك مخابز مدعومة في محافظة عدن المجاورة لحضرموت، ليبلغ إجمالي عدد المخابز المدعومة ضمن المبادرة في المحافظتين 15 مخبزاً.
ويتابع متحدثاً عن أهداف المبادرة: "هي للتخفيف من معاناة ذوي الدخل المحدود، والمتعففين، وأرباب الأُسر الكبيرة الذين لا يستطيعون شراء رغيف الخبز لتغطية حاجة أهاليهم اليومية منه. وهي مأساة لا يمكن أن تصفها حروف، ولا تحملها وتترجمها كلمات. أن تساومك الحياة حتى في توفير الخبز ولقمة العيش فهذا مما يؤلم حقيقةً".
صالح سالمين علي (47 سنة)، من أهالي مدينة المكلا، يعمل موظفاً في البريد ويستفيد من مخبز حي السلام المدعوم، يقول لرصيف22، وهو يقف منتظراً دوره في الطابور الطويل: "صحيح أنني أقضي وقتاً في انتظار دوري للحصول على الخبز، لكنني مضطر لأن لدي أسرةً كبيرةً، تتكون من 15 فرداً، وتالياً أنا أوفّر يومياً بوقوفي في هذا الطابور مبلغ 2،250 ريالاً يمنياً. صرف مثل هذا المبلغ بشكل يومي على الخبز لوجبة واحدة فقط سيُشكِّل عبئاً كبيراً عليّ، وسينعكس بشكل سلبي على مستوى معيشتنا". ويعادل مبلغ 2،250 ريالاً التي قال صالح إنه يوفرها بوقوفه في طابور الخبز المدعوم 1.8 دولارات أمريكية.
•إعانة المرضى
بفعل الحرب، توقفت رواتب الموظفين في القطاع الحكومي منذ أكثر من ست سنوات، ما أدى إلى عجز كثير من اليمنيين عن الوصول إلى الخدمات الصحية الأساسية. وتشير إحصائيات للاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر IFRC، صادرة في العام 2022، إلى أن نحو 21.9 ملايين يمني يفتقرون إلى الرعاية الصحية، ويكافح الكثيرون أملاً في الحصول عليها.
هذا ما دفع شباباً في محافظة تعز، جنوب غرب اليمن، إلى إطلاق مبادرة في ريف المحافظة الجنوبي، عام 2018، باسم "شباب من أجل الوطن"، عملت على تأمين مبالغ مالية بالتنسيق مع عدد من التجار والميسورين، داخل البلاد وخارجها، وتخصيصها لبعض المرضى الفقراء غير القادرين على تحمّل تكاليف علاجهم بأنفسهم، سواء من النازحين أو من سكان المجتمعات المحلية المضيفة.
وتتمثّل الخدمات الصحية المدفوعة التي توفرها المبادرة في رسوم معاينة الحالات عند الأطباء المتخصصين والكشوفات السريرية، وإجراء تخطيط للقلب، والأشعة بأنواعها، والفحوصات المخبرية، وشراء الأدوية، والتكفل بإجراء بعض العمليات الصغيرة والكبيرة، فضلاً عن السفر في بعض الحالات الحرجة للعلاج خارج اليمن.
يقول رئيس المبادرة المهندس عبد الحكيم النابهي لرصيف22: "نعمل من أجل هؤلاء المرضى المعسرين. تخيّل أن يبكي طفلك مريضاً وأنت لا تستطيع تأمين تكاليف علاجه. هذا مؤلم جداً. للأسف حالة الناس أصبحت صعبةً وبالكاد يؤمنون لقمة عيشهم، والرواتب منقطعة، وظروف الحرب لا تخفى على أحد".
ويشير إلى أن المبادرة تستهدف مديريتين فقط في تعز، هما المعافر والمسراخ، آملاً أن يتوسع نطاقها في المرحلة المقبلة لتشمل عموم المحافظة، وحتى أن تمتد إلى خارجها إنْ توافرت الإمكانات المالية لذلك.
ويبلغُ معدّل سعر معاينة الحالة (الكشف الطبي)، عند الطبيب المختص، 3،000 ريال يمني (6.7 دولارات أمريكية)، وتختلف أسعار صور الأشعة والفحوصات المخبرية حسب نوعها، في ظل غياب شبه تام للخدمات الطبية الحكومية المجانية في أيّ من المرافق الصحية الحكومية، وكذلك في ظل غياب دور المنظمات المحلية والدولية في هذا القطاع المهم والحيوي.
فتحية عبد الرؤوف (40 سنة)، من سكان مديرية المعافر، تمت تغطية نفقات سفرها في أواخر العام 2018 إلى جمهورية مصر، حيث خضعت لتدخّل جراحي لوضع دعامة لقلبها. تروي لرصيف22، كيف أنها أصيبت بالصدمة عندما أخبرها الأطباء بأن عليها السفر إلى الخارج من أجل وضع الدعامة، فأسرتها فقيرة ومعدمة. تقول: "نحن لا نقوى على توفير المال لعلاجي في اليمن، فكيف في الخارج؟".
وتضيف بامتنان: "لم يكن أمامي سوى اللجوء إلى المبادرة، وقدّمتُ أوراقي وتقاريري لهم وبالفعل استجابوا لطلبي وتمت الموافقة على سفري إلى مصر، والحمد لله سافرت وتلقيت العلاج هناك، وما تزال المبادرة حتى اليوم تتابعني في شراء العلاجات المقررة لي بشكل دائم".
•مشاريع مياه
تعطُّل محطات المياه وانعدامها، وعدم امتلاك القدرات المادية والفنية لتشغيلها مع تدمير شبكات نقل المياه، أفرزت تحديات كبيرة واجهها اليمنيون لا سيما سكان الأرياف، أهمها النقص الحاد في المياه الصالحة للشرب، وصارت عملية البحث عنها والحصول عليها عملاً روتينياً يومياً تقع مسؤوليته على عاتق النساء والأطفال، ويقطعون في بعض المناطق مسافات طويلة لأجل ذلك، مستعينين بالدواب.
انطلاقاً من هذا الواقع، أُطلقت في محافظة حضرموت، عام 2015، مبادرة "سفراء السعادة" الشبابية للمساهمة في التخفيف من معاناة الأهالي، ونجحت في تنفيذ 11 مشروع مياه خلال العام 2022، في مناطق مختلفة داخل المحافظة، بإشراف مهندسين متخصصين، تنوعت بين حفر آبار ارتوازية تعمل بمنظومات الطاقة الشمسية، وتوصيل شبكة أنابيب مياه ناقلة من خزانات المياه إلى منازل المستفيدين مباشرةً، وبناء خزانات مياه، بإجمالي تكلفة وصلت إلى أكثر من 100 مليون ريال يمني (ما يعادل 80،000 دولار أمريكي)، غطت حاجة 185،236 شخصاً من المياه.
المسؤول عن المبادرة محمد باحبارة يصف المشاريع المقدّمة بأنها "فاعلة ومستدامة وليست آنيةً"، كما أنها متنوعة، ولم تقتصر فقط على المياه، بل أيضاً تغطّي "الأمن الغذائي، الصحة، الإيواء، والتعليم"، مشيراً إلى أن المبادرة تموَّل من تجار ومقتدرين مالياً ومؤسسات خيرية، بعد مناشدات تطلق عبر حسابات المبادرة على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، وأن المتبرعين تزايدت أعدادهم بعد أن شاهدوا النتائج الإيجابية للمشاريع التي أُنجزت.
ويضيف لرصيف22: "مبادراتنا حصلت على لقب أفضل مبادرة تطوعية شبابية على مستوى اليمن من الاتحاد العربي للتطوع، وكنت شخصياً وما زلت أحرص في كل أعمال المبادرة على أن أكون مسؤولاً مجتمعياً على مستوى حضرموت بأكملها".
محمد باقهيم (28 سنة)، من أهالي منطقة عتود، في مديرية الضليعة التابعة لحضرموت، والتي شيّدت مبادرة سفراء السعادة خزان مياه فيها، يقول لرصيف22 إن الأهالي قبل ذلك كانوا يشربون المياه الملوثة من مصادر مفتوحة، إما من السدود الأرضية أو مما يُعرف محلياً بـ"الكريف"، وهي أماكن تتجمّع فيها مياه الأمطار، وأقربها إلى منطقته تبعد ما يزيد عن كيلومترين.
وتسجل ذاكرته ثلاث حالات وفاة لنساء سقطن في واحدة من تلك "الكُرفان"، خلال السنوات المنصرمة، ويضيف: "بناء الخزان ومد أنابيب نقل المياه منه إلى داخل الحارات، حقق حلماً كبيراً بالنسبة إلينا، وجنّبنا مشقة وخطورة الحصول على المياه من مناطق أخرى، والأهم من كل ذلك أنها مياه نظيفة".
•في مخيمات النازحين
في تقريرها عن الاحتياجات الإنسانية للنازحين للعام 2023، أشارت الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين في اليمن إلى أن أعداد النازحين في محافظة مأرب، وسط اليمن، بلغت حتى عام 2022، نحو 2،274،453 نازحاً. هذا الارتفاع الكبير في أعداد السكان جعل منظومة الخدمات البسيطة أصلاً غير قادرة على التّحمل، فأصيبت بالإنهاك، لأنها لم تكن جاهزةً من قبل لمواجهة هذا الكم من الزحف البشري المفاجئ القادم من المناطق المجاورة لها هرباً من الحرب، وبحثاً في مأرب عن ملاذ آمن للإقامة والعمل.
ولأنهم الشريحة الأكثر حاجةً إلى المساعدة، وجهت شبكة المبادرات الشبابية في مأرب، والتي تضم في إطارها 15 مبادرةً، جهدها الطوعي نحو النازحين، في العام 2022، خصوصاً نحو الأطفال والنساء المتواجدين في مخيمات الجفينة، السويداء، القوز، وجو النسيم: أقامت هناك أياماً ترفيهيةً للأطفال النازحين، ووزعت الملابس، وتكفلت بتوفير مقاعد ومنح دراسية مجانية للطلاب في بعض المدارس الخاصة.
وبمرور الوقت، صارت مخيمات النازحين هذه عبارة عن تنظيمات اجتماعية وإدارية لها خصوصيتها، ومُنح أفرادٌ فيها من المجموعات المهمشة، لا سيما النساء، أدواراً محددةً ومختلفةً. يقول مدير الشبكة جمال علي إنهن "ساهمن في تنظيم جلسات حوار للاستماع إلى النازحات، لما تمثله من فرصة لإيصال أصواتهن ونقلها إلى العالم، لإدراك جوانب المعاناة التي انعكست على حياتهن في هذه المخيمات المنسية، فكانت بحق لفتةً إنسانيةً مهمةً شكلّت دعماً نفسياً كبيراً للنازحات".
ويرى في عمل الشبكة مع النازحين مهمةً وطنيةً ويقول: "شيء رائع أن نراهم مبتسمين وأوضاعهم في تحسّن يوماً بعد آخر، وهذا يعني لنا الكثير، ويعطينا عزماً أكبر للمضي قدماً في خدمتهم وتقديم مختلف أنواع الدعم الذي نستطيع تقديمه لكل مَن يحتاجه منهم إلى حين استتباب الأمن في بلادنا والذي نأمل أن يكون قريباً".
ع. أ. (34 سنة)، تحمل شهادة بكالوريوس تربية، وهي نازحة من محافظة حجة شمال غرب اليمن إلى محافظة مأرب، برفقة أُسرتها البالغ عدد أفرادها ثمانية أشخاص، تحكي لرصيف22، عن تجربتها في جلسات الاستماع: "أشعر براحة شديدة عقب كل جلسة تقيمها شبكة المبادرات، لأني أرى أن هناك بشراً يهتمون بي ويستمعون إليّ وأنا أتحدث عن معاناتنا والظروف الصعبة التي مررنا ونمر بها. شعرت بإنسانيتي وبأنني لست مجرد رقم فقط ضمن سجلات النازحين".
•صيانة الطرقات
يساور القلق قادة المركبات على الطرقات الداخلية والخارجية في محافظة حضرموت، بسبب الحفر المنتشرة فيها، وتزدحم تلك الطرقات بلوحات تحذيرية مثل: "تمهّل هنالك حفرة". ويؤكد الأهالي أن أي صيانة لم تجرِ على تلك الطرقات منذ ما يزيد عن عقدين كاملين.
عمر العطّاس، شابٌ من مدينة المكلا، يسابق الزمن برفقة شباب مبادرة "فلنتعاون"، في العمل على صيانة طرقات في المدينة. يردمون الحفر وينصبون لوحات مرورية إرشادية وتحذيرية لتنبيه السالكين ومنع وقوع الحوادث، ويسعون إلى جمع الأموال والجهود الداعمة لصيانة الأجزاء المتضررة من الطرقات كـ"حلول إسعافية أولية" حسب ما يقولون.
وجاءت مبادرتهم نظراً إلى تفاقم الوضع والمعاناة الناتجة عن تضرر الطرقات، والتي باتت تسبب صعوبةً وخطورةً في آنٍ واحد.
يذكر العطاس لرصيف22 أن الهدف من المبادرة هو تقليل الأضرار الناجمة عن تهالك الطرق، ويضيف: "نفّذنا أكثر من 31 حملة صيانة ونفكر في تنفيذ المزيد، ويأتينا الكثير من المقترحات والمناشدات من المواطنين بضرورة صيانة أماكن معيّنة جديدة وبدورنا نلبّي النداء، حتى صار البعض يحذون حذونا من تلقاء أنفسهم، ويردمون ما يستطيعون ردمه من حفر قريبة منهم، وهو أمر نتمنى أن يشيع في كل مكان".
نماذج المبادرات الشبابية التطوعية هذه تكشف عن رغبة اليمنيين في إيجاد الحلول بأنفسهم بدلاً من انتظارها، ويقابلها ارتياح شعبي واسع، ورغبة جماعية في دعمها.
يؤكد ذلك مدير عام مكتب وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في ساحل حضرموت أحمد باضروس لرصيف22 أن "هذه المبادرات لها أثر كبير وملحوظ في المجتمع، ومن موقعنا كمكتب شؤون اجتماعية وعمل، نلحظ ذلك بشكل واضح. فقد تصدّر هؤلاء الشباب وبشكلٍ طوعيٍ الموقف في البلاد، وراحوا يعملون من أجل مجتمعاتهم، لا يدفعهم شيء سوى الوطن وأهلهم فيه، فكانوا خير مَن عمل وأبهروا كثيراً بأعمالهم وتدخلاتهم الجبّارة هذه".