منذ مؤتمر القاهرة للحوار الجنوبي (اليمني) عام 2011 حتى المؤتمر الجنوبي أخيرا في شهر مايو/ أيار الحالي، وقعت تغييرات جوهرية كبيرة في الجنوب اليمني تستحق التأمل والفهم، ففي 2011، كان الجنوب يشهد حراكا سياسيا وشعبيا سلميا استمرّ سنوات قبلها من أجل المطالبة لاستعادة دولته التي انتهت بالوحدة عام 1990، وكان مشابها لعديد من الحركات الشعبية التي تتميز بالشعبية والسيولة السياسية أيضاً، فلا قيادات أو تنظيمات سياسية واضحة أو مؤثّرة.
انعقد مؤتمر القاهرة خارج اليمن، وكان كثيرون من قيادات الجنوب في المنفى ضمن مرحلة تحوّل كبيرة داخل البلاد التي كانت تشهد حراكا شعبيا واسعا ضد الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح، بينما كان الجنوب أعزل، ووصلت كل محاولات إصلاح مسار الوحدة إلى طريق مسدود مع النظام السابق. بينما انعقد قبل أيام مؤتمر للحوار الجنوبي - الجنوبي في عدن، بلا سيطرة دولة مركزية لا في الشمال ولا في الجنوب، وبوجود قوى جنوبية مسلّحة متعدّدة وتكوينات سياسية مختلفة، أبرزها المجلس الانتقالي الجنوبي مع وجود مكوّنات سياسية لبعض مناطق الجنوب مثل مؤتمر حضرموت الجامع.
لكل مرحلة تحدّياتها ومخاطرها، ففي عام 2011 كان أبرز إشكالات الجنوب هو التعامل الأمني القمعي للدولة ضد الحراك الجنوبي، بكل انعكاساته السياسية والاجتماعية الخطيرة على الجنوبيين، بينما حاليا في عام 2023 تعقدت الأمور وصارت لا تقلّ خطورة، فالجنوب اليوم بلا قوى شمالية مهيمنة عليه، لكن مخاطر تعدّد القوى المسلحة، وكذا تعدّد ولاءاتها الإقليمية يهدد بأن يتحوّل الجنوب إلى ساحة صراع إقليمية، وينقسم تبعاً لانقسام القوى الإقليمية المتدخلة. وهنا، تكون الدعوة إلى الحوار ضرورية لتقريب وجهات نظر القوى الجنوبية السياسية والمسلحة والمتباينة أيضاً، إذا كان الهدف فعلاً هو النقاش بشفافية بشأن قضايا الخلاف، وليس الهدف صناعة الإجماع لإنتاج شرعية لمكوّن بذاته وقيادة سياسية بعينها.
لا إمكانية لمواجهة الواقع من دون التعامل مع الماضي، فالجنوب اليمني مثل الشمال عانى من دورات عنف بينية كثيرة، إضافة إلى دورات العنف بينه وبين الشمال، وهذا لا يمكن معالجته من دون إجراءات عدالةٍ انتقاليةٍ فعلية، وليس مجرّد دعواتٍ مطلقةٍ من دون خطواتٍ حقيقية. دعا الميثاق الوطني الصادر عن هذا المؤتمر إلى العدالة الانتقالية، لكن الاختبار الحقيقي يكمن في التطبيق وعدم تسويف هذا المطلب الذي لا غنى عنه لمنع تكرار دورات العنف في الجنوب، بسبب بقاء ضغائن الماضي الذي لم تُعالج جراحه. وتعدّ أيضاً إشكالية التعامل مع الشمال خطيرة، فقد تجاهل الميثاق ومعظم الخطب والنقاشات في أثناء المؤتمر وجود الحوثيين في الشمال، بشكلٍ يثير القلق بشأن مدى إدراك الموجودين، ولو كانوا ساعين إلى تأسيس دولة مستقلة، أبسط المفاهيم السياسية المتعلقة بالجغرافيا الثابتة والتي لا يمكن تغيير حقائقها.
من المستحيل الحديث عن انقسام قطعي ونهائي بين الشمال والجنوب
يعاني اليمنيون من تطرّف أفكارهم حول الوحدة أو الانفصال والتعامل العاطفي مع خياراتٍ سياسيةٍ لا يتحقق نجاحها إلا بمنطق السياسة والاقتصاد، وليس بحسن النيات وصدقها. ففي السابق، جرى تصوير الوحدة اليمنية كأنها من بداهة الأمور، وأن انقسام اليمن لم يكن سوى نتاج لتدخّل استعماري خارجي.
وقد شهد تاريخ اليمن الطويل مراحل انقسام ووحدة عديدة، بالتالي، لم يكن انقسام اليمن أمرا طارئا ولا استثنائيا، ولا نتاج عوامل خارجية، بل لديه جذور داخلية متعدّدة، أبرزها العامل الجغرافي، وتبعاً له تعدّد القوى الاجتماعية والسياسية اليمنية. والآن نواجه خطابا انفصاليا شديد العاطفية ايضاً، ويتميز بقطعية مشابهة لقطعية خطاب الوحدة، ولهذا كلفته وتداعياته، فإذا كانت كلفة الخطاب الوحدوي العاطفي الدخول في وحدةٍ غير مخطّط لها، كلنا نرى نتائجها الكارثية على أرض الواقع، فكلفة الخطاب الانفصالي العاطفي والتصعيدي لن تكون أقل خطورة، بما تُحدثه من حالة انفصال عن الواقع الجنوبي المعقد وتأسيس حالة عداءٍ غير مبرّرة تجاه الشماليين، مجتمعا وأفرادا، وليس سلطة وقيادات سياسية.
في البداية، عند الحديث عن الانفصال والوحدة، ربما من الضروري معرفة أن الوحدة ليست حتمية، ولم تشكّل معظم تاريخ اليمن، لكن اليمن لم يكن منقسما بشكل قطعي لشمال وجنوب كما يشاع الآن. فمثلاً، لطالما كانت الضالع جزءا من الشمال حتى بدايات القرن العشرين، ومن المفارقة أنها، ولأسباب سياسية عديدة، صارت المعقل الأبرز لمطالب الانفصال والدعوات إليه. وفي المقابل، لطالما كانت محافظة البيضاء وأجزاء واسعة من تعز جزءا من الجنوب، بينما بالتعريف المعاصر هما جزء مما يعرف باليمن الشمالي.
يؤسّس خطاب الجنوب العربي لقطيعة مع مرحلة النضال الوطني الجنوبي ضد الاستعمار البريطاني الذي كانت هويته اليمنية أحد تعبيراته الأساسية كانت الانقسامات السياسية اليمنية انعكاسا لموازين القوى الاجتماعية والسياسية وتعقيدات الجغرافيات وتأثيراتها على المجتمع وأنماط إنتاجه، فبالتالي، يكاد يكون من المستحيل الحديث عن انقسام قطعي ونهائي بين الشمال والجنوب، فمحافظة جنوبية كشبوه تبدو أقرب جغرافيا واجتماعيا لجوارها من محافظات شمالية مثل مأرب.
ويستند الحديث عن وحدة الجنوب إلى فترة قصيرة، هي عمر دولة الحزب الاشتراكي التي لا تتجاوز 23 عاماً. لذا على الجنوبيين التعامل بحذر مع حيثيات مطالبتهم بالانفصال، لأنه لم يعد هناك أي وجودٍ أو أثر متبق للدولة السابقة التي يدعون إلى استعادتها، وتأسيس دول جديدة لم يكن يوماً بالأمر الهين، ويحتاج إلى وعي واضح بالمخاطر المحيطة.
ربما من الضروري التذكير بكيفية تأسيس دولة الجنوب عام 1967، إثر استقلالها عن بريطانيا، فهي لم تكن نتيجة نضالٍ ضد البريطانيين لنيل الاستقلال، فالاستقلال كان أمرا محسوما، وكانت بريطانيا راحلة من الجنوب بأي حال، بل كان نضالا لتحديد مصير الجنوب بعد الاستقلال، فبريطانيا كانت تعمل على ترك الجنوب دويلات منقسمة ضمن المظلة التي اخترعتها باسم الجنوب العربي، لذا كانت الحركة النضالية الجنوبية صارمةً في تأكيدها على ضرورة وحدة الجنوب ضمن مفاهيم الوحدة اليمنية المتأثرة بوضوح بالإيديولوجيا القومية العربية الأوسع. أما الآن، فبعد تلاشي مفاهيم القومية والوحدة العربية وتصاعد خطاب الهوية المأزوم في المجال السياسي في كل أنحاء العالم، تصاعد الخطاب لاستعادة الجنوب العربي، بما قد يهدّد وحدة الجنوب ولا يضع لحضرموت والمهرة مكاناً في هذا الكيان.
على الجنوبيين التعامل بحذر مع حيثيات مطالبتهم بالانفصال، لأنه لم يعد أي وجودٍ أو أثر للدولة التي يدعون إلى استعادتها
يؤسّس خطاب الجنوب العربي لقطيعة مع مرحلة النضال الوطني الجنوبي ضد الاستعمار البريطاني الذي كانت هويته اليمنية أحد تعبيراته الأساسية. لذا ليس من باب العجب أن من يتبنّون هذا الخطاب لا يتوانون لحظة عن وصف ما حدث بعد حرب عام 1994 بالاحتلال الشمالي، لكنهم يتحرّجون من إطلاق هذه الصفة على الاستعمار البريطاني. وإشكالية خطاب الجنوب العربي هنا لا تتوقف عند حد أنه ينسف أسس وجود الدولة التي يستند الجنوبيين إلى إرثها للمطالبة بالانفصال والحفاظ على وحدة الجنوب، بل تتعدّاه إلى مخاطر أكبر، وهو تبنّيه طرحا سياسيا لطالما اتسمت به السياسة العربية، وهو إيجاد عدو قريب دائم وتجاهل وجود عدو حقيقي بعيد. والعدو القريب الدائم هو الشمال، وبالطبع إيجاد عداوة مطلقة مع جوار جغرافي ملاصق، ناهيك عن التداخلات الاجتماعية والتاريخية، ليس له منطق في السياسة الرشيدة، كما أنه يبرّر هذا الانفتاح غير المفهوم للتدخلات الخارجية، فالخطاب السياسي السائد لنخبة الجنوب نحو دول الإقليم يفترض حسن النيات المطلق وكأنها جمعيات خيرية، بدون أدنى إدراك لخطورة تناقض المصالح الإقليمية وإمكانية استغلال إرث العداوات والانقسامات في الجنوب التي لم تبتعد كثيراً عن الذاكرة.
يؤسّس هذا الخطاب أيضاً لحالة مزايدة وعداء جنوبي - جنوبي، فهناك فصائل جنوبية شاركت في القتال إلى جانب حكومة صنعاء عام 1994، وشاركت شخصيات كثيرة جنوبية محترمة في الحكومات المتعاقبة بعد عام 1994، وعملت في مناصب رفيعة ضمن مؤسّسات الدولة، وتصوير ما حدث بعد عام 1994 احتلالا بالتأكيد يجعل من هؤلاء عملاء أو خونة، وهم فصائل ليست قليلة، ولا شخصيات يمكن وصفها جميعا بالانتهازية ناهيك عن الخيانة.
الوحدة أو الانفصال خياران سياسيان، وكأي خيار سياسي لا ينجح إلا بتوفر عوامل سياسية تتعلق بالمنطق والعقل، وليس الرغبة والتمنّي. من حقّ الجنوبيين، كل الجنوبيين، بمن فيهم المطالبون باستمرار الوحدة أو الداعون للانفصال، الحديث عن خياراتهم المختلفة، والسعي نحوها، ولكن ضمن تنافس يحترم التباين، وهذا لا يتأتى من دون إعادة صياغة سردية إشكالية الجنوب وعلاقته بالشمال والوعي بمصالح الجنوب والمخاطر المحيطة به داخلياً وخارجيا، من دون بيع أوهام بسبب التصوّرات القطعية التي تتجاهل تعقيدات واقع اليمن.