"غالبية الناس الذين أصادفهم خلال ذهابي إلى العمل في شبوة وعودتي منها، ينادونني دحباشي"، يحكي ماجد عبد الجبار عن العنصرية التي يعامَل بها قسمٌ من أبناء شمال اليمن في جنوب البلاد.
ماجد (40 سنة)، من محافظة إب، انتقل في العام 2000 للعمل في مجال البناء في مدينة عتق، مركز محافظة شبوة. في بداية الأمر، كان يشعر بالضيق والاستياء حين يناديه أحدهم بـ"الدحباشي"، لكنه اعتاد على ذلك في ما بعد، فقد اكتشف أن البعض يقولها من دون رغبة في الإساءة، "لكن هنالك مَن يقولها بنبرة كره قاصداً بها الإهانة والتحقير"، يضيف مستدركاً في حديثه لرصيف22.
و"دحباش" اسم مسلسل يمني بُثَّ على شاشة تلفزيون الجمهورية اليمنية بعد إعلان الوحدة بين الجمهوريتين العربية اليمنية واليمن الديمقراطية الشعبية، في مطلع تسعينيات القرن الماضي.
و"دحباش" هو الشخصية الرئيسية في المسلسل، جسّدها الفنان الكوميدي آدم سيف، وينتمي، وفقاً للمسلسل، إلى محافظة تعز في الجزء الشمالي من اليمن، ولا يهتم بنظافته الشخصية، وهو رثّ الثياب، ومحتال يلجأ إلى خداع الآخرين في سبيل تحقيق المكاسب.
•الوحدة هي السبب
مع مرور الأيام، صار الكثير من الجنوبيين يطلقون لقب "دحباشي" على الشماليين المقيمين في مدنهم، كنوع من الرفض للوحدة التي تمت بين الشطرين قبل أكثر من ثلاثة عقود، إذ يعتقدون بأنها ظلمتهم، لما نجم عنها من مشاكل اقتصادية لاحقاً.
ويتجه عدد كبير من أبناء شمال اليمن إلى محافظاته الجنوبية، للعمل، "بسبب الكثافة السكانية العالية لمناطق اليمن الشمالية، وعدم توافر فرص العمل هناك"، يقول الخبير الاقتصادي رشيد الحداد لرصيف22، مضيفاً أن "معظمهم يمتهنون أعمالاً تتطلب جهداً عضلياً شاقاً".
يعتبر الحداد أن الحرب الأهلية التي اندلعت صيف العام 1994، بعد إعلان الجنوب اليمني الانفصال، هي ما أدّى إلى زيادة الشرخ بين أبناء الشمال وأبناء الجنوب. ويوضح: "بعد انتصار الشمال برئاسة الراحل علي عبد الله صالح، تم تسريح الضباط والعمال الجنوبيين، الأمر الذي أدى إلى نقمة الجنوبيين على الشماليين".
ويشير إلى سبب آخر لتلك النقمة التي تضخمت بعد سيطرة الحوثيين على الجزء الشمالي من اليمن، ويتمثل في فارق سعر صرف الدولار بين الجزأين، إذ يعادل الدولار في الجنوب 1،200 ريال، في حين أنه في الشمال يعادل فقط 550 ريالاً.
ويتابع: "هذه القضية مؤلمة جداً، فالفوارق في سعر الصرف تلتهم أجور العاملين من أبناء المحافظات الشمالية، والأجور ذاتها شبه متساوية، لكن فارق السعر في العملة والفارق الكبير في أسعار المواد الغذائية والكمالية كبير بين صنعاء التي لا يزال معدل الأسعار فيها ثابتاً نسبياً، وعدن التي أثقلت الأسعار كاهل المواطنين فيها، خاصةً في ظل استمرار عدم استقرار سعر صرف الدولار".
القسم الشمالي لليمن يتألف من محافظات صنعاء وتعز وحجة والمحويت والحديدة وذمار وإب والبيضاء ومأرب والجوف وصعدة وعمران وريمة، أما المحافظات الجنوبية فهي لحج والضالع وعدن وأبين وشبوة وحضرموت والمهرة وسقطرى.
وعند التوقيع على اتفاقية الوحدة اليمنية في أيار/ مايو 1990، كان عدد سكان الشمال اليمني، أو "الجمهورية العربية اليمنية" كما كان يُسمّى، نحو سبعة ملايين ونصف مليون نسمة، موزعين على مساحة 195 ألف كيلومتر مربع. في المقابل، كان عدد سكان المحافظات اليمنية الجنوبية، أو "جمهورية اليمن الديمقراطية" كما كان يُسمّى، نحو مليونين ونصف مليون نسمة، موزعين على مساحة تُقدَّر بـ350 ألف كيلومتر مربع.
المساحة الكبيرة بعدد سكان قليل نسبياً في الجنوب، مقارنةً بالشمال قليل المساحة وذي الطبيعة الجبلية ونسبة سكانية تصل إلى ثلاثة أضعاف، دفعت الكثير من الشماليين من أصحاب رؤوس الأموال إلى افتتاح مشاريع خاصة في الجنوب، وانخرطوا في أعمال البناء والمقاولات، ورافقهم الآلاف من العمال، فضلاً عن موظفين دخلوا بصورة خاصة في السلكَين التربوي والعسكري وغيرهما من القطاعات الحكومية. وعلى هؤلاء كلهم تُطلَق في الجنوب تسمية "دحباشي".
توفيق سعيد (30 سنة)، من محافظة تعز، يحكي لرصيف22 عن تعرّضه لمواقف عدّة خلال عمله نجّاراً في محافظة حضرموت لما يزيد عن عشر سنوات. يقول إن "العنصرية ازدادت" بنحوٍ كبير منذ سيطرة الحوثيين على صنعاء والمناطق الأخرى في العام 2014، والأعوام التي تلته.
والأمر لا يتوقف عند إطلاق نعت أو تسمية "دحباشي" على الشماليين، بل يتعداه في بعض الأحيان كما يقول إلى المضايقات والضرب، "بحجة أن الدحابشة نهبوا ثرواتهم وأخذوا وظائفهم".
في نيسان/ أبريل من العام 2022، عاد توفيق إلى تعز، ولا ينوي الذهاب مجدداً إلى حضرموت، لا سيما بعد تعرّض صديقٍ له للضرب بأعقاب البنادق من قبل قوات النخبة الحضرمية.
يروي كيف أنه وصديقه كانا يمران بمدينة المكلا، عاصمة حضرموت، عندما نادى عناصر من قوات الجيش صديقه بالدحباشي، فرد عليهم الأخير بغضب، فعدّوا الأمر تجاوزاً منه عليهم، وانهالوا عليه بالضرب.
يفكر توفيق قليلاً ثم يتساءل: "لماذا فعلوا ذلك؟ لماذا يتعاملون معنا بدونية، كنّا نبحث عن لقمة العيش هناك لا أكثر وهم يعرفون هذا جيداً".
وشهدت محافظات اليمن الجنوبية، وعدن على وجه الخصوص، بين عاميْ 2016 و2018، أكبر حملات ترحيل قسرية شملت آلافاً من المواطنين الشماليين المتواجدين هناك للعمل.
وتولّت أمر هذه الحملات قوات تابعة للمجلس الانتقالي المطالِب بالانفصال، والذي تشكَّل في أيار/ مايو 2017، برئاسة عيدروس الزبيدي، واستهدفت باعةً جوالين وعمال مطاعم وبناء، وقد جمعوا في مناطق محددة، ومن ثم كُدِّسوا في شاحنات نقلتهم إلى محافظة تعز الشمالية حيث الحدود الشطرية لليمن.
محمد ر. (45 سنة)، من محافظة ذمار، لديه "بسطة" يبيع عليها ملابس داخلية، على رصيف الشارع في حيّ كريتر في مدينة عدن. يقول لرصيف22 إن لفظة دحباشي تتردد على مسامعه باستمرار وإن أغلب المواطنين المنتمين إلى المحافظات اليمنية الجنوبية يعاملون الشماليين بعنصرية.
ويلفت إلى أن "الحرب مع الحوثيين، وسيطرة المجلس الانتقالي المطالب بالانفصال على معظم المحافظات الجنوبية زادتا من العنصرية، وأصبحنا نحن الذين يسمّوننا الدحابشة، عرضةً للخطر طوال الوقت".
يعبّر محمد عن مخاوفه من أن ترحّله قوات الانتقالي، و"بلا أي سبب غير أني مواطن شمالي".
محمد علي (46 سنة/ اسم مستعار)، يتحدر من محافظة ريمة، ويشغل منصباً حكومياً (نتحفظ عن ذكر لقبه الوظيفي لأسباب أمنية) في محافظة شبوة، يشير إلى أن مواطني المناطق الشمالية كانوا يُعامَلون باحترام في محافظة شبوة، خلال عهد المحافظ السابق الذي ينتمي إلى حزب الإصلاح محمد صالح بن عديو.
ويقول لرصيف22: "لكن بعد عزله في منتصف آب/ أغسطس 2022، من قبل الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي، بضغوط إماراتية، وتعيين الشيخ عوض الوزير محافظاً بدلاً منه، سيطر المجلس الانتقالي على المحافظة وصارت العنصرية المقيتة تفتك بنا نحن الشماليين، وأضحى مَن يسمّونهم الدحابشة عرضةً للشتم والضرب وحتى القتل أحياناً".
وساق على ذلك مثالاً ما حدث لمواطن يتحدّر من منطقة العدين في محافظة إب، يُدعى زكريا الجبرتي، كان يملك مطعماً اسمه الأمين في شبوة، وقُتل في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022.
وقال عن ذلك: "قتله أحد أفراد المجلس الانتقالي وجرح آخر. زكريا، طلب من الجندي دفع فاتورة الطعام الذي تناوله حسب شهود عيان، فقتله وأعلن أمن شبوة القبض على الجاني بعد ساعات من ارتكابه جريمته، وقضت محكمة عتق الابتدائية في نهاية شباط/ فبراير من العام 2023 بإعدامه".
وفي مطلع آذار/ مارس من العام الجاري، 2023، اقتحم مسلحون ملثمون يرتدون الزي العسكري متجراً للمواد الغذائية بالجملة في حي الشيخ عثمان في عدن، وأطلقوا على مالكه أحمد حمود الصرمي، وابلاً من الرصاص وأردوه قتيلاً في الحال.
الحادث أثار غضباً واسعاً تمثّل في وقفات شعبية عدة نُظّمت في محافظتَي تعز وعدن، وتفاعلاً كبيراً في وسائل التواصل الاجتماعي، وأغلقت بعض المتاجر أبوابها استنكاراً.
وانتشر فيديو الاغتيال الذي سجّلته كاميرا المراقبة بنحو واسع على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وأعلن أمن محافظة عدن عن القبض على ثلاثة متهمين والتحقيقات مستمرة معهم وفقاً لمصادر قضائية، ولا توجد تأكيدات بأن الحادث ذو طبيعة عنصرية، على الرغم من الحديث الدائر عن ذلك في الشارع.
أحمد محمد (50 سنة/ اسم مستعار)، من تعز، ويعمل معلماً في محافظة شبوة، يقول لرصيف22: "إذا كنت صاحب حق وأنت شمالي، وتشاجرت مع أي فرد ينتمي إلى المحافظات الجنوبية، فبمجرد اتصال منه تأتي عربة عسكرية لأخذك وإيداعك السجن، ولولا الأعراف القبلية التي ما زالت تتعامل بها قبائل محافظة شبوة، لما استطاع أحد من أبناء الشمال أن يعيش ويزاول عمله ويكسب لقمة عيشه في الجنوب".
•"القناديل" و"الزنابيل"
نظرة قسم من الجنوبيين اليمنيين إلى الشماليين هي جزء من صورة كلية لتقسيمات عنصرية وطبقية يمكن تلمسهما في مختلف أرجاء البلاد، وساهمت الحرب التي مزّقت النسيج الاجتماعي في تفشي هذه الظاهرة أكثر.
يقدّم الحوثيون أنفسهم على أنهم ينتسبون إلى قبيلة النبي محمد، أي بني هاشم، وأهل بيته، وأنهم من ذرية سبطَيه الحسن والحسين ابنَي فاطمة وعلي بن أبي طالب. والحوثيُّ من بني هاشم يُعرف بين الناس بـ"القنديل"، ويُدعى كذلك بـ"السيد"، أما حليفهم غير الهاشمي، المتحدر من قبائل يمنية، فيُعرف بـ"الزنبيل".
وهذا التمييز تترتب عليه المكانة الاجتماعية، وهي في العادة تميل لصالح القنديل، ليس في حياة الفرد فقط بل حتى في مماته. وهذا ما يشير إليه علي مرشد (65 سنة/ اسم مستعار)، ويعمل فلّاحاً في منطقة ريفية في محافظة إب، وسط اليمن.
يروي لرصيف22 أن ابناً له التحق للقتال بصفوف الحوثيين، وبعد مقتله بأيام قليلة جلبوا جثمانه إلى القرية في جنازة غير لائقة، ويقول: "عقب استشهاد ابني بأيام، جاؤوا بجثمانه إلى القرية بجنازة لا تليق به، وهو الذي ضحّى بحياته لأجلهم، فقط لأنه زنبيل. حتى أنه دُفن في مقابر الفقراء، ولو كان من القناديل لسارت خلف جنازته مئات السيارات، ودُفن في قبر سبع نجوم منحوت من الرخام والزجاج".
أما علي حمود (30 سنة/ اسم مستعار)، من محافظة إب، ويعمل سائقاً لسيارة أجرة، فيقول لرصيف22 إن شرطة المرور تطبّق القوانين بحذافيرها على المخالفات التي يرتكبها السائقون المحسوبون على الزنابيل، "أما إذا كان السائق من قنديل، فيؤدّون له التحية أياً كانت مخالفته".
ويلفت علي إلى أن ظاهرة سادت المجتمع في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون خلال سنوات الحرب الثماني المنصرمة، وتتمثل في سؤال يوجهه الناس هنالك إلى بعضهم في بداية التعارف: "هل أنت سيّد أم قبلي؟"، والسيد يكون من قنديل، أي يتحدر من بني هاشم، أما القبلي فيكون من عامة الناس.
هذا ليس كل شيء، فالسيّد أو القنديل يحصل بسهولة على الوظيفة العامة والمناصب البارزة، في حين أن الزنبيل أو القبلي يُحرم منها أو سيحتاج إلى وساطة أو دعم من القنديل لكي يحصل على وظيفة عامة وهي لن تكون في الغالب مهمةً.
وفي مقابل هذه القسمة الناشئة وتبعاتها، ظهرت في العام 2017 حركة إعلامية شبابية أُطلقت عليها تسمية "الأقيال"، وساهم فيها شباب يمنيون كانوا قد فرّوا من المناطق التي سيطر عليها الحوثيون سنة 2014. وتتلخص دعوتهم في إعلاء الهوية اليمنية وكثيراً ما يقابلون العنصرية بعنصرية مضادة.
يقول الكاتب والناشط السياسي اليمني حافظ مطير لرصيف22 إن الأقيال ظهروا "حين وجدوا أن هنالك استهدافاً للهوية الوطنية في اليمن، ومحاولات لسحق الإنسان فيه مع حريته وكرامته، وجعل اليمني ابن الأرض والحضارة والتاريخ عبداً لسلالة غازية، بدعوى الحق الإلهي والتميّز السلالي والعرقي، وباعتبار أن الهاشمية سلالة مقدسة يحق لها قتل اليمنيين وإخضاعهم واستعبادهم وحكمهم وإبادتهم".
•تبعات العنصرية
يرى مدرّس التاريخ طه غانم، من محافظة الضالع، أن العنصرية والتمييز في اليمن خطيران جداً ولهما تبعات مستقبلية، وقد يفضيان إلى مجازر كتلك التي حصلت في رواندا بين الهوتو والتوتسي خلال العقد الأخير من القرن المنصرم.
ويقول لرصيف22: "في شمال اليمن مثلاً، هناك أقليات من تلك العائلات التي تنتسب إلى بني هاشم، أو مَن يسمّون أنفسهم النطفة المقدّسة، وينتشرون في مختلف المحافظات اليمنية، وقد استحوذوا على مناصب كبيرة في حكومة الحوثيين، وهذا قد يولّد الانتقامات في حال انقلبت الأمور عليهم".
ويطرح مثالاً على ذلك ما حصل لآل الرميمة والجنيد، القناديل، في جبل صبر في محافظة تعز جنوب اليمن، والأشراف من بيت الأمير في محافظة مأرب، ويشرح: "بعد استعادة القوات الحكومية سيطرتها على مناطق المصراخ ومشرعة وحدنان في جبل صبر المطل على مدينة تعز، بعد معارك عنيفة خاضتها مع الحوثيين في نهاية العام 2015 وبداية العام 2016، جرى التنكيل بهذه العائلات التي تُكنّى بالقناديل وحُرقت منازلها، بل وصل الأمر، وتحديداً مع آل الرميمة، إلى سحلهم وقتلهم وقذفهم من على أسطح منازلهم بتهمة مساعدة الحوثيين في دخول محافظة تعز، واضطر الناجون منهم إلى الفرار إلى محافظات إب وذمار وصنعاء، ولا يمكن لأحد منهم العودة إلى منزله وقريته لغاية الآن".
سادة و"عبيد"
يعتبر أستاذ علم الاجتماع في جامعة الحديدة نبيل الشربجي أن التمييز موجود ومستقر في الحياة الاجتماعية اليمنية، سواء في الشمال أو الجنوب، وأن "مختلف الشرائح تمارس سلوكيات لتكريس واقع السيد والعبد، بهدف الحصول على المغانم والمكانة السياسية والاقتصادية والاجتماعية".
ويلفت إلى أن بعض تلك السلوكيات سياسية بحتة، وحديثة، نتجت عن شعور جماعة في منطقة معيّنة بأنها ظُلمت من قبل جماعة أخرى استحوذت على مكانتها، ويضرب على ذلك مثالاً "مفردة دحباشي التي يصف بها الجنوبيون الشماليين العاملين في مناطقهم، وكذلك المهمشين من أصحاب البشرة السمراء المنبوذين من قبل الجميع، ويعيشون في تجمعات معزولة خارج المدن منذ قرون".
ويحذّر من آثار اجتماعية يصفها بالخطيرة يمكن أن يولّدها التمايز الذي يؤدي حسب ما يقول لرصيف22 إلى تفكك المجتمع وجعل جماعة تفرض ثقافتها وسياستها على الجماعات الأخرى وتمنعها من التعبير عن ذاتها.