ابتداءً من عام 2020، حولت العديد من العوامل المترابطة الديناميكيات الجيوسياسية في الحرب في اليمن وما حولها بشكلٍ مؤقتٍ نحو بيئة أكثر ملاءمة لجهود صنع السلام. وتم تعزيز جهود الأمم المتحدة لإعادة إطلاق عملية السلام من خلال تعزيز عملية تحول الولايات المتحدة في سياستها من دعم أحد أطراف النزاع إلى دور وسيط السلام، وأظهرت الجهات الفاعلة الإقليمية بعض الإشارات الدالة على أنها أكثر انفتاحًا على التسوية، كما تم تعيين المبعوث الخاص للأمم المتحدة، هانز جروندبرج، الذي حاول العمل مع مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة وإنشاء أو إحياء الآليات التي تتيح قدرًا أكبر من التفاعل والمشاركة بين أطراف النزاع. وقد خلق ذلك فرصة سانحة للتوصُّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في أبريل 2022، الذي جُدِّد لاحقًا مرتين.
ومع ذلك، انتهى وقف إطلاق النار الذي استمر ستة أشهر في أكتوبر 2022، لتصبح هذه أحدث انتكاسة لجهود إنهاء الحرب. وفي أعقاب تصعيد النزاع في عام 2015، كافحت الجهود الرسمية التي يبذلها المجتمع الدولي لتعزيز السلام من أجل تحقيق نتائج، ثم توقفت بعد ذلك؛ أي بعد التوصل إلى اتفاقات لم تنفذ إلا بشق الأنفس . واتسمت العملية الرسمية ذات المستوى الرفيع منذ عام 2015 بالتركيز المفرط على عملية التسوية بين طرفين، وهو أمر إشكالي على وجه الخصوص؛ وذلك أن الطرفين المعنيين قد أثبتا تعنتهما، مع أنهما، وإن ادعيا ذلك، لا يملكان احتكار القوة المهيمنة أو السيطرة الشاملة على المناطق أو الشرعية السياسية. وقد تعرضت الآليات الاستشارية لهذه العملية الرسمية لانتقاداتٍ لكونها سطحية؛ وفي الوقت نفسه ظلت مبادرات بناء السلام غير الرسمية تبذل جهدها في سعيها للتأثير في المحادثات رفيعة المستوى.1
إن المشكلات التي تواجه جهود صنع السلام وبناء السلام في اليمن تشبه تلك الموجودة في دول أخرى عديدة: وذلك من حيث أن تلك الجهود تظل حبيسة في الأشكال التقليدية، ومن هنا غالبا ما تتعثَّر المفاوضات، وغالبًا ما تكون محاولات توسيع شمولية المفاوضات مجرد محاولات ضحلة وشكلية. ولم تدرك المقترحات والمناهج المطروحة حتى الآن بخصوص إحداث سلام أكثر فعالية وشمولًا أن السلام عملية تخضع للتفاوض و«إعادة التفاوض» بصورة مستمرة بشأن العقد الاجتماعي والسياسي، ودائمًا ما تكون مصحوبة بالفرص وبالانتكاسات وبالمحفزات وبالاحتكاكات والمقاومة.2 والجهود المبذولة للسلام في اليمن هي عالقة، على نفس المنوال، في شباك المناهج التقليدية الخاصة بمقاربة السلام والصراع؛ وهي، ولا ريب، تحتاج إلى أن يعاد النظر فيها بصورة جوهرية. ومن هنا، فإن التحديات التي تواجه تمديد الهدنة في اليمن توفر فرصة للتوقف من أجل إعادة التفكير ولإعادة رسم الخريطة التصورية بخصوص نهج صنع السلام بما يتجاوز النموذج الخطي القائم الذي لا تعتوره تعرجات أو التواءات. وهذا التقرير الذي بين يدي القارئ، يحاول أن يقدم مساهمة موجزة في تقييم بعض الجوانب من جهود صنع السلام أو بناء السلام الأخيرة في اليمن؛ ومن تلك الجوانب بعض أوجه القصور التي تعتور جهود إدماج الأطراف المختلفة، وكيفية الاستفادة من أدوار المرأة، وكيف يمكن جعل المبادرات المحلية أكثر إنتاجية، وفي الأخير يتقدم هذا التقرير باقتراح بعض الطرق التي من شأنها المساعدة في تنشيط وتعزيز وتوسيع عملية السلام اليمنية سعيًا نحو الوصول إلى تسوية تفاوضية مستدامة وشاملة.
•يمكن تحقيق الإدماج الهادف
يكشف تحليل جهود صنع السلام وبناء السلام منذ اختتام مؤتمر الحوار الوطني اليمني في عام 2014 عن سلسلة من العوائق الهيكلية التي تحول دون مشاركة المجتمع المدني والفئات المهمشة والنساء في مجال كل من المسار الثاني والمسار الأول.3 ويشعر الفاعلون في المجتمع المدني أن الدبلوماسيين والمانحين الأجانب غير مستعدين لاستخدام رأس المال السياسي مع أطراف النزاع لإفساح المجال للمجتمع المدني في عملية المفاوضات رفيعة المستوى، كما يخشون أيضًا أن يؤدي الظهور بشكل علني في الصورة إلى أعمالٍ انتقامية من جانب أطراف النزاع.4
يوضح مؤتمر الحوار الوطني اليمني أن الإدماج الهادف للجهات الفاعلة المهمَّشة منذ عقود من أجل تشكيل مجتمع (أكثر) استيعابية لكل الفئات هو مشروع طويل الأجل، وغالبًا ما يواجه انتكاساتٍ على المدى القصير. وهذا يؤكد الحاجة إلى التركيز ليس فقط على العملية ولكن أيضًا على الظروف السياسية (أي السلطة) من أجل تحقيق مشاركتهم المؤثرة.5 وتؤكد الدروس المستفادة من مؤتمر الحوار الوطني اليمني أيضًا أنه حتى آلية التفاوض المحققة للشمولية -من حيث الاختيار واتخاذ القرار- لا بد لها أن تخوض كفاحًا من أجل تحقيق نتائج تتسم بصفة الاستيعابية لمصالح كل الفئات؛ هذا إذا لم تمارس الجهات الفاعلة المدرجة ما تملكه من تأثير، و/أو إذا كانت عملية الانتقال السياسي الأوسع نطاقًا -التي هي جزء لا يتجزَّأ منها، والتي لا يمكن أن تكون سوى جزءٍ واحدٍ منها فقط- غير شمولية ولا تعالج العوامل السياقية السلبية الرئيسية. وتشمل هذه العوامل الافتقار إلى التعاون والالتزام الكاملين من جانب النخب السياسية اليمنية الرئيسية، والمصالح السياسية للفاعلين الإقليميين المؤثرين من وراء الحدود، وتناقص الدعم الشعبي بمرور الوقت. علاوة على ذلك، فإن الأمر اقتصر على التركيز على مؤتمر حوار وطني شامل بدرجة كبيرة، دون أن يكون هنالك اهتمامٌ بالطبيعة المختلة والنخبوية للحكومة الحالية.6
•محدودية مشاركة المرأة في صنع السلام وبناء السلام
منذ اختتام مؤتمر الحوار الوطني في اليمن، تعرَّض مجال صنع السلام في المسار الأول لانتقاداتٍ لاستبعاد وتجاهل مدخلات المرأة في ديناميكيات الصراع، وطبيعة أي تسوية سياسية، والتجارب والحقوق والاحتياجات المحددة للنساء والفتيات.7 ونادرًا ما ضمَّت الوفود إلى المفاوضات الرسمية نساء، كما كان جميع المبعوثين الخاصين الأربعة للأمم المتحدة المعينين في اليمن حتى الآن من الرجال. وعلى مستوى المحادثات الرسمية، قام مكتب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن بالتنسيق مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة وتوافق (شبكة تابعة للمسار الثاني) من أجل تشكيل مبادرة المسار 1.5؛ أي المجموعة الاستشارية الفنية، وهي هيئة من النساء اليمنيات لم تحظ من مكتب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلا بمشاورتها حول المفاوضات خلال مناسبات نادرة. ومن هنا، فقد شكك متابعون في مدى تمثيل هذه الآليات وشمولها لنطاقٍ أوسع من النساء اليمنيات (ووجهات نظرهن).
كانت النساء أكثر حضورًا في جوانب من أنشطة المسار الثاني، غير أنهم ما زلن يواجهن عقباتٍ أمام مشاركتهن وتأثيرهن. وعلى المستوى المحلي، وجدت النساء والجهات الفاعلة في المجتمع المدني قدرًا أكبر من الحرية والفرص للعمل من أجل السلام. على سبيل المثال، توسَّطت النساء في النزاعات المحلية، ولعبن أدوارًا فعَّالة في تأمين وصول المساعدات الإنسانية، وفي الحملات من أجل إطلاق سراح الأشخاص المفقودين، كما شكَّلن شبكات وأطلقن حملاتٍ لتحقيق كل من حقوق المرأة والسلام،8 ومع ذلك، لم يُعتَرف بهذا العمل على مستويات أعلى، ولم يتم توسيع نطاقه إلى مشاركة ذات مغزى في مجال المسار الأول.
وفي الوقت الراهن ثمة عددٌ كبيرٌ من العوائق التي تحول دون إشراك النساء من بناة السلام في جهود صنع السلام وبناء السلام في اليمن، ويدخل في هذا الباب الصعوبات الاقتصادية، والتهديدات والاعتداءات الجسدية والمتعلقة بالسمعة، وتطال هذه الأمور بصورة خاصة النساء المشاركات في المجالات السياسية، أضف إلى ذلك ما تواجهه النساء من مقاومة واضحة من قِبَل أطراف النزاع اليمني والوسطاء الدوليين للاستماع إلى إليهن والاستفادة من مهاراتهن وخبراتهن ومعرفتهن وشبكات اتصالاتهن، وعدم الاعتراف بجهود بناء السلام التي تضطلع بها المرأة اليمنية، والتمويل غير الكافي ونقص الموارد، ونقص الوصول إلى المعلومات، والقيود الصارمة على مبادرات بناء السلام في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، والأعراف الاجتماعية التمييزية، والتنافس بين النساء المشاركات في بناء السلام والمبادرات النسوية، وطبيعة عملية السلام التي تواجهها العوائق بشكلٍ عامٍّ.9 وفي الوقت نفسه، يمكن أيضًا تحديد بعض الفرص، كإرث ثورة 2011 ومؤتمر الحوار الوطني بالإضافة إلى وجود منظمات وشبكات نسوية قوية في أنحاء مختلفة من البلاد وفي الشتات.
•الحاجة إلى إعادة تصور الانتقال من المسار الثاني إلى المسار الأول
ضمن النموذج متعدد المسارات لبناء السلام، يُعَد التأثير في و/أو دعم مفاوضات المسار الأول أحد الأهداف الرئيسية (والافتراضات الأساسية) للمسار الثاني لبناء السلام. وقد تم تطوير مفهوم «الانتقال» لوضع تصور للطرق التي يمكن من خلالها القيام بذلك.10 وهناك سمتان مهمتان للانتقال من المسار الثاني إلى المسار الأول في اليمن: أولاهما، أنه كثيرًا ما يكون طويل الأجل وليس عملًا منفردًا، والسمة الأخرى هي أنه عمل يمكن أن يكون رسميًّا أو غير رسمي (وإن كان في الغالب الأخير).
وقد حدد بحث مبادرة السلام الشامل11 سلسلة من العقبات والحواجز التي تحول دون الانتقال من المسار الثاني إلى المسار الأول في اليمن، وتتمثَّل العوائق الأساسية في الطبيعة المطولة للنزاع وتعطُّل عملية السلام الرسمية. كما تنبع العوائق التي تحول دون عملية الانتقال أيضًا من طبيعة هيكل المسار الثاني، وتصورات المشاركين حول الطبيعة السطحية لمبادرات المسار الثاني، علاوة على مشاكل التواصل. كما تزداد معوقات الانتقال بسبب أنماط التمويل المتقطع، وعدم كفاية التنسيق بين منظمي المسار الثاني لنقل الرسائل المشتركة. وهناك أمثلة على عمليات الانتقال الفعالة في اليمن، لكنها غالبًا ما تفتقر إلى التفاصيل، وهناك شكوكٌ حول تأثيرها. وبشكلٍ عامٍّ، يبدو أن هناك نقصًا في الوضوح والدقة حول هذا المفهوم، كما يشكِّل الخطر على سلامة المشاركين في المسار الثاني، ولا سيما النساء، عائقًا آخر أمام مشاركتهن. واقترح البحث المشار إليه آنفًا أن مفهوم الانتقال من المسار الثاني إلى المسار الأول يحتاج إلى إعادة النظر في ضوء عمليات السلام والانتقال السياسي الجارية، والتي هي معطلة ومعقدة في الغالب، وذلك من أجل جعل الانتقال أكثر فعالية.
•المسار الثالث مستوى مثمر لبناء السلام
بُذلت جهودٌ متنوعة أيضًا على مستوى المجتمع المحلي، تتضمن عددًا لا يحصى من المبادرات التي تقودها النساء. وهناك أدلة تشير إلى أن المسار الثالث يميل إلى أن يكون مساحة أكثر إنتاجية لبناء السلام في اليمن، ويشمل ذلك ما يتعلق بالمشاركة والمساهمة الفعالة للمرأة.12 في تعز على سبيل المثال، لعب أعضاء المجتمع المدني دورًا رئيسيًّا في التفاوض بشأن تسهيل حركة الأشخاص، على الرغم من تعثُّر ذلك بسبب عدم إحراز تقدم في المفاوضات. كما شاركت النساء اليمنيات في دعم وتسهيل الإفراج عن المحتجزين وتبادلهم، بمن فيهم الأطفال المحتجزون، وفي جهود الوساطة فيما يتعلق بالقضايا «المحلية»، وتأمين الوصول إلى الخدمات الأساسية لمجتمعاتهم، والتفاوض بشأن الممرات الإنسانية وإعادة فتح الطرق والمطارات، إلى جانب جهود المناصرة من خلال وسائل الإعلام الوطنية.
وقدمت المنظمات الدولية الدعم للعديد من هذه المبادرات، كما قام المجتمع المدني اليمني، ويشمل ذلك الشتات، بجمع الأموال. أما المبادرات الأخرى فهي مدفوعة محليًّا بشكلٍ حصري تقريبًا، ويدعمها قادة المجتمع المدني في البلاد، وجميعهم يظهرون البراعة والإبداع والتصميم الذي سعى به المجتمع المدني اليمني لتحقيق قدرٍ ضئيلٍ من السلام في مجتمعاتهم.
وتأسيسا على ذلك، فإنه يمكن تطوير مساحة لنهجٍ بديلٍ أكثر تقدمًا لصنع السلام في اليمن بشكلٍ تدريجي، والسعي للبناء على أسس جهود صنع السلام الحالية. وبناءً على النتائج الموضحة أعلاه، تقدم الفقرات التالية من هذا المقال سلسلة من الاقتراحات لمساعدة اليمنيين وداعميهم على تطوير أفكار وبدائل واقعية سعيًا نحو تغيير جوهري تكون له ثماره على أرض الواقع.
•الحاجة إلى إعادة تصور صنع السلام في اليمن من أجل المضي قدمًا في عملية السلام
إن إحدى المسائل المتعلقة بعملية صنع السلام في اليمن -كما هو الحال في أي مكان آخر- لا تقتصر فحسب على ما يمكن أن يحققه أي مسار من المسارات بصورة أفضل، أو كيف يمكن للمسارات الأخرى أن تدعم المسار الأول، بل يمكن أن تنظر في ما إذا كان يجب تحديد عملية صنع السلام بشكلٍ حصري -أو حتى في المقام الأول- في سياق العمليات الرسمية، كما يجب أن تهدف إلى تحديد المناهج أو الأفكار أو المجالات للتفكير في الطبيعة المتعثرة لعملية السلام وتطوير حلول إبداعية لتحريكها. ويمكن أن يتخذ الطريق إلى السلام أشكالًا متعددة ومختلفة، تشمل عددًا لا يحصى من الجهات الفاعلة والمنظمات، وتحدث في مجموعة متنوعة من الفضاءات التي تتجاوز مفاوضات السلام الرسمية وفضاءات تنفيذ الاتفاقيات للتفاعل مع النخب الرسمية وغير الرسمية الأخرى وفضاءات المجتمع المدني. يمكن أن يوفر التفاعل بين هذه الجهات الفاعلة والفضاءات وسيلة لإقالة عملية السلام المتوقفة من عثرتها. وهذا بدوره يعني أن فكرة «طاولة المفاوضات» يجب أن تتصف بالتنوع لمراعاة هذا العدد الكبير من الترتيبات الرسمية وغير الرسمية التي تعمل كمساحاتٍ للتفاوض على مستويات متعددة.13
وبالتالي فإنه يمكن بذلك توسيع عملية صنع السلام وبناء السلام في اليمن من العملية التي ظلَّت ضيقة حتى الآن، التي تركز على المفاوضات الرسمية بين أطراف النزاع، لتشمل بيئة حيوية من العمليات المحلية الرسمية وغير الرسمية بحيث تشمل قطاعاتٍ أكبر من المجتمع وتعالج مصفوفة واسعة من الموضوعات والتحديات. وتشير الدلائل إلى أنه من المرجح أن تؤدي مسارات السلام التي تنشأ محليًّا والمتسمة بكونها مملوكة للسكان المحليين وكونها شاملة -مع الدول المجاورة وأعضاء المجتمع الدولي الذين يلعبون دورًا داعمًا وبنّاء- أن تؤدي إلى نتائج مستدامة. ومثل هذه البيئة الحيوية يمكن أن تساعد في تحسين الاتصال والتكامل بين مختلف المبادرات والعمليات الجارية في الوقت الراهن، وأن تسهم في ضمان توجيه المهارات والإنجازات المكتسبة محليًّا لتكون رافدًا رئيسيًّا في إثراء الجهود في أماكن مختلفة من البلاد، وإن من شأن بيئة من هذا النوع أن تجعل مفهومي «صنع السلام وبناء السلام في اليمن» أكثر شمولية واستيعابية، وأن تكون، تأسيسًا على ما سبق، بمثابة فضاء مفهومي توفيقي تجتمع فيه العناصر المختلفة لتعريف «بناء السلام في اليمن» الذي ظل، كما يبدو، متنازعًا عليه بين الفرقاء في البلاد.
•بعض الاحتمالات لإعادة التفكير في عملية السلام في اليمن
هناك العديد من الطرق الممكنة لإرساء عملية سلام أكثر مرونة وتشاركية ونابعة من الداخل ومملوكة محليًّا. يمكن أن يساعد إنشاء شبكة من المشاركين عبر مسارات صنع السلام وبناء السلام في بناء علاقات بين المشاركين في المسارين الثاني والثالث، وأطراف النزاع في المسار الأول، مع التخفيف أيضًا من تحديات التواصل بين المسارات. كما يمكن أن يسهل هذا أيضًا الإمكانيات لمبادرات المسار الثاني للإعلام والتفاعل (بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر) في المسار الأول أو العمليات ذات الصلة. ويمكن تمكين الفضاءات غير الرسمية والرسمية للتبادل والمناقشة وحل المشكلات بين الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، ودمج النتائج في العملية التي تقودها الأمم المتحدة للمساعدة في تشكيل الخيارات والإستراتيجيات والإجراءات. كما يمكن أن يساعد العمل مع المجموعات الوطنية والمحلية القائمة من الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، بما في ذلك أولئك المشاركون في جهود الوساطة، في رسم الخرائط والتفكير في طرق متابعة النقل والتكامل بين مختلف آليات صنع السلام وبناء السلام القائمة في اليمن التي تستهدف مكتب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ومجموعة أوسع من المعنيين، كأطراف النزاع والجهات الفاعلة الإقليمية، بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشرٍ.
ويمكن أيضًا تعزيز المشاركة في عملية المسار الأول من خلال ضمان المشاركة المستدامة والهادفة للوسطاء المحليين والنساء ومنظمات المجتمع المدني، بدلًا من المشاركة المرتجلة والرمزية. ويمكن أن تحدث المشاركة خلال الاجتماعات التي تُعقَد تحت رعاية الأمم المتحدة، كاجتماع التنسيق العسكري، ولجنة قوات الأمن المحلية، ولجنة الرواتب. وقد يشمل ذلك أيضًا توسيع نطاق الاجتماعات الإقليمية التي يجريها مكتب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لليمن، لتشمل الفئات المهمشة تقليديًّا، ويمكن أن يساعد كل هذا على تعزيز الإدماج في جهود صنع السلام وتوليد المزيد من التأييد لعملية السلام.
•تعظيم دور الوساطة المحلية ومبادرات حلِّ النزاعات لكسر الجمود في عملية السلام
يمكن أن توفر المبادرات المحلية نقاطَ دخولٍ واعدة لاتخاذ إجراءات فورية من خلال تركيز التدخلات على مستوى المجتمع المحلي وعلى الجهات الفاعلة التي يمكن للمجتمع المدني والنساء من بناة السلام الوصول إليها بالفعل، أو يمكنهم السعي للوصول إليها بسهولة أكبر من الجهات الفاعلة الإقليمية أو الدولية. إن الحفاظ على المبادرات الموجودة مسبقًا وتقويتها وتطويرها -من بناء السلام التقليدي إلى المزيد من الجهود غير التقليدية، ويشمل ذلك الحركات الجماهيرية والحملات والحوارات والوساطة المحلية- يمكن أن يساعد في كسر الجمود في عملية السلام وإثرائها. وبإمكان هذا النهج أن يعتمد على التعلُّم من عمل المقاربات والمبادرات التي تركز على المجتمع وعلى تعظيم دوره ابتداء من القاعدة حتى الوصول إلى القمة، كما هو الحال في تعز حيث لعب أعضاء المجتمع المدني دورًا رئيسيًّا في المفاوضات المتعلقة بتسهيل حركة الأشخاص. ويمكن أن يساعد ذلك في ترسيخ العمل الحالي والبناء عليه، وتوليد المزيد من الزخم ونقاط الدخول للمجتمع المدني على المستوى المحلي وبناء السلام الذي تضطلع به النساء، وبدعم تلك الجهود سيكون ممكنًا إحداث التأثير في المستويين الوطني والإقليمي، وسيكون من شأن ذلك الاسهام في توليد الوعي العام بهذا العمل، وحشد الزخم المطلوب لتنشيط عملية السلام والتغلب على الجمود، ولا بد من أن يقرن ذلك بجهود موازية تستهدف التعبئة المحلية الجماهيرية من أجل السلام بما من شأنه الضغط على الجهات الفاعلة في الصراع حتى تجنح للتفاوض.
وسيكون من لوازم هذا الأمر تحديد مجموعات من الجهات الفاعلة المحلية الممثِّلة لجميع المناطق في اليمن، وتوفير أماكن محلية للحوار حيث يمكن لمكتب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن العمل مع الجهات الفاعلة المسلَّحة والمدنية من أجل تعزيز الحوار وبناء الثقة بمرور الوقت وتوسيع نطاق هذه الجهود على المستوى الوطني. كما يمكن أن تكون الخطوة التالية هي إنشاء شراكة مع الجهات الفاعلة المحلية من خلال إنشاء إطار للرصد والتقييم مهمته دراسة وتقييم ودعم الإنجازات المحلية واستنباط الاستراتيجيات الفعالة للوساطة الشاملة ابتداء بالمستوى المحلي وانتهاء بالمستوى الوطني. وعلى سبيل المثال، فإن ذلك يمكن أن يأخذ شكل إنشاء لجان وساطة محلية يكون من مهامها وضع مؤشراتٍ محلية بخصوص السلام لكل محافظة بالشراكة مع المجتمع المدني اليمني والنساء من بناة السلام. كما يمكن أن يشمل كذلك البناء على مبادرات وقف إطلاق النار المحلية لتوليد الزخم لعملية وقف إطلاق النار على مستوى الدولة، التي يمكن أن تكون أيضًا بمنزلة موقع مباشر للمجتمع المدني وجهود المرأة في بناء التحالفات والمناصرة، وتمهيد الطريق أمام المجتمع المدني الرسمي الأوسع والمبادرات التي تقودها النساء. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يوفر دعم جهود النساء من بناة السلام على المستوى المحلي مساحة للقيادات النسائية تمكنهن من أن تكون سيرهن الذاتية حافلة بسجلات الإنجازات، وفي ذلك ما يعزز الاحترام المجتمعي لعملهن، وهو ما من شأنه أن يخلق مجموعة من القيادات النسائية البارزة في المستقبل.
•تحقيق وقف إطلاق نار مستدام يراعي مقتضيات النوع الاجتماعي (على المستويين المحلي والوطني)
يمكن أن يساعد إشراك المجتمع على نطاق أوسع ضمن مفاوضات واتفاقيات وقف إطلاق النار في إضفاء الشرعية على وقف إطلاق النار، الذي بدوره يمكن أن يدعم تنفيذها.14 كما يمكن أن تساعد الإشارة إلى التجارب والحقوق والمطالب المختلفة للنساء والرجال في إطار وقف إطلاق النار واستيعابها في معالجة الأبعاد الجنسانية للنزاع على نحو سريع الاستجابة. إن إشراك النساء بشكلٍ هادفٍ في تطوير اتفاقيات وقف إطلاق النار من شأنه أن يحميهن ويجعل تجاربهن وخبراتهن مسخرة لخدمة الصالح العام. ومع أن عمليات السلام لا تتبع مسارًا خطيًّا، فإن وقف إطلاق النار غالبًا ما يكون من المستلزمات القبلية لمفاوضات تتسم بالشمولية والاستيعابية. ووفقا لهذا النمط، فإن من شأن وجود مفاوضات واتفاقيات لوقف إطلاق النار تكون متسمة بالاستيعابية لمختلف الأطراف ومستجيبة لمقتضيات النوع الاجتماعي أن تساعد على تمهيد الطريق لمفاوضات وتسويات سلام شاملة.
هناك سلسلة من الإستراتيجيات المحتملة التي يمكن أن تساعد على ضمان عمليات مفاوضات شاملة لوقف إطلاق النار ونتائج شاملة ومراعية للمنظور الجنساني. وتشمل هذه دعم المجتمع المدني -وخاصة النساء من بناة السلام- لوضع إستراتيجيات جماعية من أجل الاضطلاع بعمليات ضغط ومناصرة محددة الغايات وتستهدف أطراف النزاع والجهات الفاعلة الإقليمية والدولية، وإنشاء و/أو دعم قنوات الاتصال بين مبادرات السلام الرسمية ومبادرات المجتمع المدني (مبادرات المسارين الثاني والثالث) والفضاءات الاجتماعية المختلفة؛ وذلك من أجل ضمان دمج الاحتياجات والمطالب والتجارب والخبرات على مستوى القاعدة المجتمعية في مفاوضات وقف إطلاق النار، ولا بد أن تتوخى هذه العمليات ضمان أن تضم فرق الوساطة خبيرًا في النوع الاجتماعي، وضمان مشاركة النساء بنسبة 50 في المائة في فرق الوساطة وفي الجماعات المتفاوضة في أثناء محادثات وقف إطلاق النار، وقد يكون ذلك من خلال استخدام نظام الحصة على سبيل المثال، وعند الحديث عن «مفهوم العنف» في إطار أي مفاوضات مستقبلية لوقف إطلاق النار، أو في نطاق أي اتفاق لوقف إطلاق النار في المستقبل، فإنه لا بد من أن يكون هذا المفهوم متضمنًا ضمن عناصره المتعددة مفهوم «العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي»، وأن تؤخذ في الاعتبار الآثار المختلفة للعنف على النساء والرجال، وضمان مشاركة المجتمع المدني والمرأة في مراقبة أي اتفاق لوقف إطلاق النار في المستقبل، مع جمع بيانات مصنَّفة حسب النوع الاجتماعي من خلال آليات المراقبة، والتقارير العامة المنتظمة، وتشكيل هيئة أو لجنة معنيَّة بالنوع الاجتماعي لمراقبة عملية مفاوضات وقف إطلاق النار وتقديم المشورة للأطراف المتفاوضة. ويمكن دمج مثل هذه الهيئة أو اللجنة في هيئة آليات قائمة بالفعل، مثل اجتماع التنسيق العسكري. كما يمكن أيضًا عند الضرورة تقديم الخبرة المتعلقة بالنوع الاجتماعي لدى أعضاء الأطراف المتفاوضة، بما في ذلك تدريب الأطراف المتفاوضة وفرق الوساطة (النساء والرجال على حدٍّ سواء) في الجوانب الجنسانية المتعلقة بوقف إطلاق النار.
•دعم النساء بناة السلام في جهود صنع السلام
يمكن لخيارات المساعدة في التخفيف، ومحاولات التفادي، وحتى التغلب على العوائق التي تحول دون إشراك النساء من بناة السلام في جهود صنع السلام وبناء السلام في اليمن، أن تبني على إرث ثورة 2011 ومؤتمر الحوار الوطني، فضلًا عن المنظمات والشبكات النسوية القوية في أنحاء مختلفة من البلاد وفي الشتات. كما يمكن تقديم الدعم لبناء التحالفات بين منظمات وشبكات بناء السلام التي تقودها النساء في اليمن وبين الأفراد من النساء من بناة السلام. ويمكن أن يشمل ذلك إنشاء شبكة وطنية موحدة للمرأة أو آلية للتنسيق بين الشبكات والمبادرات القائمة، التي تهدف إلى تجنب المنافسة، وتحسين التواصل، وبناء واستدامة التحالفات والشراكات بين المجموعات النسائية التي لا حصر لها في اليمن. ويمكن أن يكون هدف الشبكة هو التركيز على ضمان الاتساق وخلق استراتيجيات التنسيق، ووضع أجندة مشتركة وشاملة ومراعية للنوع الاجتماعي يمكن استخدامها كوسيلة ضغط لإنشاء مداخل جديدة لعملية السلام وضمان الدعم العام. ويجب أن تهتم جهود بناء التحالف أو التنسيق على وجه الخصوص بضمان مشاركة النساء «العاديات» في صنع السلام/بناء السلام، وليس فقط النخب المناطقية/السياسية/الاجتماعية.15
كما يمكن أن تشمل الخيارات الأخرى ما يلي: عقد مجموعة عمل مع المنظمات الدولية ذات الصلة والشركاء لتنسيق الجهود الدولية بشأن مشاركة المرأة في اليمن، وتوفير التمويل اللازم لحماية النساء اليمنيات من بناة السلام، ووضع مدونات سلوك لحماية مشاركة المرأة في عملية السلام عبر المسارات، وإنشاء شبكة كثيفة من المساعدة المتبادلة والتضامن بين النساء من بناة السلام داخل حدود الدولة وعبرها، والعمل مع الفاعلين الدينيين المعتدلين لمواجهة خطاب الكراهية الديني والتشهير بالنساء من بناة السلام، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للنساء من بناة السلام. كما يمكن أيضًا تطبيق هذه الاقتراحات على العمل لدعم وسطاء المجتمع المدني وبناة السلام المحليين على نطاقٍ أوسع.
الحاجة إلى مصادر الإلهام والدعم، وإلى مساحة للتفكير للوصول إلى حوارٍ يمني يمني هادفٍ
بالنظر إلى الوضع الحالي لعملية السلام اليمنية، فإنه يبدو أن الوقت قد حان لتحقيق المطلب الواضح لتجاوز العمليات الحالية المعتمدة على النخبة لبناء السلام من مستوى قاعدة المجتمع إلى أعلاه، والتعلم من المبادرات الحالية والسابقة والبناء عليها لمعالجة الأولويات العاجلة في اليمن -و يتضمن ذلك التفاوض على وقف إطلاق النار على المستوى المحلي بغية إيقاف العنف وتسهيل الاستجابة الإنسانية- وهو ما يمكن أن يمهد الطريق لوقف إطلاق النار الشامل ونزع السلاح على نطاقٍ واسعٍ وبدء حوار يمني يمني.
وليس هناك ما يضمن أن عملية سلام تتسم بالشمولية والاستيعابية لمختلف الفاعلين يمكن أن تؤدي تلقائيًّا إلى نتائج أكثر شمولًا -إذ إنه لا يوجد تقدُّمٌ خطي متأصل من عملية التفاوض الشاملة إلى إدراج شروط بالشمولية في اتفاقية، إلى هيئات تنفيذ شاملة تؤدي إلى وضع دستورٍ شاملٍ من شأنه تنفيذ الحوكمة المتسمة بالاستيعابية والشمول والتنمية على جميع المستويات. ومع ذلك، فإن الأدلة المقارنة تشير إلى أن العمليات الشاملة يمكن -بل ومن المرجح بالفعل- أن تؤدي إلى نتائج أكثر استدامة وشمولية، بما من شأنه أن يمكنها من وضع الأساس لتحول اجتماعي وسياسي أكبر نحو مجتمعات تنعم بالسلام بصورة شاملة.16
وعلى جميع المجتمعات إجراء تقييم جماعي، وإعادة التقييم، للتجديدات وعمليات إعادة الترتيب التي قاموا بها بأنفسهم، والتي سوف يستمرون في القيام بها في مواجهة الأسئلة والتحديات المتعلقة بمجتمعهم وبممارسة السياسة فيه. ويُعَد اليمن نموذجًا ممتازًا لاستمرارية المفاوضات وإعادة التفاوض بخصوص العقد الاجتماعي والسياسي بين المجتمع والدولة خلال فترة زمنية (يمكن وصفها بالطول في بعض المراحل)، وكان لها مصاحبات متعددة ومتناقضة من الفرص، والانتكاسات، والمحفزات، والاحتكاك، والمقاومة التي ظلت تحيط بمسارات السلام. ومن هنا، فإنه لا مفر من ظهور توترات جديدة ومصالح متنافسة؛ ومع ذلك فإن من الخطوات المهمة في الاتجاه الصحيح أن ينظر إلى عمليات التنافس الشاملة بوصفها مكونًا جوهريًّا في عملية بناء السلام، ولا يخفى، أيضًا، ما لها من قيمة لدى مجتمعات مختلفة في جميع أنحاء العالم. وعليه، فإن الفرص ستنشأ دائمًا، حتى في تلك اللحظات من عملية السلام -وأحيانًا بسببها مباشرة- التي يبدو فيها إحراز التقدم أمرًا بعيدًا، و تبدو الاحتمالات في أقتم صورها. في مثل هذه المراحل، فإن من المهم أكثر من أي وقتٍ مضى أن تضطلع الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية بتوفير مسرح فعل ودعمٍ لليمنيين يمكنهم من تقليب التفكير حول عددٍ من الأسئلة الأساسية المتعلقة بعملية السلام، بدلًا من الحلول الجاهزة التي يتم فرضها خارجيًّا: ما الذي يبحث عنه الشعب اليمني، بكل تنوعه؟ وكيف يتصورون دولتهم المستقبلية؟ وما نوع العلاقة التي يريدونها مع جيرانهم في المنطقة؟