يبدأ طه هائل، وهو صاحب دكان صغير للزهور وسط العاصمة اليمنية صنعاء، يومه كلّ صباح في تشذيب أزهار الفلّ وتحويلها إلى عقود بأشكال وأحجام مختلفة، لينطلق بعدها في جولة لتسليم الباعة الجوالين حصصهم من هذه الأزهار لبيعها للمارة في مختلف الأسواق والميادين، لعلهم يحصلون على مبالغ زهيدة تعينهم على قوت يومهم.
يقول هائل لـ"العربي الجديد"، إنه كان يعمل موظفاً في إحدى الدوائر الحكومية قبل توقف الرواتب بسبب تداعيات الحرب، واتجاهه بعد ذلك للعمل في القطاع الخاص، لكن الأجر الذي كان يحصل عليه لا يكفي لتغطية حتى 30% من التكاليف المعيشية لأسرته المكونة من 7 أفراد، فكان العمل في هذه المهنة لتغطية ما أمكن من الاحتياجات المعيشية.
الحال نفسها بالنسبة لفؤاد ناشر، وهو موظف حكومي في مدينة عدن، لا يزيد راتبه على 80 ألف ريال (الدولار في صنعاء نحو 560 ريالاً، وفي عدن نحو 1180 ريالاً) والذي يؤكد لـ"العربي الجديد"، أن هذا الوضع اضطره لتعلم مهنة الخياطة، والدفع بثلاثة من أولاده للعمل في إحدى الورش الميكانيكية.
هكذا يخوض اليمنيون في جميع مناطق البلاد الخاضعة لسلطات متعددة غمار حياة يومية شاقة نتيجة تردي الأوضاع المعيشية واتساع الفجوة بين الأسعار والأجور والتكلفة العالية لانهيار واضطراب العملة المحلية والتي لم يعد باستطاعة الكثير من المواطنين تحملها.
وصل اليمن إلى مرحلة صعبة من تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية بشكل غير مسبوق بفعل تكالب تبعات مجموعة من الأزمات لا تتوقف عند حدود الحرب والصراع، بل اضيفت إليها مؤخراً تداعيات جائحة كورونا والحرب الروسية في أوكرانيا والتي تسببت في ارتفاعات كبيرة في فاتورتي استيراد الغذاء والوقود مع انعدام الموارد لتأمين الحد الأدنى والضروري منها، وتهدد بحدوث أسوأ كارثة إنسانية على وجه الأرض، وفق الأمم المتحدة.
وتتسع الفجوة بين أسعار الغذاء والأجور الشحيحة، إذ يتطلب ردم هذه الفجوة زيادة الأجور بمعدل خمسة أضعاف في مناطق الحوثيين ونحو ثلاثة أضعاف في مناطق الحكومة اليمنية، وفق تقارير بحثية، لضمان قدرة العامل اليمني العادي على مواكبة ارتفاع الأسعار.
اقتصاد عربي
يؤكد أستاذ الاقتصاد في جامعة تعز محمد قحطان، لـ"العربي الجديد" أنّ انهيار العملة المحلية واستمرار اضطرابها وعدم فاعلية جهود احتوائها، أدى إلى تضاعف تبعاتها بشكل كبير مؤخراً، ولا سيما مع انضمام أزمات أخرى خارجية إلى الأزمات الداخلية.
يقول قحطان إنّه في ظل تغول أزمة السيولة وتضاؤل الدخل لنسبة كبيرة من اليمنيين وفرص العمل المجدية، هوت القدرة الشرائية للكثيرين، ما انعكس على الوضع المعيشي لملايين الأسر.
وأدت زيادة تكلفة المعيشة وتراجع القوة الشرائية وتقلص فرص العمل، إلى البحث عن أي مصادر متاحة للدخل في المهن والأعمال والتي يعتبر بعضها شاقا لمن لم يعتد عليها. ومع ارتفاع البطالة إلى أكثر من 50%، صار اليمنيون الذين لديهم وظائف يتحملون مصاريف أقاربهم الأقل حظًا بشكل متزايد، في ظل تزايد تبعات الصراع على قطاع الأعمال وانقطاع رواتب القطاع العام مع تغيير طبيعة سوق العمل.
في المقابل، فقد اليمنيون الثقة في الريال وأصبحت غالبيتهم غير قادرة على تحمل التكلفة العالية لانهيار العملة واضطرابها المستمر ومن أجل البقاء. بدأ السكان بتلقي المساعدات المالية والعينية من المجتمع الدولي وأفراد عائلاتهم في المهجر، من دون أن تلوح نهاية لهذه الأزمة في الأفق.
يعتبر المحلل الاقتصادي عبد الحميد فضل، في حديث لـ"العربي الجديد" أنّ انهيار العملة المحلية واضطرابها المتواصل هو السبب الرئيسي في أزمة الغذاء الحاصلة في البلاد وتوسع الفجوة بين الأسعار والأجور مثل الرواتب الحكومية التي لم يطرأ عليها أي تغيير منذ عام 2015، على الرغم من كل هذه المتغيرات الحاصلة، في حين يختلف نظام العمل في القطاع الخاص والذي انخفضت قدراته على توليد فرص العمل أو منح أجور مناسبة إلا لنوع محدد من الوظائف التي تتطلب عمالة ماهرة.
كما أنّ الاعتماد المفرط على الواردات من الأسباب التي ساهمت في زيادة أسعار المواد الغذائية، إذ يعتمد اليمن على استيراد احتياجاته من السلع الغذائية الأساسية بنسبة 90%.
بدوره، يقول الباحث الاجتماعي محسن سيف، إنّ الأزمات الاقتصادية المتزايدة دفعت بالكثيرين إلى البحث عن الفرص المتاحة للبقاء والصمود في وجه هذه الأزمات، فكانت المهن والأعمال الحرفية أهم خيار متاح لليمنيين لمواجهة شظف العيش.